الفصل الفصل الثالث

3039 Words
وقف هاشم مخطوف الأنفاس مما يرى، يقسم أن عشقها الذي غزاه فجأة سيذهب بعقله وأنه معها سيطأ أخطر دروب الجنون، من يراه الآن وهو يحاول كبت ضحكته لا يرى جرحه الغائر الذي ينزف بغزارة، ماذا فعلت هذه الصغيرة بملابسه؟ لقد وضعتهم في أرض الخزانة بترتيب لتحصل على سرير صغير وفتحت معطفه الشتوي الطويل ونامت بداخله برغم كل ما حدث في الخارج من أصوات وصراخ... لقد دارت بداخله حرب في كل لحظة كان يتخيلها داخل الخزانة المظلمة تبكي مرعوبة من الأصوات، كان يشعر أن قلبه سيتوقف قلقا عليها لقد أصابته هذه الرصاصة بسببها فعندما وصل رأفت ورجاله استغل فرصة التشتت التي أصابت راضي ورجاله ليطمئن عليها ولكن جاءته الرصاصة من حيث لا يحتسب، نظر إليها بوله يزيد كل لحظة فهما متزوجان منذ ساعات وهام بها على عشقه عشقا، هل سيتحمل قلبه كل هذا الحب وكل هذه السعادة؟ ماذا سيحدث الآن لو انضم لها داخل الخزانة وترك العالم يحترق؟ ….. يشعر أنها لو لمست جرحه لبرأ كأنه لم يكن، أسند ظهره لباب الخزانة وظل ينزلق ببطء حتى جلس على الأرض مقابلا لها والألم يفتك به لكنه محارب شرس معتاد على الآلام فآخر ما يفكر به حاليا هو وجعه، مد يده السليمة ليمسك بيدها الصغيرة جدا بجوار يده الضخمة لتتوقف يده قبل أن تلمسها وقد وجدها غارقة بالدماء، بحث بعينيه أن أي شيء ينظف به يده ولكنه لم يجد سوى قميص أبيض له يبدو أنه الوحيد الذي مازال معلقا فشده إليه بشدة وبدأ بتنظيف يده إلى أن وصل لنتيجة مرضيه قليلا ثم مد يده وأمسك بيدها بشده كأنه يستمد منها القوة لمحاربة ألمه القاتل، فتحت عينيها وهي تشعر بكفها يُعتصر فوجدته جالسا على الأرض مستندا على الخزانة وملابسه غارقة بالدماء فنهضت فَزِعَةَ من المنظر وحاولت سحب يدها منه لكنه أبى أن يتركها وكأنه يعلن ملكيته لها ويفصح عن روحه التي تعلقت بها، فحاولت التحرك ولكن المعطف أعاق حركتها فتخلصت منه وتقدمت تجلس بجانبه وهي تبكي وتنظر إليه نظرة قتلته من الوريد إلى الوريد وهي تقول "عمي هاشم ماذا حدث؟ أأنت بخير؟ هل أهاتف والدي أم الإسعاف قل لي ماذا أفعل؟" نظر اليها هاشم باحتياج طغى على كل شعور آخر وقال بصعوبة "اقتربي مني أسمهان، داوي بقربك روحي وجروحي اقتربي ولا تقلقي فوالدك في الخارج وسيكون كل شيء على ما يرام" اقتربت منه لا تعلم ماذا تفعل أو كيف تتعامل مع وضعها الجديد لديه ...تعلم أنها الآن زوجته لكنها لا تفهم ماذا يعني هذا فكل ما تدركه الآن هو أن عليها طاعة زوجها كما تفعل والدتها، اقتربت منه لتضع رأسها على ص*ره وتربت عليه بمواساة وظلت هكذا لدقيقة قبل أن تلتفت له بلهفه تسأله "عمي هاشم من فعل بك هكذا؟ هل كان رجلا أضخم منك؟ كنت أظن أنك أضخم رجل رأيته ولا يمكن هزيمتك أبدا ولكن يبدو أني كنت مخطئة" نظر لها رغم تعبه بغيرة لم يستطع السيطرة عليهما قائلا لها بصوت خافت غاضب "قبل أن تفكري في رجال غيري فكري في اختبارك الذي لم يتبقَ له سوى ساعات وعليك أن تأكلي شيئا لأنك لم تفعلي منذ البارحة، سآخذك إلى المدرسة وأنتظرك حتى تنتهي لنرحل" مدت يدها لتمسك القميص الملقى بجواره والمليء بالدم وكتمت به جرحه النازف وضغطت عليه لتمنع تدفق الدماء وهي تسأله "سنعود إلى المنزل، لقد اشتقت لوالدتي إنها المرة الأولى التي أنام بها خارج المنزل" إنها اللحظة التي كان يخافها، هل سيخبرها أن هذه آخر ليلة لها في هذا الوطن؟ إنهما راحلان بلا عودة وإنه سيهرب بها إلى أقصى الأرض خوفا عليها؟ هل ستتفهم كل هذا؟ هل ستكون بالقوة التي يريدها؟...قال لها بهدوء كأنهما انعزلا عن كل ما يدور حولهما "أسمهان أنت الآن زوجتي ومكانك بجواري وأنا سأرحل اليوم عن الوطن وأنت معي وستظلين معي ولا مجال للنقاش" بدأت ترتجف واشتد بكاؤها لتقول بصوت مهزوز "عمي أنا لا أريد ……." قاطعها واضعا كفه على شفتيها وهو ينظر لها نظره تخبرها بكل ما يجيش في ص*ره من مشاعر حب وخوف وبرغم الألم الساكن حنايا روحه وجسده مد ذراعه المصابة ليقربها إليه والأخرى غاصت في شعرها البندقي لتمنعها من الابتعاد، ما الذي لا تريده وهي كل ما يريد و لن يقدر على فراقها أبدا، بدأ يشعر بها تتململ بين يديه وكأنه كان في حلم وبدأ بالاستيقاظ منه ليجدها منهارة من البكاء وهو يحبسها فلا تستطيع الفكاك بدأ بتحريك يديه ببطء بعيدا عنها ينظر لها بعجز لأول مرة يشعر به، وكأنها كانت تنتظر الخلاص فانسلت من بين يديه بسرعة أوجعته فوق وجعه، ظل يراقبها ب**ت وهي تتحرك بعصبية وتتمتم بكلمات لم يتبينها تبكي وتمسح دموعها بأكمامها كالأطفال تبعثره وتجمعه لتبعثره من جديد، اتجهت إلى حجابها وقامت بلفه كما اتفق معها ثم لبست حذاءها وجلست على طرف السرير تنتظر والدها طالما هو بالخارج سترحل معه، وهو يراقبها تتحرك ب**ت يقتله. منذ نصف ساعة وهو يقف مع رجال الشرطة لا يجد حلا للدوامة التي أدخلهم راضي بها، لقد قُتل اثنان من رجاله ترملت زوجتاهما وتيتم أبناؤهما بحق الله إلى أين سيذهب به سواد قلبه، لقد أقنع الشرطة أن ما حدث كان دفاعا عن النفس ضد اعتداء من مجهول، اتصل بمحاميه ليأتي إليه، لم يستطع إفشاء أمر راضي للشرطة لأن أمور العائلة تحل داخل العائلة ولا سبيل لغير ذلك ...كل ما يريده الآن أن يبعد هاشم وابنته عن كل هذا ليتفرغ للعائلة ولما سيحدث من نزاعات وأحكام جائرة يتخذونها ضده هو وصاحبه ….. قامت الشرطة بنقل الجثث وأخذ الب**ات وأقوال الجيران وتم القبض على رجال رأفت للتحقيق معهم لكنه لم يستطع انتظار انتهاء كل هذا وبعد محاولات استطاع محامي رأفت إقناع الضابط المسؤول بترك رأفت حتى الصباح لأن ابنته في الداخل وزوجها مصاب وعليهم نقله إلى المشفى على وجه السرعة، وصلت سيارة الإسعاف الخاصة بمستشفى الطبيب جعفر العزايزي والتي طلبها رأفت من جعفر وطلب منه تأمين السرية التامة لدخول هاشم المستشفى وبدون إبداء أسباب، اتجه رأفت إلى غرفة النوم وطرق الباب مرتين ثم فتحه فوجد ابنته تجلس على طرف السرير تكاد تنفطر من البكاء وهاشم يجلس على الأرض ويبدو أنه نزف الكثير من الدماء يضغط على جرحه بأحد قمصانه وعيناه لا تفارقان الجالسة أمامه والتي حين رأت والدها أسرعت لتندس في أحضانه …. مرت نصف ساعة وهي لا تستطيع التوقف عن البكاء تسمع أصواتا كثيرة في الخارج ولا تجرؤ على التحرك وما يطمئنها قليلا صوت والدها الذي تسمعه بين الفنية والأخرى، رفعت وجهها عندما سمعت باب الغرفة يُفتح لترى والدها يقف أمامها ويفتح لها ذراعيه لتجري إليه وهي تشعر أنها تنتظره منذ زمن وضعت رأسها على ص*ره وهي تبكي وتشكي له كل ما حدث بشهقات متلاحقة لم يتبين منها سوى كلمات قليلة "لماذا ……. أمي لا…… خذني معك ……. أصبح غريبا ….. أبي" حاول رأفت أن يهدئها فربت على رأسها قائلا "اهدئي يا قلب والدك، اذهبي واغسلي وجهك وهيا بنا لنذهب من هنا" انتفض الاثنان على صوت هاشم الغاضب "إلى أين ستأخذها يا رأفت؟ …. هل أتيت أنت أيضا لتأخذ مني زوجتي؟ هي لن تتحرك إلى أي مكان بدوني، أحضر لي سيارة مع سائق وأحضر لها شيئا تأكله فهي لم تأكل شيئا منذ البارحة" ثم نظر اليها بغضب "وأنت عليك أن تأكلي شيئا ثم تبدئي بمراجعة مادة الاختبار لأنه لم يتبقَ له سوى ساعات وتوقفي عن البكاء" نظر له رأفت بتعجب "أي اختبار هذا الذي تتحدث عنه؟ ألا تشعر بورطتنا؟ الوقت ليس لصالحنا يا هاشم، نحن سنذهب لجعفر في المستشفى من أجلك ثم نتوجه إلى المطار ومنال ستقابلنا هي والأولاد هناك لتوديع أسمهان" تكلم هاشم وعيناه لم تتحركا عنها ومنظرها وهي تندس في أحضانه لا يظهر منها سوى عيناها تشعلان بداخله آتونا من نار غير مفهومة "رأفت أنا لن أضيع عليها تعب سنوات من أجل أي شيء ثم إنني أنوي أن أدخلها الجامعة لذلك أحتاج منها أن تنهي هذا الاختبار، ساعدني لأقف" ساعده رأفت ليقف فأمره هاشم بالخروج وهو سيلحقه، نظر إليه رأفت بعصبية وانصرف يسبقه إلى سيارة الإسعاف فهو لن يتحرك بسيارته بعد الآن، نظرت إلى والدها وهو يتحرك خارجا من الغرفة بعد أن قال لها إنه ينتظرها في الأسفل ثم سمعت صوت الواقف خلفها ينادي عليها ولكن بماذا ناداها! التفتت تتمعن بملامحه التي زاد شحوبها فناداها ثانية فاقتربت منه ببطء فهمس لها "أسمهاني اقتربي أريد أن أستند عليك فأنت صرت عكازي في هذه الحياة وأنا صرت ظهرك فلا تشكي همك لغيري أبدا ولا تبكي على ص*ر غيري وتماسكي أعلم أني ثقيل" اقتربت منه ببطء فرفع ذراعه السليمة لها فدخلت تحت ذراعه ووضعت يدها حول خصره وهي تزم شفتيها كدليل على غضبها فمال بوجهه حتى لمست ذقنه وجنتها فقالت بخجل واختناق "عمي هاااااشم" ضحك هاشم بتأوه ووعيه يتلاشى تدريجيا حتى قارب على فقده فمال بجسده عليها، رفعت وجهها تنظر إليه فقد ازداد ثقله لتجد عينيه تبدآن بالانغلاق فصرخت بجزع وبأعلى صوتها ولأول مرة في عمرها "هااااااااشم" يقف أمام النافذة شاردا سارحا بأفكاره فيما يحدث، لماذا اتصل به رأفت ليؤكد على سرية دخول هاشم إلى المستشفى؟ ولماذا لا يريد للعائلة أن تعلم أنه مصاب بطلق ناري؟ هناك ما يحدث ويجب أن يعلمه، لا يريد أن يتورط في مشاكل مع العائلة فليس باستطاعته الوقوف أمام رشيد العزايزي الذي منذ أن أصبح كبير العائلة وهو يقودها بيد من حديد وأحكامه وعقوباته شديدة جدا والكل يتحاشى غضبه، ألا يكفيه زوجته التي جعلته يمشي بنصف عقل و*دا سيمشي بدونه ويصبح مجنون ؟ رن هاتف مكتبه فعاد بملل يجلس على كرسي المكتب ويجيب برزانة "الدكتور جعفر العزايزي يتحدث، من معي؟" رد الصوت الطفولي من الجهة الأخرى "معك عبد الرحمن جعفر العزايزي ابنك الذي يريد أن ينتحر من العار الذي سببته لي والدتي، هل بإمكاني أن أسألك كيف علم مدرس اللغة العربية لدي أن عينيّ أمي زرقاوتان واسعتان وشعرها ذهبي طويل؟ أنا لن أذهب إلى المدرسة ثانية، جد لي حلا في هذه الفضيحة" شعر بالدم يغلي في عروقه فخبط على طرف المكتب بشدة وهو يقف ويقول "ماذا؟؟؟؟ مدرسك قال هذا؟ ما اسمه؟ بل ما شكله؟ لالا بل ما سنه؟ أتعرف عنوانه؟ انطق، وهل وقفت تشاهده وهو يتغزل بزوجتي؟ لماذا لم تضع قلمك في عينه؟ وأين هي والدتك التي تعترض على لبس النقاب لتشاهد؟" جاءه صوتها الناعم تقول "أنا هنا يا زوجي العزيز، لماذا تسأل عني؟" كان على وشك أن يستسلم لدلالها لكنه تراجع في آخر لحظة قائلا لها بصوت غاضب"أترين ما حدث لابنك بسببك وبسبب عينيك؟ كم مرة قلت لك إن عليك ارتداء النقاب وإخفاء عينيك؟ لكن لا... يبدو أن هذا الوضع يعجبك وأنت تتلقين عبارات الغزل من هنا وهناك وأنا أظل هنا أفكر طوال اليوم فيمن حدثك ومن نظر إليك ومن غازلك ولكن إلى هنا وكفى ستلبسين النقاب وقدمك فوق رأسك" ردت عليه بصوت جاف تقول له "هل انتهيت؟ أنت محق إلى هنا وكفى، لقد ظللت لساعة أوضح لابنك أنه كان مدرسي ويعرفني جيدا وأنه في حكم والدي ولكنه أصر على أن يحدثك فتركته يفعل وظننت أن والده العاقل سيوضح له الأمور ولكني كنت مخطئة، سأترك لك المنزل أنت وابنك لكي لا تراني ولا ترى عينيّ إلى هنا وكفى فعلا" ثم تركت السماعة وذهبت إلى غرفتها وتركته ينادي عليها إلى أن أجاب عليه عبد الرحمن فسأله بصراخ أشبه للجنون "أين ذهبت؟" أجابه ابنه بحنق "ذهبت إلى الغرفة لتجمع ملابسها ويبدو أنها سترحل فعلا، هل ستتركها تخرج هكذا دون نقاب أو محرم، صراحةً هذا تسيب" صرخ به جعفر "اذهب بسرعة وأغلق عليها باب الغرفة بالمفتاح ولا تدعها تخرج وإلا سأعلقك بالسقف لأسبوع كامل ودون طعام، أتفهم؟"أنهى جعفر المكالمة بغضب وهو يفكر هل كان يجب أن يتمادى معها…. هل كان عليه أن يقسو عليها ….. كيف يراضيها الآن وهو يعلم جيدا أنه لا يستطيع النوم بعيدا عنها فهي ع**دة ولن تمرر ما حدث، قاطع أفكاره دخول الطبيب الذي ألزمه باستقبال الحالة القادمة يخبره أن هاشم وصل وتبدو حالته خطيرة، خرج وراءه مسرعا وهو يفكر أنه مؤكد سيراضيها ثم يقنعها بارتداء النقاب فلا تراجع في هذا القرار . وصل رأفت إلى المستشفى ودخل وأسمهان وهاشم الفاقد لوعيه من الباب الخلفي إلى مبنى جانبي غير المبنى الرئيسي المخصص للطوارئ فوجد جعفر قد أعد كل شيء وفريق كامل من الأطباء ينتظرونهم، لحظات وحضر جعفر وبدأ في فحص الجرح وأمر طاقم التمريض بتجهيز غرفة العمليات لأن الأمر يستدعي الجراحة على وجه السرعة وإحضار أكياس دم لتعويض الدم الذي فقده هاشم، اقترب رأفت من جعفر وقال بتوتر "جعفر أرجوك قل لي إن هاشم بخير" نظر له جعفر بشك وقال له بعملية بحتة كطبيب يشخص حالة مريض لديه "رأفت بعد الفحص يبدو أن الإصابة سطحية، المشكلة في كمية الدم التي نزفها وبجراحة بسيطة سيكون بخير لا تقلق" ثم استأنف حديثه قائلا "رأفت أظن أنه من حقي أن أعلم ماذا يحدث هنا أنا لا أريد التورط في مشاكل ….ثم ما الذي تفعله ابنتك هنا؟" رد عليه رأفت وقد تيقن أنه فات أوان إخفاء الأمر "لقد زوّجت أسمهان لهاشم" نظر له جعفر بصدمة وكأن الذي يقف أمامه إنسان فقد عقله لكن ملامح رأفت التي لم تتبدل بل ظلت ثابتة جعلته يعلم أنه تورط في مشاكل لن تنتهي ومع رشيد العزايزي مباشرة... دخل راضي مجلس البيت الكبير بعد أن أوصل عزيز إلى المنزل وأوصى بإحضار الطبيب له وأكد على عدم خروجه، كان أذان الفجر يدوي في الأنحاء والجميع ذاهب للمسجد للصلاة وقد علم راضي أن هذا أنسب وقت لتنفيذ ما يريده فبالتأكيد الجميع ذاهبون لصلاة الفجر لأنها الصلاة الوحيدة التي يقف بها الشيخ رشيد العزايزي إماما …..بعث أحد رجاله ينتظر خروج الشيخ من المسجد ويبلغه برسالة فحواها أن يأتي برجال العائلة إلى مضيفة البيت الكبير لأن راضي لديه أمر بالغ الأهمية يريد أن يتحدث به ويجب أن يكون الجميع حاضرا، بعد مرور بعض الوقت دخل الشيخ رشيد ووراءه بعض شيوخ العائلة ليتكلم بصوته الوقور والذي تتخلله بعض الحدة "ماذا يحدث يا راضي وما هو الأمر الذي لم يستطع الانتظار حتى مجلس العائلة القادم لتقوله؟" تقدم راضي من الشيخ رشيد وهو يقول "الأمر الذي لدي لن ينتظر يا شيخ، فرأفت العزايزي زوج ابنته لهاشم العزايزي وخرج عن طوع العائلة ومكاتيبها، وعندما ذهبت لأوقف تلك المهزلة تهجم عليّ رأفت ورجاله وقتلوا ثلاثة من رجالي، أنا تارك ابني الآن ينازع الموت بعد أن أصابته رصاصة غدر منهم وأريد زوجة ابني و أن ترد كرامتي أمام الجميع كما أريد دية رجالي فدمهم لن يضيع" انتهى راضي من كلامه وتعالت الأصوات ما بين مستنكر وغاضب …من يصدق ومن يكذب حتى نطق الشيخ رشيد بصوته الجهوري "سكوت" ساد الهدوء المجلس لينادي الشيخ أحد الحاضرين "رفيق العزايزي" تقدم رفيق من وسط المجلس قائلا "اؤمرني يا شيخ" رد عليه "أريد هاشم ورأفت وابنته الليلة" ثم نظر إليه بغضب وكرر جملته "الليلة يا رفيق" وبدون تعقيب انسحب من المضيفة تاركا وراءه رجال العائلة يض*بون كفا على كف عجبا لما يحدث....... يشعر بجفونه ثقيلة لا يستطع أن يفتح عينيه، يشعر بدوار شديد وألم أشد ليتهادى إلى أذنه صوتها العذب وهي تقرأ القرآن فظل يستمع إليها لا يريد لأي شيء أن يُذهب سحر هذه اللحظة ولا أن يخترق ذلك العالم الهادئ الذي ينعم به بجوارها ... بعد مدة شعر أنه يريد أن ينظر إليها ليكتمل برؤيتها سحره الخاص فحاول فتح جفنيه عدة مرات قبل أن يتمكن ليراها تجلس أمامه تقرأ بخشوع وتبكي ب**ت فحاول أن يتكلم بهمس قائلا "أسمهان " انتبهت لصوته يناديها فتحركت من مكانها ووضعت المصحف جانبا وذهبت إليه لتتكلم ببكاء فلم يتبين من كلامها سوى اسمه فقط "هاشم" ولا يوجد عمي قبلها، فمد يده السليمة ليمسح دموعها وسألها بخفوت "كم الساعة الآن؟" قالت له وهي تحاول أن تهدأ "السادسة صباحا" اعتدل يحاول الوقوف فأطلق آهة ألم دخل على إثرها الغرفة رأفت وجعفر الذي اقترب يقول له "هل جننت؟ إلى أين تريد الذهاب؟ جرحك يلزمه حرص ويلزمك راحة وغذاء فلقد فقدت الكثير من الدماء" تجاهله هاشم تماما ووجه كلامه لرأفت يسأله "متى موعد الطائرة؟ ومتى سيبدأ اختبار أسمهان؟" ثم أشاح بوجهه ونظر لها وواصل حديثه "وهل أكلت شيئا؟" رد عليه رأفت "ما زلت مصرا أيها الع**د، هنا أأمن مكان لكما حتى يحين موعد الطائرة، ونعم لم أترك ابنتي بدون أكل حتى الآن" حاول هاشم الاعتدال فساعده رأفت فيما وقف جعفر يشاهد ب**ت وقد يئس أن يتراجع عما يريده فواصل كلامه قائلا "اختبارها في الثامنة، والطائرة في الثانية ظهرا" تحامل على ألمه يتنفس بصعوبة مكملا "أحضر لنا الإفطار يا رأفت فأنا جائع جدا وأمامنا يوم طويل" نظر إليه رأفت بجزع وهو يقول "إلى أين تنوي الذهاب يا هاشم؟" لم يرد عليه بل نظر للواقفة التي تنظر إليهم بارتباك وابتسم لها بحنان، فيما نظر جعفر لما يحدث أمامه بذهول وجزع وقد أيقن أن الجنون أصبح مرضا يتفشى بين رجال العزايزة. لا تعلم كيف مرت الساعات الأخيرة بهذه السرعة ابتداءً بالإفطار الذي أحضره والدها مرورا بالمدرسة واختبارها وعند خروجها فاجأها هاشم بالذهاب لمحل المجوهرات لشراء خاتم زفاف وقد كانت أول مرة تدخل بها محل مجوهرات فدائما ما كانت أمها هي من تشتري لها كل شيء، كانت سعيدة جدا وقد ترك لها حرية الاختيار، كانت مبهورة بما ترى وكلما استعجلها والدها كان هاشم يقول له "دعها تفعل ما تريد" وفي آخر الأمر استقرت على خاتم رقيق شعرت أنه يناسبها فوضعته في إصبعها وتوجهت إلى هاشم قائلة "سآخذ هذا" نظر لها هاشم فوجدها تنظر للخاتم بانبهار والابتسامة تملأ وجهها فانخفضت نظراته إلى الخاتم ليجده رقيقا جدا لا ينكر أن ذوقها راقي ولكن عقله يرى بالخاتم مشكلة…. تحرك والألم يفتك به ولكن ابتسامتها خدرت كل جوارحه فمال عليها يقول "إذن سنأخذه ولكن سنأخذ هذا أيضا" نظرت لما بيده فوجدته يمسك بخاتم آخر غاية بالجمال لكنه ضخم مقارنة بما اقتنته فرفعت رأسها تنظر إليه بنظرات متسائلة ليقترب منها أكثر هامسا "أريد أن يكون الخاتم كبيرا جدا لكي يعلم كل من يراك أنك امرأة متزوجة" هزت رأسها بابتسامة ناعمة ولم ينته الأمر حينها فعندما خرجوا فاجأ هاشم والدها أنهما سيذهبان إلى أحد المحلات لتكتشف أنه محل ملابس نسائية فتوترت بشدة تنظر لهاشم وهو جالس على الأريكة داخل المحل ورغم أنه يضع ذراعه في حامل ورغم الإرهاق البادي على ملامحه إلا أن عينيه كانتا حكاية تُروى وفي لحظة بدأ بمشاركتها في اختيار الكثير والكثير من الملابس حتى أنه هو من اختار لها الفستان التي ترتديه والحجاب وبعد فترة كانت تجلس في المطار تنتظر والدتها وإخوتها وتلبس بيدها أضخم خاتم زفاف كان في محل المجوهرات ….. نظر رأفت لهاشم الواقف بجواره وقال "هاشم لقد أعطيتك أمانه سأسألك عنها بين يدي الله" رد عليه هاشم "أنت لم تعطني شيئا، الله من أعطاني والله من سيسألني فكن مطمئنا" قاطع كلامهما وصول منال التي لم تتوقف عن البكاء منذ البارحة فاستقبلها رأفت وهو يحاول أن يبثها الطمأنينة وأخذها حيث تجلس ابنتها بثوبها الجديد وابتسامتها الهادئة تتأمل الخاتم الذي يزين إصبعها، كان لقاؤهما عاصفا من يراهما يشعر أنهما يودعان بعضهما للأبد وكلتاهما لا تصدق أن لحظة الفراق قد حانت، هي لا تريد ترك أمها والأخرى لا تريد أن تفارق ابنة عمرها، لأول مرة تتذوقان فيها مرارة الفراق ولم تعرفا أنها ستكون بتلك القسوة، كانتا محط أنظار القاصي والداني والدموع تتحدث وال**ت سيد الموقف….فيض المشاعر جعله فراقا سيظل بذاكرة الجميع حتى إخوتها الصغار، قاطع تلك اللحظات نداء رحلتهما لتكتمل دائرة الوداع عندما ودعت إخوتها ثم أباها واستدارت تنظر إليه فمد لها يده لتتقدم نحوه وتتمسك بيده بشدة، فجذبها إليه حتى أصبحت ملاصقة له وأحاط خصرها بذراعه السليمة ونظر إلى صديقه بعيون حزينة قائلا "لا إله إلا الله" ليرد عليه رأفت وهو يحبس الدموع بعينيه "محمد رسول الله" شيعهما رأفت بنظراته الحزينة حتى تجاوزا البوابة الداخلية ثم أمسك بيد منال يحثها على التحرك، انصرف كل منهما ليواجه مصيره ولو كانا يعلمان ما يخبئه القدر لأطالوا لحظات الوداع ولكن لا يعلم الغيب إلا الله......
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD