بين الشكوك و الصمت

1380 Words
بينما كان الجميع يتناولون الطعام، كان دايسيك يشعر بقلق غريب لا يستطيع تفسيره تمامًا. لم يكن هناك أي سبب واضح لهذا التوتر الذي شعر به، لكن هناك شيء ما في تصرفات كوان أثار لديه شكوكًا. رغم ذلك، كان كوان يتصرف بكل هدوء وثقة، محاولًا إبعاد أي شكوك عنه. "هل تشعر بشيء غريب، ابي؟" سأل دونيون بصوت منخفض، وهو يلاحظ توتر والده. كان دايسيك يبدو عابسًا، وعيناه تراقب كوان دون أن يلاحظه الأخير. "لا شيء، ربما أنا فقط مرهق قليلاً." أجاب دايسيك، محاولًا إخفاء أي علامات على القلق الذي كان يزداد في داخله. لكنه كان يعرف أن هناك شيئًا غير طبيعي في تصرفات كوان. كان الشاب يبدو مرتاحًا للغاية، على الرغم من ما حدث مؤخرًا، وكان ينجح في إبعاد الأنظار عنه بشكل متقن. "أنت متأكد؟" سأل دونيون بتشكك. لكن دايسيك فقط أومأ برأسه في إشارة إلى أنه لا يريد التحدث أكثر. لم يكن لديه دليل على أي شيء خاطئ، لكن القلق الذي يشعر به لا يتركه. كان يحاول أن يتجاهل مشاعره المتضاربة، ويعتقد أن كل شيء سيسير على ما يرام. كوان كان قد نجح بالفعل في إبعاد الشكوك عنه بفضل تصرفاته الباردة والمحسوبة. كانت نظراته محايدة، وكلماته مختارة بعناية، مما جعله يبدو غير معني تمامًا بما حدث. لكنه كان يعرف أنه يعيش في حالة من التوتر المستمر، حيث كانت مخاوفه بشأن إيرين تدور في ذهنه باستمرار. كيف سيحميها؟ ماذا سيفعل إذا اكتشف دايسيك ما كان يفعله خلف الكواليس؟ في النهاية، كان كوان يعرف أنه لا يمكنه إخفاء الحقيقة إلى الأبد، ولكن في الوقت الحالي، كان عليه أن يلعب لعبته بحذر، وأن يحافظ على الهدوء حتى تنقضي هذه الأزمة. رنّ الهاتف فجأة بصوتٍ حاد، فقطعت رنّاته صمت طاولة الفطور المتوترة أصلًا. نظرت الخادمة للشاشة، لم يكن هناك اسم ظاهر، فقط رقم مجهول. ترددت للحظة ثم توجهت به إلى دايسيك قائلة: "سيدي، هناك اتصال لك... الشخص يسأل عن الآنسة إيرين، بدا كأنه قريب لها." رفع دايسيك حاجبه باستغراب، ثم تناول الهاتف منها وأجاب بحذر، "نعم، من المتحدث؟" جاءه صوت هادئ ومباشر من الطرف الآخر: "صباح الخير. أنا أحد أقارب إيرين… أبحث عنها منذ البارحة ولم تجب على هاتفها. قلقت كثيرًا، هل يمكنني معرفة إن كانت بخير؟" سحب دايسيك نفسًا عميقًا، وشعر بتوتر يتسلل لملامحه، بينما الجميع ينظرون له. كان كوان يراقب بصمت، ودونيون يرفع نظره من فنجان القهوة، أما شيناي فشدت أصابعها على الشوكة بقوة. قال دايسيك بصوت متماسك رغم التوتر: "هي… خرجت في مهمة، وربما لم تنتبه لهاتفها. لا تقلق، سنطمئنك حين تصل." رد ليون بهدوء، لكن نبرته حملت شيئًا من التهديد المبطن: "أتمنى ذلك، لأنني لن أرتاح حتى أسمع صوتها… شكرًا لك." ثم أُغلق الخط. أعاد دايسيك الهاتف إلى الطاولة ببطء، نظر إلى كوان نظرة سريعة لكن لا تُقرأ، ثم قال بنبرة حاول فيها أن تبدو طبيعية: "… يبدو أن غيابها بدأ يُلاحَظ." لكن في داخله، بدأ القلق يتزايد، وكأن هناك ما هو قادم… شيء لن يمكنه إيقافه بسهولة. انحنى دايسيك نحو أحد الخدم الواقفين خلفه وهمس له بنبرة جدية لا تحتمل التأخير: "أرسل رجالنا فورًا... ابحثوا في كل مكان. لا أريد أي خطأ، هل فهمت؟" هزّ الخادم رأسه بسرعة، وانسحب من الغرفة بهدوء بينما بدا على وجهه التوتر. أما كوان، فقد ظل جالسًا بهدوء تام، يرفع فنجان الشاي إلى شفتيه دون أي تعبير يشي بقلق أو اهتمام. عيناه تراقبان حركة الجميع، لكنه بدا كمن يتابع مسرحية قد كتب نهايتها بنفسه. دونيون نظر إلى كوان بنظرة متفحصة، وكأن شيئًا ما لم يعجبه في بروده، ثم التفت إلى والده: "أليس غريبًا أنها لم تعد حتى الآن؟" رد دايسيك وهو يحاول التماسك: "ربما تأخرت في أحد المحلات... لا نريد أن نُحدث ضجة من لا شيء." لكن داخله كان يغلي. لم يكن معتادًا على الغموض أو فقدان السيطرة… وكان كوان يعلم ذلك جيدًا، ويستخدمه لصالحه. التفتت الأنظار نحو كوان فور كلماته، إذ قال ببرود وهو يضع الفنجان على الطاولة: "تخطئ في محل... لليلة كاملة؟ هل هذا يبدو منطقياً؟" ساد الصمت لوهلة، وشعر الجميع بنبرة التحدي بين السطور. دايسيك شدّ على قبضته فوق المنديل بهدوء، ثم رفع نظره نحو كوان وقال بنبرة تحمل شيئاً من الحدة: "ألم أقل أننا لا نريد إثارة الشكوك أمام الجميع؟" ابتسم كوان بسخرية خفيفة، ونظر إلى دونيون الذي بدأ يراقبه بريبة. "أنا فقط أقول ما يفكر فيه الجميع. فتاة تختفي هكذا، ولا أحد يقلق فعلاً؟" هنا تدخلت شيناي وهي تضع الشوكة على الطبق بقوة خفيفة: "ربما قررت الهروب… الخادمات أحيانًا يفعلن ذلك." ابتسم كوان بخفة لكنه لم يرد، فقط عاود الأكل بهدوء، بينما نظراته الخفية كانت تقول: أنتم تلعبون بالنار… لكنني سبقتكم بخطوة. قاد كوان سيارته الخاصة بهدوء نحو الشركة، لكن في داخله كان التوتر يكاد يفضحه. أخرج هاتفه وأرسل رسالة قصيرة إلى رجاله: "تأكدوا من كل شيء. لا تتركوها وحدها ولا تقتربوا كثيراً. فقط راقبوها من بعيد." في هذه الأثناء، كانت شيناي في غرفة الجلوس تحتسي الشاي مع دايسيك، وقد بدا عليها القلق رغم محاولتها إخفاءه. قالت له وهي تنظر من النافذة: "كوان... تصرفاته الأخيرة لا تُطمئن. هل تظن أنه له علاقة باختفاء تلك الفتاة؟" أجاب دايسيك بعد صمت قصير وهو يضع الكتاب من يده: "لا أعلم... لكن هناك شيء مريب. السائق لم يعد كما كان، وكوان أصبح أكثر هدوءاً مما يجب. أشعر أنه يخفي شيئاً." شيناي ضيّقت عينيها: "إذا كان فعلاً يخفيها… فقد انقلب علينا." قال دايسيك بجديّة: "دعينا نراقب أكثر. إذا تأكد شكي... فلن أتردد." في هذه اللحظة، كان كوان قد وصل لمكتبه، جلس على كرسيه وفتح حاسوبه، لكن كل تفكيره كان في المصنع القديم… وفي إيرين. دخلت ميون بخطوات ناعمة إلى مكتب كوان، تحمل كوبين من القهوة بيديها، وابتسامة خفيفة على وجهها. كان كوان جالساً يراجع بعض الملفات، وبدا هادئًا كعادته. ميون: "أحضرت لك قهوة… فكرت أنك تحتاجها." كوان (ببرود دون أن ينظر لها): "شكراً." جلست على الكرسي المقابل له، تراقبه بصمت للحظات ثم قالت بهدوء: "الجميع يتحدث عنك مؤخراً… وعن الخادمة. هل فعلاً تهتم بها؟" توقف كوان عن الكتابة للحظة، رفع عينيه نحوها، ثم قال بنبرة باردة متعمدة: "ألا تعلمين أنني لا أضيع وقتي مع خادمات؟ لا أحب أنصاف الناس." تنفست ميون بارتياح، وابتسامة ناعمة ظهرت على ملامحها. ميون: "كنت فقط أريد أن أسمعها منك. أنت دائماً صعب القراءة، كوان." كوان: "ربما هذا أفضل." ثم تحوّل الحديث بينهما إلى أمور أكثر خفّة، عن العمل وعن ذكريات الطفولة، ما طمأن ميون وجعلها تظن أن علاقتها بكوان لا تزال قائمة. لكن في أعماقه، كان كوان يتظاهر فقط، يخفي ارتباكه الداخلي وقلقه على إيرين. أما في الخارج، فكان رجال دايسيك الذين أُرسلوا لمراقبته يدوّنون كل تحركاته… دون أن يلاحظوا أنه سبقهم بخطوة. بينما كانت الأجواء هادئة في المكتب، نظرت ميون إلى كوان بتمعّن، ثم قالت فجأة بنبرة فيها شيء من الخجل والجدية: ميون: "كوان... ألم يحن الوقت لنفكر بموضوع زواجنا؟ الجميع يتحدث عن ذلك، ووالدي أصبح أكثر إصراراً." رفع كوان عينيه ببطء نحوها، ثم وضع قلمه على المكتب وتن*د بخفة قبل أن يرد بنبرة هادئة لكنها محسوبة: كوان: "ميون... أنت فتاة ذكية وتستحقين الأفضل، وأنت تعرفين أنني لا أتخذ قرارات مصيرية بضغط الظروف أو كلام الناس." نظرت إليه باستغراب، لكنه تابع بهدوء دون أن يتيح لها المقاطعة: "في الوقت الحالي، أنا أركز على العمل وعلى إثبات نفسي أكثر داخل الشركة. وأنت أيضاً، لد*ك طموحات ومسؤوليات. أعتقد أن علينا التفكير جيداً بمستقبلنا كلٌ على حدة قبل أن نربط مصيرنا معاً." خفضت ميون عينيها للحظة، وقد بدا عليها التردد، لكنه ابتسم بخفة وأكمل: "لا أريدك أن تندمي لاحقاً بسبب قرار متسرع... أنت تستحقين شريكاً يكون حاضراً لك كلياً، وليس شخصاً مثلي منشغل دائماً ومتشوش الذهن." كلماته بدت ناضجة، ومع أنها لم تمنحها الجواب الذي تريد، لكنها جعلتها تصمت وتفكر. أما هو، فقد شعر بالارتياح... فقد تمكن من إبعاد شبح الزواج مؤقتاً، دون أن يثير شكوكها أو يغضبها. نظر إليها كوان بنظرة عميقة، صوته هادئ لكن نبرته تحمل شيئاً من الجدية هذه المرة: كوان: "ميون، فكرتك عن الزواج بي... هل هي فعلاً نابعة من رغبة قلبك؟ أم فقط لأن عائلتك تعتقد أن هذا الأنسب؟" ترددت ميون للحظة، ثم ردت بخفوت: "لا أنكر أن والديّ يضغطان عليّ، لكنك أيضاً رجل مناسب… و—" قاطعها بلطف وهو يضع كفه فوق يدها على الطاولة: "اسمعيني... أنا لا أريد زواجاً يكون مجرد مشروع لإرضاء العائلة أو لخدمة مصالح الشركة. هذا النوع من الزواج الرسمي الخالي من العاطفة لا يناسبني... ولا يليق بكِ أيضاً." رفعت عينيها نحوه، وقد بدأت ملامح التردد ترتسم على وجهها. تابع حديثه وهو يسحب يده برفق: "زواجنا سيكون تحت الأضواء، وستُربط سعادتنا بمدى نجاح الشراكة العائلية. أليس هذا ظلماً لنا؟ خاصة لكِ، ميون. أنت تستحقين حباً حقيقياً، لا زواجاً يُستعمل كجسر بين شركتين." ظلت صامتة، ملامحها تفكر بعمق. لم يجبها أحد هكذا من قبل... لم يخاطبها أحد بمزيج من الصراحة والاحترام. وبينما انصرف بهدوء بعدها، بقيت هي تفكر فيما قاله… وربما، لأول مرة، بدأت تشك إن كانت فعلاً تريد هذا الزواج.
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD