في اليوم التالي، بينما كانت إيرين تقوم بترتيب الأطباق في المطبخ، لمحت شيناي تقترب منها بخطوات واثقة، عيونها تلمع بتعبير صارم. كانت شيناي قد لاحظت تصرفات إيرين الأخيرة، خصوصًا تلك التي تتعلق بمحاولاتها التقرب من كوان. لم يكن هذا التصرف مناسبًا في نظرها، خاصة في ظل مكانتها في القصر كزوجة لدايسيك.
"أيرين، هل تعتقدين أن هذا السلوك مقبول هنا؟" قالت شيناي بصوت حاد، تجذب انتباه الجميع في المطبخ.
لم تكن إيرين قد توقعت أن تتعرض لهذه المواجهة، ولكنها ردت بهدوء: "أفعل فقط ما يطلبه مني السيد كوان وو ، سيدتي"
ولكن شيناي لم تتأثر بكلماتها. "لا تهربي من الحقيقة. تحاولين التلاعب بمكانك هنا، والكل يلاحظ ذلك. أنتِ خادمة، وليس لك الحق في الاقتراب من كوان وو بهذه الطريقة."
رفع صوت شيناي أكثر، ووجهت كلماتها بحدة. "إذا كنتِ تعتقدين أن هذه الخدع ستجعلكِ تحظين باهتمام أحد هنا، فأنتِ مخطئة. لا أحد هنا بحاجة إلى خادمة تتنكر في زي محبة ياله من طيش ."
ثم نظرت حولها إلى الخدم الآخرين في المطبخ، قبل أن تلتفت إلى إيرين بعينين حادتين. "عقوبتك ستكون مناسبة لتعلمي مكانتك."
وبدون إعطاءها فرصة للاعتذار أو الرد، أضافت: "قفِ في الفناء الخلفي الآن، وابقِ هناك حتى تفهمي خطأك. و لن يكون لك تي طعام هذا اليوم."
لم يكن هناك مجال للرفض. أخذت شيناي خطوة نحو الباب، وأمرت الخدم بإخراج إيرين إلى الخارج. كانت السماء ملبدة بالغيوم، والبرد شديدًا. بينما كان الطقس القارس يضرب جسدها، شعرت إيرين بشعور من الخوف والحزن يغمرها، لكنها لم تجرؤ على الاعتراض.
وقفت ايرين في الفناء الخلفي، يديها ترتجفان من البرد، وقلبها مليء بالمشاعر المتضاربة. كان برود الطقس لا يساوي شيئًا مقارنةً بما شعرته من قسوة في معاملة شيناي.
بينما كانت إيرين تحت المطر في الفناء الخلفي، كان داخل القصر جو مختلف تمامًا. في غرفة الطعام الفاخرة، جلست شيناي على الطاولة أمام كوان، وكان الموضوع الذي تتحدث عنه هو الزواج، كما لو كان الموضوع الأكثر أهمية في حياتها.
"كوان..." قالت شيناي بصوتها الناعم، وهي تراقب رد فعل كوان عن كثب. "لقد حان الوقت للتفكير في المستقبل. ميون أصبحت في السن المناسبة، وهي تحمل كل الصفات التي تليق بعائلةٍ مثلنا."
لكن كوان لم يبدِ أي حماسة أو اهتمام. كان يتناول طعامه بهدوء، وعيناه متجمدتان على صحنه، كما لو كان الموضوع لا يعنيه. "الشرف كبير، ولكن لم أخطط للزواج بعد." أجاب بصوت هادئ، مبتعدًا عن مناقشة الموضوع بشكل جدي.
شيناي لم تكن مستعدة للاستسلام بسهولة. "الزواج يغير الرجال، كوان. يمنحهم استقرارًا، ويجعلهم أكثر قوة في مواجهة المستقبل. ميون ستكون شريكة رائعة لك." قالت وهي تبتسم ابتسامة هادئة، تحاول أن تظهر كأنها توفر له فرصة لا يمكن أن يفوتها.
لكن كوان لم يرد بشيء سوى الصمت، وتابع تناول طعامه، وكأن تلك المناقشات لم تعد تثير اهتمامه. كانت الكلمات التي تتردد على لسانه تع** ترددًا واضحًا. "ربما... لكن الاستقرار لا يُصنع بالقفز إلى بحرٍ مجهول."
ضغطت شيناي شفتيها في صمت، كانت تعرف أن كوان ليس من النوع الذي ينساق وراء رغبات الآخرين بسهولة. ومع ذلك، لم يكن هناك شك في ذهنها أنه سيكون من الصعب عليه تجاهل ما تقدمه العائلة.
رمقت ميون كوان بنظرة حادة، رفعت رأسها بشيء من الكبرياء وحنق واضح في عينيها. كانت قد اعتادت أن تنال كل ما تريد، لكن رد كوان الهادئ والبارد كان كصفعةٍ غير متوقعة.
"أفهم أنني لا أليق بك، أليس كذلك؟" قالت بصوت حاد كالسيف، يقطر غضبًا مكبوتًا. "لكن على الأقل، كن صريحًا بدلًا من هذه الكلمات المواربة." ثم دفعت كرسيها إلى الخلف، وخرجت من غرفة الطعام بخطوات سريعة، لم تلتفت لأحد.
سقط صمت ثقيل على الطاولة، تبعه تنهيدة خفيفة من دايسيك، الذي راقب ابنته وهي تغادر. رفع عينيه نحو كوان، وعلى وجهه ارتسمت ملامح خيبة أمل ممزوجة بحزنٍ أبوي. لم يقل شيئًا في البداية، فقط نظر إليه مطولًا، كما لو كان يحاول فهم سبب هذا الجفاء.
"لقد آلمتها، كوان." قال أخيرًا بنبرة هادئة، لكنها لا تخلو من اللوم. "ميون فتاة طيبة، ولا تستحق أن تُحرج بهذه الطريقة."
كوان، دون أن يرفع رأسه، قال بهدوء: "لم أقصد إيذاءها... لكنني لا أريد أن أُجبر على شيء لا أريده."
وفي زاوية الطاولة، التفتت شيناي ببطء، تراقب ما يجري بصمت، وفي عينيها اشتعل بريق لم يُفصح بعد عن نواياه.
تبدلت ملامح شيناي سريعًا من الجمود إلى الغضب المكتوم، وضعت منديلها الحريري على الطاولة، ثم نهضت بخفةٍ متصنعة وتبعت ابنتها خارج القاعة، خطواتها تص*ر صوتًا حادًا على الأرضية الرخامية.
أما دايسيك، فقد ظل جالسًا للحظات، يرمق كوان بنظرة طويلة ثقيلة، ثم قال بصوت منخفض، لكن فيه نبرة تهديد خفية: "لا تنسى، كوان... نحن عائلة واحدة، لكن حتى العائلة لها حدود." ثم نهض، وقام بتعديل سترته بهدوء قبل أن يغادر، يسير في نفس الاتجاه الذي سلكته زوجته وابنته، واضعًا يديه خلف ظهره كمن يحمل عبئًا لا يُقال.
في تلك اللحظة، التفت دونيون، الابن الأصغر لدايسيك، نحو كوان. لم يقل شيئًا، لكن نظراته كانت كافية. حادة، قاسية، مليئة بالسخرية والعتب، وكأن عينيه تقولان: "لعبك بالنار قد يحرقك قريبًا." ثم دفع الكرسي ببطء وغادر، تاركًا خلفه كوان في صمتٍ ثقيل، وحده بين الصحون الفارغة والأصوات البعيدة للمطر... حيث لا يزال شخص واحد في الفناء الخلفي، ينتظر أن يُنقذ من برودة الظلم.
رفع كوان شوكته ببطء نحو فمه، يتناول قضمة بلا طعم، عينيه تحدقان في الطبق أمامه، لكن ذهنه كان بعيدًا تمامًا. شيء ما لم يكن في مكانه… نظرات عابرة طافت القاعة، ثم أدرك فجأة غياب ايرين.
ترك الشوكة، ونظر إلى إحدى الخادمات الواقفات على بعد خطوات: "أين إيرين؟" ترددت الخادمة قليلاً، تنظر إليه بتوتر واضح، ثم قالت: "هي… معاقبة، يا سيدي. السيدة شيناي أمرت بذلك هذا الصباح." رفع حاجبه، صوته انخفض لكنه حمل نغمة قلق: "أين؟" "في الفناء الخلفي… منذ ساعات."
لم يجب، فقط نهض من مكانه، الكرسي يص*ر صوت احتكاك حاد على الأرض، تاركًا المائدة ونظرات الحيرة خلفه. خطواته كانت سريعة، ثابتة، وكلما اقترب من الفناء، كان صدى المطر يتعالى، يدق الأرض كطبول غضب مكتوم. فتح الباب الخلفي بقوة، والهواء البارد يصدم وجهه، ليرى إيرين واقفة تحت المطر، ملابسها مبللة بالكامل، يداها متجمدتان، ودموعها قد اختلطت بالماء المنهمر.
حدق بها للحظة، ثم خطى إليها مباشرة، عينيه لا تحملان أي تردد.
ركض كوان نحوها، وعيناه مليئتان بالقلق، ثم أمسك بذراعيها بلطف، صوت المطر يقرع فوقهما بقوة، وصوته منخفض لكن حازم: "إيرين! هل أنتِ بخير؟ لماذا لم تقولي شيئًا؟"
لم تستطع أن تجيب، شفتاها كانتا ترتجفان من البرد، وجسدها بالكاد يقف. نظرت إليه بعينين دامعتين، لكن خالية من التوسل، فقط الصمت المؤلم الذي يكشف كل شيء.
تمتم كوان بكلمة قصيرة، ثم دون تفكير، انحنى قليلاً، ورفعها بين ذراعيه برفق، رغم مقاومة خفيفة منها. "كفى عنادًا..." قال لها بصوت خافت وهو يسير بها نحو الداخل.
مرّ بهم بعض الخدم في الردهة، تجمدوا في أماكنهم وهم يشاهدون كوان يحمل الخادمة الصغيرة وكأنها قطعة ثمينة من الزجاج. نظرات الفضول والدهشة كانت كالسكاكين، لكن كوان لم يلتفت لأي منها.
دخل غرفتها الخاصة، ووضعها بلطف على الأريكة القريبة. "غيّري ملابسك فورًا، سآتي حالًا."
خرج للحظات، ثم عاد ومعه غطاء سميك و منشفة ، وعندما وجدها قد بدّلت ملابسها، اقترب منها وجلس على طرف الأريكة، ثم بدأ يلف جسدها بالغطاء بعناية، أصابعه تتحرك برفق كأنها تلامس جرحًا خفيًا، عينيه لم تفارقا وجهها الشاحب.
"لن أدعهم يلمسوكِ مجددًا بهذا الشكل..." قالها بصوت منخفض، لكنه مشحون بشيء أشبه بالغضب الدافئ.
اقترب كوان من المدفأة الكهربائية ووصلها، ليتسلل دفؤها شيئًا فشيئًا إلى الغرفة الباردة، ثم عاد إليها وجلس على ركبتيه أمامها، ممسكا بمنشفة قطنية بين يديه. "أنتِ ترتجفين كأنكِ خرجتِ من بحيرة ثلج..." همس، بنبرة حاول أن يُخفي فيها انفعاله.
أمسك بطرف المنشفة وبدأ بتجفيف شعرها برفق، خصلاتها المبللة تلتصق بوجهها، ووجهه يقترب أكثر مما ينبغي، لكن عينيه لم تكن فيهما نوايا خفية—فقط قلق صادق، وشيء يشبه العتب.
إيرين لم تستطع أن تتحدث، صوت ارتجافها كان أعلى من أي كلمة. نظراتها كانت مركزة على الأرض، كأنها تحاول الاختباء من كل شيء، حتى منه.
"لماذا لم تقولي لي؟" سألها بهدوء، وهو يمرر المنشفة ببطء فوق رأسها، يضغط بلين على خصلاتها كأنه يعتذر عن العالم بدلًا عنها. "لم أكن أعلم أنكِ تعاقبين بهذه الطريقة..."
شفتيها تحركتا بصعوبة، لكنها لم تُجب، فقط أغمضت عينيها للحظة، كأنها تحاول حفظ هذا الدفء النادر. دفء المدفأة... ودفء شخصٍ لم تتوقع أبدًا أن يهتم بها.
فتحت شيناي الباب بعنف، خطواتها تصدح فوق أرضية الغرفة، وعيناها تشتعلان بغضبٍ ممزوج بالشماتة. صفّقت ببطء، وكل تصفيقة تحمل سُمًّا دفينًا. "رائع... حقًا رائع، سيد كوان. لم أعلم أنك بدأت تهتم بالخادمات إلى هذا الحد. هل تحب أن أجلب لك قائمةً بأخريات؟"
إيرين انتفضت في مكانها، يدها تشد الغطاء على جسدها، وعيناها تفيض بالذل، لكن كوان لم يلتفت نحوها. بل وقف بهدوء، وانع**ت ألسنة لهب المدفأة على عينيه وهو يواجه شيناي بثبات.
"هذا يكفي، شيناي." قالها بنبرة منخفضة، لكنها حادة كالخنجر. "إن كنتِ تبحثين عن فضيحة، فقد بدأتِ بصنعها الآن. وليس لأني اعتنيتُ بخادمةٍ أوشكت أن تتجمد من البرد... بل لأنكِ سمحتِ بحدوث ذلك أولًا."
شهقت شيناي، غير مصدقة لما تسمعه. "هل تلومني؟ إنها خادمة! تتجرأ وتدخل بين أفراد العائلة—"
قاطَعها بحدة: "لا أحد فوق الإنسانية، ولا أحد يملك حق إذلال الآخر... مهما كان منصبه." ثم أشار نحو الباب: "والآن، إن كانت لد*كِ مشكلة... ناقشيها معي لاحقًا. بعيدًا عن غرفتي، وبعيدًا عنها سادت لحظة صمت ثقيل في الغرفة، قبل أن تستدير شيناي بغضب، مع نظرة أخيرة ملتهبة ألقتها على إيرين، ثم غادرت وهي تضرب كعب حذائها بالأرض. بعد رحيلها، لم يقل كوان شيئًا. فقط عاد إلى حيث كانت إيرين، جلس قربها، وأكمل تجفيف شعرها بصمتٍ مشوبٍ بالغضب المكتوم... ولكن أيضًا بهدوء، وكأن وجودها أمامه بات يعني أكثر مما يبدو