هيدال.
الفضول هو طريق طويل إما أن ينتهي بمشاعر رضى متفجرة في قلبك أو خيبة أمل ليس كمثلها خيبة. إنه مجازفة، انت لا تعرف كيف سينتهي فضولك، ولكنك تود إشباع رغبة المعرفة التي تستوطنك.
هكذا أدركت أن سيباستيان كان يعرف جيدًا أن كتاب "ليلة في النهر" هو ما سيدلني على نهاية طريقي.
كانت السماء كحلية اللون كثيرة النجوم، اقرأ بضع من الصفحات ثم أتنفس هواء الغابة الثقيل ناظرًا للأعلى، وكأني استمد طاقة من وسع السماء فتخفف عني ضيق ص*ري.
ما يقبع داخل هذا الكتاب بدى لي وكأنه رواية خيالية أبدع كاتبها في حبكتها، هي منطقية جدًا، ولكنها غريبة جدًا.
أليمندرا، الحقيقة أن مملكتنا لم تكن تلقب بهذا الاسم في السابق، ولكنه ما أطلقته الآلهة 'ڤيرونا' على أرضنا البائسة.
الآلهة ڤيرونا، والتي لم تكن آلهة حقًا، كانت امرأة جميلة غريبة المظهر..يقول الكاتب أنها لم تبدو **كان أرضنا في شيء. كانت تمتلك شعرًا منسابًا مصففًا بعناية، وترسم دوائر من مسحوقات حمراء على خديها. لم يعرف أحد معناها، ولم تجب ڤيرونا مهما سؤلت.
امرأة قليلة الكلام كثيرة الشرود، وكانت تمتلك مشاعرًا دافئة اتجاه الأطفال، ذكر الكاتب أنه لم تكن تٌرى في أنحاء أرضنا الا وحولها الصغار من كل حدب وصوب، وكان انجذابهم لها غريبًا، غير مبررًا.
كان يُشاع في أرضنا سابقًا أن الأطفال يمتلكون قدرة وهبها الإله لهم في التفريق بين الروح الحسنة والروح القاتمة، فإذا ما تجمعوا حول إنسان ما هو إنسان خيّر واذا ما نفروا من انسان ما فسينبذ من قبل الجميع قبل أن يدرك الأمر.
ولهذا كان رأي الأطفال مهمًا بشكل مبالغ فيه، حتى أن بعض القضاة كانوا ليستعينوا بالصغار أثناء حكمهم على مجرم ما.
وفي فترة قصيرة صارت العائلات تسافر من كل مكان الى "ڤيس" أي فيسا سابقًا ، حيث تمكث ڤيرونا، فيطلبون منها الاعتناء بأطفالهم، وتعلميهم، وربما شفاءهم. وبالرغم من غرابة الأمر إلا أن ذكاء وصحة الصغار الذين حولها كان يزيد بمعدل غير طبيعي.
فضعيف البنية يزداد قوة في ليلة وضحاها، وضعيفة البصر صارت تبصر دون أي عناء، قد يحتاج الأمر للمسة من كفها غامق اللون فقط كي يتعافى طفل من الحمى، وكانت الحمى من اسباب وفاة الكثيرين في السابق.
رفعت رأسي للأعلى مجددًا...سحبت قدرًا كافيًا من الهواء وعدت أرمق صفحات الكتاب في شيء من التعجب. اسم الكاتب ليس موجودًا في أي مكان، ليس على الغلاف ولا في الصفحات الاولى او الأخيرة. كان ذلك غريبًا.
وأدركت بينما أعاود القراءة أن هذا الكتاب ليس تاريخيًا، إنه أشبه بكتاب لقصة حياة ڤيرونا، ويبدو أن الكاتب كان رفيقًا لها..ربما شخص يتبعها باستمرار، كانت حروفه تظهر مقدار قربه منها. فكان هنالك بعض من الصفحات التي تخصصت في وصف مظهرها فقط.
وفي نهايتهم رسمة صغيرة غير متقنة لڤيرونا، سمراء البشرة..ولكنه ليس سمار سكان بلاد الجوع. عينيها ضيقتين قليلتا الأهداب، قاتمة اللون. إن نظرتها حادة جدًا، مخيفة بعض الشيء..وامتلكت شعرًا مصففًا بعناية كما ذكر الكاتب، كان طويلًا جدا..وكانت تضع حلقات من المعادن في رسغيها واصابعها وأذنيها وحتى أنفها.
تساءلت لبعض من الثوانٍ عن سبب حب الاطفال لامرأة بهذا المظهر، وعدت للقراءة متغاضيًا عن الأمر..إنها مجرد رسوم، وقد يخطئ الرسام في نقش تفاصيلها او يصيب.
أكملت القراءة بنهم، عالجت ڤيرونا المرضى من الاطفال، فسار منهم من كان يعجز عن السير، وتحدث من كان يعجز عن الكلام، وصارت "ڤيس" أرضًا تعج بالأطفال، ويكثر فيها اللهو واللعب، وأراد الكثير التعلم من علم ڤيرونا، ومعرفة أسرارها وتعاليمها.
ولكن ڤيرونا لم تشارك الكثير، كان حديثها محض أفكار عادية، ربما فلسفية. لم تخبر أحدًا كيف لها أن تعالج الصغار، ولم تمييز بين الناس بأي شكل من الأشكال. فمهما التف حولها البشر تبقى روحها وحيدة، وتتجلى وحدتها بوضوع في عينيها.
وكأنها شجرة عالية وسط جزيرة نائية، وحولها الكثير من المياه التي لا يعبرها أحد. كان الناس يرون ڤيرونا كمن يراقب تلك الشجرة من خلف البحار. هو يدرك أن هنالك شجرة ضخمة في الأفق، ولكنه لا يصل لها مهما بذل من جهد.
هكذا انتابهم اليأس، وبدأت الاشاعات في الانتشار سريعًا. أخذ المتدينون يتفرقون بين مناصر ومعارض، هؤلاء ينصون على أن ڤيرونا هي آلهة وقد هبطت عليهم من السماء، وهؤلاء يصرخون بأنها ساحرة لا أمان لها.
إن الناس يعشقون المتدينين، ويعتبرونهم خلفاء الإله على الأرض، ولكنهم يمتلكون ميزة كادت تفوق الإله وهي أنهم مرئيون. انت لا تستطيع رؤية الإله ولكنك تستطيع رؤية هذا المتدين، وهو يبدو لك أكثر حكمة منك، يبدو وكأنه يستطيع أن يسحب كفك ويرشدك الى الطريق نحو إلهك..فتتبعه.
تتبعه وانت جاهل بكل شيء سواه، فقد يأخذك المتدين للبر او للبحر، قد يجرك للقمر ويعود بك للأرض، وقد يشير على أي شيء أمامه..ويخبرك "هذا حسن" فتصدقه، إنه أكثر حكمة منك على أي حال، ثم يشير نحو شيء آخر ويخبرك " هذا بغيض" فتصدقه، ويكمل جولته بك. هو يسير وانت تتبع، هو يقول وانت تومئ.
وقبل أن تدرك الأمر، تصير عابدًا للمتدين، لا للإله.
وهكذا كان السكان، ما أن رفع المتدينون سبابتهم يشيرون على ڤيرونا حتى سمعوهم وأطاعوا.
المشكلة كانت في تناقض أراء المتدينين، هل ڤيرونا ساحرة أم آلهة؟ هل أقذفها بالصخر أم أسجد لها؟ احتاروا لقليل من الوقت، وذكر الكاتب أنه قد هرع لمنزل ڤيرونا، والذي كان مجرد كوخ ناءٍ في وسط غابات "ڤيس"، وأخبرها بما يجري في أليمندرا، أخبرها أن الإشاعات تنتشر، وأنها في خطر محدق.
فصمتت ڤيرونا، بدت وكأنها تفكر، وأثناء تفكيرها بدت وكأنها وجود غريب لا يألفه الكاتب، في لحظة صغيرة كاد يصدق أنها ساحرة وربما آلهة، كاد يعذر المتدينين. إنها غريبة فعلا. ولكن غرابتها محببة لقلبه.
ذكر الكاتب أن تلك كانت أول مرة يقترب من ڤيرونا لتلك الدرجة، فما كانت تسمح إلا للأطفال بالمكوث قربها، وذكر أنه شعر بلذة مميزة حين أدرك أنه أول بالغ يراقبها عن كثب.
هنا نظرت له ڤيرونا وسألته عن رأيه، فإنتابه التوتر..وشعر بأنه مكلف بالإجابة مهما حدث، وأن عليه أن يفكر جيدًا قبل أن يجيبها، ولكنه لم يعرف..عن ماذا تسأل ڤيرونا؟ هل تسأل عن رأيه في ما يجب أن تقوم به، أم رأيه في ماهيتها؟ فنظر لها وسألها، وأجابته بالصمت.
قرر الكاتب أن يجيب بالحقيقة التي يعرفها فحسب، وهي أنه لا يعرف. 'انا لا أعرف' هذا ما أخبرها به، فاومأت في هدوء وغطت في نوم عميق.
كان هنالك من بين الأطفال رضيعة جلبها المواطنون لڤيرونا، ضئيلة جدا حتى أن البعض كان ليخاف أن يهشمها أذا ما لمسها بغير حذر.
إنها رضيعة مريضة، أخبرتهم ڤيرونا بأنها ستموت في خلال شهرين على الأقل، وانتابهم الحزن على روحها الصغيرة. لا أحد يعرف من أمها، وأين هي. إن أعداد الصغار في 'ڤيس' مهولة، والبحث عن الأم وسط كل هؤلاء السكان يبدو مستحيلًا.
الطفلة ستموت على أي حال، ولهذا مكثت الرضيعة في بيت أحد المزارعين على سرير صغير قشي، تشرب القليل من اللبن على مضض، وتبكي قليلًا بهدوء وكأنها غير قادرة على البكاء، تضمها المزارعة كل فجر وتربت على رأسها الضئيل بحب، كانت المزارعة عجوز حنونة لم ترزق بأطفال قط..وكانت قد عرضت على ڤيرونا أن تعتني بالطفلة حتى موتها.
لم يذكر الكاتب سبب تتبعه للرضيعة، وسبب ذكره لكل هذه التفاصيل عنها. ولكن الصفحات التالية كانت تفسر كل شيء.
بينما كانت ڤيرونا تمارس حياتها مسالمةً وسط صغار 'ڤيس'، كانت المقاومة تتفاقم في أنحاء أليمندرا، ويتجمع المتدينون وخلفهم أتباعهم. كان النصر للجماعة التي ستأسر ڤيرونا اولًا، فاذا ما وصل لها هؤلاء، قتلوها بحكم كونها ساحرة، واذا ما وصل لها الآخرون عبدوها بحكم كونها آلهة.
المشكلة كانت في الرجل الذي يقود الجماعة التي تزعم بأن ڤيرونا تمارس السحر، والذي أطلق على نفسه اسم "باكيز" كان قائدًا نشأ في بلاد الجوع وكبر فيها، وكان ذا بأس وقوة هائلين. فعلى الرغم من أن الجماعة الأخرى قد وصلت لڤيرونا أولا، وانشأت لها معبدًا صغيرًا في ڤيس ومارسوا طقوس العبادة يوميًا لبعض من الوقت، إلا أنهم كانوا ضعافًا. فلا يمتلكون أي انواع من الأسلحة.
ويعود ذلك الى كونهم يطمحون لعبادة ڤيرونا فحسب، فلم يجدوا داعيًا لوجود الأسلحة، وظن الجميع أن الوضع الحالي ليس بذلك السوء. حتى ڤيرونا نفسها.
مع مرور الوقت، تغيرت الأوضاع و صار عبدة ڤيرونا يتوحشون بشكل غير مسبوق، فيعذبون من يرى ڤيرونا ولا يركع لها، ويجلدون من يمس ممتلكاتها. يحرسون كوخها الصغير وكأنه الجنة، ولم يعد الأطفال يجدون الأمان حولها بعد الآن.
الأكثر غرابة كانت ڤيرونا، والتي لم تنطق ببنت شفة عما يحدث. كانت ترمق الجميع بطرف عينيها وكأنها تشفق عليهم، ولا تتحدث. وأثار ذلك غضب الكاتب، فجازف في ليلة هادئة متسللًا لكوخها.
أخذ يلومها ويعاتبها، ويرص أسماء السكان الذين قتلوا رصًا. وكانت ترمقه بنفس تلك النظرة الطفيفة ذات الطابع المريب. هل يثير شفقتها ؟ هل تراه كائنا ضعيفًا مملًا مثلما يرى هو الجميع؟ تساءل الكاتب.
كان قد أخرج كل ما كان يقبع بقلبه على هيئة كلمات بدت له وكأن ڤيرونا لم تستمع لها من الأصل، وكانت إجابتها هي محض إبتسامة صغيرة أثارت غيظه أكثر فأكثر.
قرر الكاتب أنه لن يعاود زيارتها مجددًا، بل أنه سيتوقف عن مراقبتها من الأصل. وحدد موعدًا للهجرة من ڤيس. لم تعد 'ڤيس' مكانًا زاهيًا يمارس فيه الكاتب هوايته المفضلة، الكتابة.
وهكذا زار الكاتب الجدة العجوز، وأخبرها بأنه سيسافر عن هنا، وسألها اذا ما كانت ترغب بالقدوم معه هي وطفلتها الرضيعة، والتي قضت قرابة الشهرين وبضعة أيام دون أن تفارق الحياة بعد.
رفضت الجدة، وكان ذلك متوقعًا..فجمع الكاتب حاجياته وانطلق في رحلته، أراد أن يرمق ڤيرونا بنظرة أخيرة..كان يراوده الشعور بأنه سيشتاق لهذا المظهر، وربما سيحتاجه.
وبينما كان في طريقه نحو الجنوب، وقف الكاتب متجمدًا فوق أرض أليمندرا، أرض أليمندرا التي كانت تهتز وتهتز، إنتابه الرعب..أهذا زلزال ؟
رفع الكاتب عينيه لينظر للأفق، كان يرى بداية الغابة على مرمى البصر..وكانت الغابة تهتز وكأنها ترتعش خوفًا. نبضات قلبه تزداد كلما يتقدم خطوة صغيرة.
كان هنالك صوت صائح رنان وطفيف..يتعالى مع كل ثانية فيخترق أذنى الكاتب دون إذن منه.
وفي لحظات لم تدم طويلًا، شاهد الكاتب جيشًا ضخمًا من الرجال، يمتطون خيولهم التي تعد بالآلاف...ويصرخون كما لم يصرخوا من قبل. في آياديهم رايات سوداء..لا شيء فيها سوى السواد. وعلى رأسهم القائد " باكيز".
وتمنى الكاتب في قرارة قلبه...لو أن هذا كان زلزالًا.
----------------------------
في الفصل القادم:
لم يدري ماذا يفعل، وقف متجمدًا لثوانٍ طوال.
إن هذا هو القائد "باكيز" لا محالة، هو يعرف شكله جيدًا، فقد طلب من أحد رفاقه الكتاب من بلاد الجوع أن يرسم له كبار القادة قبل عدة سنوات، وهو يحفظهم، ويحفظ اسماءهم. إمتاز الكاتب بذاكرة قوية وأعين لا تنسى ما ترى.
ولكن كل ذلك لم يساعده حين وقف يشاهد جيش 'باكيز' يتقدم، أدرك الكاتب أن 'ڤيس' ستصير بحرًا من الدماء في خلال ليلة وضحاها. وأسرع بالاختباء في منزل شبه مهدوم كان يقبع في جهة من الجهات.
مكث هناك حتى عبر الجيش من على يمينه ويساره، حتى إرتجت الأرض من أسفله وشعر وكأن روحه ستفارق جسده في أي لحظة.. وغلبه الخوف. هم سيقتلون ڤيرونا، والاطفال، والعجوز وصغيرتها، والمتدينين، إن قائدهم هو 'باكيز'، وهو يقتل لأجل القتل فحسب.
ركض الكاتب على ساقيه الضعيفتين على أمل أن يصل ولو لمنزل واحد من منازل 'ڤيس'، فيحذرهم مما سوف يحدث، وينقذ عائلة واحدة على الأقل.
كان قلقه على ڤيرونا شديد، ولكنه كان يدرك أن عبدتها سيحمونها مهما كلف الأمر، وهرع نحو منزل العجوز الذي كان يقبع في أطراف ڤس فكان الأقرب له.
ركض لفترة طويلة غارقًا في أفكاره، وكان يكتب بينما يركض..وجدت ذلك غريبًا جدًا، ولم أستطع قراءة ما كان قد كتب حينئذ. بدت كأنها لغة أخرى، او أنه مزيج بين العديد من اللغات، او أن خطه كان عشوائيا فحسب.
وصل الكاتب لمنزل العجوز بعد أن كان الأوان قد فات..فكان يسير وقدمه تغرس في دماء متناثرة على العشب، ودخل بيتها دون مقدمات بينما قد سقط قلبه في بطنه، فوجد المنزل فارغًا تمامًا.
وبعدما بحث لقليل من الوقت وجد جثة العجوز أسفل بقرتها خلف المنزل، قد قتلها الجنود وهي تجمع الحليب..وكان الكاتب يدرك أن هذا الحليب هو طعام الرضيعة.
شعر الكاتب بغصة مؤلمة في حلقه، ليته جر العجوز معه حين رفضت. لو أنه كان يعلم، ربما لو أنه كان قد هم للسفر يومًا او يومين أبكر من الآن..لكان قد حذر سكان 'ڤيس' ومنع هذه المجزرة.
________
عدنااااا???
يا الله وحشتوني، واسفة عالتأخير❤
خلصت امتحاناتي ونظمت وقتي ورجعلي الالهام وان شاء الله كل يوم أنشر بارت*-*
عجبكو؟
وبس يلا باي??