الحدود المظلمة

1353 Words
في قاعة الفطور الفسيحة، حيث تُزين الجدران بلوحات زيتية لملاكٍ راضٍ، كانت إيرين تحمل صينية الشاي الثقيلة بيدين ثابتتين. أشعة الشمس الذهبية تتسلل من النوافذ العالية، تُلامس وجه كوان الجالس في نهاية المائدة، بينما دايسيك يُقلب صحيفة الصباح بلا اكتراث. "كوان... لقد حان الوقت لتفكر في مستقبلك." بدأت شيناي فجأة، صوتها حلوٌ كالسكر المسموم. "ميون بلغت السن المناسب، وهي تحمل كل الصفات التي تليق بعائلةٍ مثلنا." إيرين توقفت للحظة، إبريق الشاي يهتز قليلاً في يدها. "ميون".. الابنة الوحيدة لدايسيك، التي رأتها إيرين مرة واحدة في حفلٍ سابق، ترفل بثوبٍ يكلف أكثر من راتبها لعام. كوان رفع عينيه ببطء، كأنه يُحاول قراءة لعبة شيناي الخفية. "الشرف كبير... لكني لم أخطط للزواج بعد." دايسيك خفض الصحيفة قليلاً، نظرة رضى على وجهه. "الزواج يغير الرجال... ويجعلهم أكثر استقراراً." كوان لم يبتسم. "ربما... لكن الاستقرار لا يُصنع بالقفز إلى بحرٍ مجهول." شيناي ضغطت شفتيها، أصابعها تلعب بعقدها الماسي. "البحر المجهول هو الوحيد الذي يليق برجلٍ مثلك." إيرين كانت تملأ الكؤوس بتركيزٍ مفرط، لكن أذنيها تلتقطان كل كلمة. عندما وصلت إلى كوب كوان، لاحظت كيف تجمدت أصابعه على المقعد، وكأنه يحاول كتم غضبٍ قديم. "شكراً..." همس كوان لها حين سكبت الشاي، لكن عينيه كانتا على شيناي. "أحتاج وقتاً للتفكير." الجملة الأخيرة لم تكن رفضاً صريحاً، لكنها حملت برودةً تكفي لتجميد الحوار. إيرين التقطت الصينية الفارغة وانسحبت إلى المطبخ، حيث أغلقت الباب الخشبي خلفها بهدوء، ظهرها يستند إليه بينما قلبها يخفق كطبلٍ متهالك. في الخارج، كانت شيناي تقول شيئاً عن "الفتيات اللواتي لا يعرفن قيمتهن"، لكن إيرين لم تعد تسمع. كل ما خطر ببالها هو: **هل سيكون زواج كوان بوابةً لخطط ليون... أم قفصاً يدفن أسرار دايسيك للأبد؟** وفي الزاوية الأكثر ظلمةً في المطبخ، كان هاتفها الصغير يهتز برسالةٍ جديدة من ليون: **"الخزانة السرية تنتظر... لا تترددي."** بعد أن أغلقت الهاتف في جيبها الخفي، وقفت إيرين أمام حوض الغسيل المليء بالأطباق المتسخة، تلتقط أنفاساً عميقةً محاولةً إخماد الارتجاف في أصابعها. رائحة الصابون اللاذعة تختلط بعرق جبينها، بينما أصوات الخادمات تتناثر **كاكين في ظهرها: "انظروا إلى الأميرة... تتظاهر بالحزن لتجذب سيد كوان!" همست إحداهن بينما تمر بإيرين، تدفع كتفها بعنف. أخرى ألقت منشفةً مبتلة على الأرض أمامها: "احذري، لا تنزلقي... فـبعضنا ليس لديه من ينقذه!" إيرين أطبقت شفتيها حتى ابيضتا، عيناها تحدقان في الماء المتدفق. "لا تنفعلي... فقط انجزي المهمة." لكن عندما فتحت الباب الخلفي لتُخرج القمامة، وجدت كوان واقفاً في الشرفة الخلفية، سيجارته تنطفئ بين أصابعه. التفت إليها ببطء، عيناه تع**ان ضوء القمر الشاحب كانت تتجنب النظر اليه بينما كان الخدم يتهامسون في الخلف . حاولت إيرين تجنب نظراته، لكنها كانت تشعر بأثقالها تتسلل إلى قلبها. كان كوان يقف هناك، عينيه تراقبانها كما لو أنه يحاول قراءة أفكارها. تأملها للحظة، ثم دخل إلى القصر دون أن يقول كلمة واحدة. تركت إيرين نفسها تهز رأسها في محاولة لطرد مشاعر الارتباك التي بدأت تتسلل إليها. قلبها كان مشتتًا، بين التزامها بمهمتها وبين تلك اللحظات التي تثير فيها تساؤلات حول ما إذا كان كوان يشك في شيء ما. لكن ما أثارها أكثر هو شعورها بأن كل خطوة تقربها من تحقيق هدفها قد تكون هي نفسها التي تجرها إلى دوامة جديدة، دوامة قد لا تكون مستعدة لها. في المطبخ، استمرت في عملها، لكن ذهنها كان مشغولًا. كلما خُيل إليها أن الوقت قد حان للتركيز على المهمة، كانت تلتفت لرؤية كوان في كل زاوية، وكأن وجوده يثير الغموض حول كل شيء. هل يمكن أن يكون لديه علم بما تخطط له؟ وهل يمكن أن تتطور الأمور إلى ما لا تحمد عقباه إذا بدأ يطرح أسئلة عن هدفها الحقيقي؟ تراجعت قليلاً، محاولًا أن تستعيد سيطرتها على نفسها. "لا وقت للشكوك. المهمة أولاً." لكن كان الأمر أصعب من أن يُنكر. في نهاية الأسبوع، قررت إيرين أن تخرج من القصر لبعض الوقت. شعرت بحاجتها إلى الراحة، بعيدًا عن أجواء التوتر المستمر داخل القصر. توجهت إلى منزل والدتها حيث التقت بأخيها. كان الجو في المنزل دافئًا، لكن قلبها كان مشغولًا بكل ما يحدث حولها. حاولت أن تترك همومها جانبًا وتستمتع بلحظات الراحة البسيطة، لكن الأفكار عن كوان ودايسيك ظلت تراود ذهنها. بعد قضائها بعض الوقت مع عائلتها، قررت التوجه إلى مقهى صغير في أحد الأحياء الهادئة. كان المكان يعج بالأصوات الخفيفة، وأشعة الشمس تتسلل عبر النوافذ. جلست على طاولة في زاوية المقهى، تحاول أن تستمتع بالقهوة الدافئة، عندما دخل ليون فجأة. "أنتِ هنا، جيد." قال ليون وهو يقترب منها، جالسًا على الطاولة المقابلة لها. نظرت إليه إيرين، وأعطته ابتسامة هادئة. "كيف حالك؟" سألته بتردد، لكن كان هناك شيء في عينيه يخبرها أن هذه الزيارة لم تكن مجرد صدفة. "أنتِ بخير؟" رد ليون، وكان صوته أكثر جدية من المعتاد. "لكننا بحاجة للعمل بسرعة. الأمور تتسارع داخل القصر." شعرت إيرين بتوتر يزداد في قلبها. "ماذا تعني؟" ليون مال نحوها قليلاً، كأنه يتأكد من أن لا أحد يستمع إليهما. "أريدكِ أن تتقربي من كوان. عليكِ أن ت**بي ثقته، وأن تبني علاقة جيدة معه." قال هذه الكلمات بهدوء، لكن كان هناك شيء غامض في نبرته جعل قلب إيرين ينبض بسرعة. "لكن... لماذا؟" تساءلت إيرين، محاولةً أن تتفادى مشاعر القلق التي بدأت تطفو في ص*رها. "كوان قد يكون مفتاحًا مهمًا في خططنا. إذا كنتِ قادرة على جعل كوان يثق بك، ربما نتمكن من اكتشاف المزيد من الأسرار التي يخفيها دايسيك." أجاب ليون، وعيناه تتأملان إيرين باهتمام. "لكن احذري، لا تظهري الكثير من الاهتمام. كوني ذكية." أغلقت إيرين عينيها للحظة، محاولةً أن تهضم ما قاله ليون. كانت تعرف أن هذه المهمة ستكون صعبة، وأنه سيكون عليها اتخاذ خطوات محسوبة بعناية. "أفهم." قالت أخيرًا، وعقلها يدور بسرعة بينما تتأمل في كل الاحتمالات التي قد تترتب على هذه المهمة. نظر إليها ليون لفترة، ثم قال بابتسامة غير واضحة: "أنتِ دائمًا على ما يرام في مثل هذه المهام، إيرين. لكن تذكري، هذه المرة الأمر مختلف." بينما كان ليون يغادر المقهى، ترك إيرين في حالة من الشكوك. هل كانت حقًا قادرة على القيام بما طلبه منها؟ وماذا إذا اكتشف كوان نواياها؟ لكن الأهم من ذلك، ماذا كان ليون يخطط بالفعل؟ في أحد الأيام، بينما كانت إيرين تقوم بتنظيف أحد الغرف الفاخرة، وجدت نفسها في مواجهة مع إحدى الخادمات الأكبر سنًا، التي كانت دائمًا تتعامل معها بتعالٍ. كانت الخادمة تنتقد إيرين بسبب سرعتها في العمل، وبدأت تُلقي عليها ملاحظات جارحة حول طريقة تنفيذها للمهام. إيرين، التي كانت أصغر الخادمات وأكثرهن عنادًا، لم تحتمل هذه الانتقادات. كانت تحاول أن تظل هادئة، لكن كلمات الخادمة كانت تتراكم في قلبها، حتى انفجرت في وجهها: "لست بحاجة إلى تعليمك كيفية العمل! أنا لست مبتدئة!" قالت إيرين بصوت مرتفع، رغم أنها كانت تعلم جيدًا أن عليها أن تكون أكثر تواضعًا. الخادمة لم تتحمل رد إيرين وتقدمت نحوها بعنف، لتدفعها بقوة إلى أحد الأرفف، مما أدى إلى سقوط أحد الأواني الثقيلة. أثناء محاولتها التوازن، سقطت إيرين على الأرض وسحبت يدها بشكل غير متوقع على حافة الانية الحادة، مما تسبب في جرح عميق. ألم الجرح كان حادًا، لكنها لم تصرخ. كانت تحاول أن تماسك نفسها، إلا أن الدم بدأ يتدفق بسرعة من يدها. الخادمة نظرت إليها بدهشة، غير متأثرة بما حدث، بينما كانت إيرين تحاول أن ترفع يدها المدمّاة. في تلك اللحظة، دخل كوان إلى الغرفة، وقد كان يراقب المشهد من بعيد دون أن يُشهر نفسه، لكن فوضى الحادثة جعلته يتدخل على الفور. كان يعبر عن نفسه دائمًا بهدوء، لكن هذه المرة كانت ملامح وجهه تحمل شيئًا من الغضب وكأن الأحداث قد تجاوزت حدوده. "ماذا حدث هنا؟" قال بصوته البارد، وعيناه مركّزتان على الخادمة. الخادمة هزت رأسها، "لا شيء، سيدي. كانت مجرد حادثة بسيطة." لكن كوان لم يلتفت إليها. توجه مباشرة نحو إيرين، التي كانت تئن من الألم، محاولًا مساعدتها على النهوض. "دعيني أرى يدك." قال وهو يمد يده إليها. إيرين، التي كانت في حالة من الذهول، ترددت للحظة، لكنها أدركت أنها لا تستطيع الهروب الآن. رفعت يدها إليه، وبدأ ينظر إلى الجرح بعناية. كانت نظراته مليئة بالاهتمام غير المتوقع. رغم أنه كان لا يزال يتصرف بحذر، كان هناك شيء مختلف في تصرفاته اليوم. "أنتِ متهورة." قال بصوت منخفض وهو يلتقط قطعة من قماش نظيف ليضغط عليها على الجرح. "لا يمكنكِ أن تتصرفي بهذا الشكل هنا." إيرين كانت تلتزم الصمت، ولكنها كانت تلاحظ عن كثب كيف كانت يديه تتعامل بحذر مع جرحها. لم تكن هذه المرة الأولى التي يراها فيها، لكنها لأول مرة تشعر أن هناك شيئًا يتجاوز الحدود بينهما. ثم أشار للخادمة بإشارة مفهومة لتحضير إيرين بشكل أسرع للعلاج. لكن ما حدث بعد ذلك كان غريبًا. على الرغم من تدخله، كانت إيرين تشعر بوجود تحول ما. لم يكن مجرد تدخل عابر، بل كان يحمل نوعًا من القرب الذي لم تتوقعه. على الرغم من عنادها، شعرت إيرين بشيء جديد، شيئًا غير مألوف. هل كان يتعاطف معها حقًا؟
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD