في صباحٍ شتويٍّ بارد، وبينما كانت الشمس بالكاد تلامس نوافذ القصر المثلّجة، وقفت إيرين وحدها في المطبخ الكبير، تغسل أواني الشاي الفاخرة.
كان البخار يتصاعد من الماء الساخن، يغلف الزجاج **تار غائم، ويضبب رؤيتها. لم تكن ترتدي سوى سترة قطنية رقيقة بالكاد تصدّ البرد، أما يداها، فقد كانت حمراء متشققة من البرد وغمر الماء. أصابعها المرتجفة بالكاد تمسك بالكوب الثمين، وعقلها مشوش بتعب الليلة الماضية. الساعات الطويلة التي قضتها تنظف قاعة الاحتفالات بعد الحفلة الملكية استنزفت منها كل ما تبقّى من طاقتها.
ثم، في لحظة خاطفة، انزلق الكوب من يدها. بدا الأمر كأن الزمن تباطأ، ولمع الزجاج تحت الضوء الخافت قبل أن يرتطم بالأرض الرخامية. الشرخ الذي شقّ حافته كان كصفعة مدوّية **رت صمت المطبخ الثقيل، أشبه بفأسٍ يشقّ جذع شجرة، أو صدى يوقظ الأشباح النائمة في جدران القصر العتيق.
"إيرين!" دوّى صوت السيدة تشا، كبيرة الخدم، قبل أن تندفع إلى الداخل كعاصفة جليدية.
دخلت بوجهها المتجعد كالخرائط، وعيناها الضيقتان تشعان بغضب كالنار تحت الرماد. كانت ترتدي وشاحًا قاتم اللون، مشدودًا بعناية حول عنقها الطويل، وكأنها تستعد لمعركة يومية.
"هل تظنين أن هذه أواني الفقراء؟!" صرخت وهي تمسك بذراع إيرين بقوة، تغرس أظافرها الطويلة في لحمها الأبيض، لدرجة أن إيرين شهقت من الألم.
"أنا آسفة..." همست بصوت مرتجف، بالكاد تسمع نفسها وسط هدير قلبها المتسارع.
لكن الاعتذار لم يكن كافيًا.
"آسفة؟ هذا الخطأ سيكلفكِ يومين دون طعام!" صاحت تشا، وكأنها وجدت أخيرًا فرصة لتفريغ الغضب المتراكم، الذي لم يكن موجّهًا حقًا إلى إيرين وحدها، بل إلى الحياة نفسها، إلى شبابها الذي تبخر وهي تركض بين غرف الخدم، وإلى الرجل الذي وعدها يومًا أن يأخذها بعيدًا، ثم اختفى مع أول فرصة.
وقبل أن تتمكن إيرين من الاعتذار مجددًا، انبعث صوت خطوات ثقيلة. كانت خطوات متزنة، واثقة، تتردد أصداؤها في أرجاء الرواق كجرس إنذار.
دخل كوان ببدلته السوداء، التي كانت أنيقة رغم بساطتها. بدا ظله أطول من المعتاد، وكأن القصر نفسه ينحني حين يمر. عيناه الباردتان، كقطعتي جليد صافيتين، مسحتا المكان بنظرة سريعة، لكن دقيقة.
"ما الذي يحدث هنا؟" سأل بصوته الهادئ، لكن في نبرته شيءٌ يجعل القلوب ترتجف.
تصلبت السيدة تشا، ترددت للحظة، لكنها سارعت إلى استغلال الموقف. أشارت بإصبعها النحيل نحو الكوب الم**ور. "هذه الخادمة أتلفت كوب السيد دايسيك المفضل. ثمنه لا يقل عن عشرة ملايين وون!"
رفع كوان حاجبه، ثم رمق الكوب بنظرة قصيرة، كأنما يُقيّمه بنظرة خبيرة. لم يبدُ عليه الغضب، ولا الدهشة. ثم التفت إلى إيرين، التي كانت تحدق بالأرض، تبتلع خجلها ودموعها معًا.
"وكم ثمن هذا الكوب؟" كرر سؤاله بنبرة أخفض.
"عشرة ملايين وون، على الأقل!" أجابت تشا، كأنها تحاول تأكيد المأساة.
فتح كوان محفظته الجلدية السوداء بهدوء، وأخرج ورقة نقدية، ثم ألقى بها أمامها دون حتى أن ينظر. "هذا يكفي لعشرة أكواب. الآن اتركيها."
لم تتردد تشا طويلًا. الطمع كان أقوى من كرامتها. اختطفت الورقة وسحبت يدها، لكنها لم تفوّت فرصة أن تهمس قرب أذن إيرين بنبرة خبيثة:
"أنتِ محظوظة... هذه المرة فقط."
عينا إيرين ترقرقتا، لكنها ضغطت شفتيها حتى لا تنهار.
كانت تحاول أن تتماسك، ألا تكون أضعف مما تبدو، وأن تحافظ على كرامة لا تملك غيرها.
اقترب منها كوان، يده في جيبه، وقال بنبرة محايدة تخفي أكثر مما تظهر:
"الجوع ليس عقابًا مناسبًا لخطأ صغير."
ثم أشار لأحد الخدم: "أحضِر لها فطوراً."
علا الذهول وجوه الخدم. لم يسبق أن تدخل كوان في شؤون المطبخ. وعندما وُضِع الطبق أمامها، اقترب منها وهمس:
"الحرص الزائد يفضح أحياناً أكثر من الإهمال."
ثم غادر، تاركًا خلفه ارتجافة غريبة في أصابعها، كأن كلماته اخترقتها ببطء.
---
في اليوم التالي، وبينما كانت إيرين ترتب الزهور في الصالون الرئيسي، تسلل إليها بعض الدفء من ضوء الشمس الخافت. كانت تحاول أن تُنسي نفسها أحداث الأمس، أن تذوب بين رائحة الورد وزجاج الفازات.
لكن السلام لم يدم.
دخلت شيناي، زوجة دايسيك، كعاصفة ملوّنة بالعطر والدماء الزرقاء.
كان كعب حذائها العالي يطرق الأرض بإيقاع سلطوي، وعيناها تضيقان كأنها تقيس كل شيء من حولها بمسطرة غير مرئية.
"أوقفي ما تفعلينه!" أمرت بصوت كالسياط.
سقطت زهرة من يد إيرين، وقالت مرتبكة: "نعم، سيدتي..."
اقتربت شيناي بخطوات محسوبة، لكن طاقتها كانت متفجرة، غضبها لا يهدأ.
"الكل يتحدث عن كيف أن كوان يُنقذكِ مراراً. هل تظنين أن جمالكِ الصغير سيمنحكِ مكانة هنا؟"
"لا أظن، سيدتي..." حاولت أن تبدو واثقة، لكن صوتها المرتجف خانها.
أمسكت شيناي بذقنها بعنف، وأجبرتها على النظر في عينيها.
"أنتِ خادمة، وستبقين كذلك. ولو رأيتكِ مرة أخرى تقتربين منه، سأطردكِ للشارع حيث تنتمين."
لمعت دمعة في عين إيرين، لكنها لم تسقط... إلا بعد أن استدارت شيناي.
---
في المساء، وجدت إيرين نفسها في العلية الضيقة. كان السقف المنخفض يعانق الظلال، والجدران الخشبية تئن من البرد. جلست تضم ركبتيها، تنكمش داخل نفسها، كأنها تحاول النجاة من كل شيء في آنٍ واحد.
رن هاتفها المحمول الصغير برسالة قصيرة من "ليون":
> "المستندات الأخيرة كانت مفيدة. استمري."
قرأت الرسالة بجمود. لم تعد تعرف هل هي خادمة أم جاسوسة... ضحية أم لاعبة.
لكن قبل أن تُخفي الهاتف، سمعت صوت خطوات على الدرج.
ظهر كوان في المدخل، يحمل مصباحًا يدويًا. كانت ظلال وجهه ترقص على الضوء، تترك نصف ملامحه في الظلام.
"ماذا تفعلين هنا؟" سأل بهدوء.
"اتركني وحدي..." ردّت، صوتها مخنوق، ونفسها قصير.
لكنه لم يتركها. جلس على بعد خطوة منها، بصمت.
"العلية باردة. ستُمرضكِ."
نظرت إليه بعينين حمراوين، وقلبها يغلي:
"لماذا تهتم؟ هل تستمتع بمراقبتي وأنا أتحطم؟"
لم يرد فورًا. نظر أمامه، ثم قال بنبرة منخفضة:
"أعرف طعم الضياع. وأنا لا أراقبك، بل أراك."
ارتبكت، وساد الصمت.
"أبي مات وأنا في عمرك،" قال فجأة، "وعمّي دايسيك هو من ربّاني. لكنه ربّاني بقسوة. لم أنسَ شعور الوحدة... ولا طعم الخوف."
نهض ببطء، ووضع سترة صوفية بجانبها.
"لا ترفضي اليد التي تُمد إليك، حتى لو شككتِ فيها."
ثم غادر، دون أن يلتفت.
تركت وحدها، تحدق في السترة، وفي قلبها سؤال لم تجد له إجابة:
من هو هذا الرجل حقًا؟ ولماذا يشعرها أنها ليست وحدها؟
---
في الطابق السفلي، كان دايسيك يوقع أوراق مشروعه الجديد، يتحدث في الهاتف عن توسعة نفوذه في المدينة.
لكنّه لم يكن يعلم... أن العاصفة التي خطط لها ستبدأ من حيث لا يتوقع.
من خادمةٍ صغيرة...
من دمعةٍ سقطت في صمت...
ومن نظرةٍ لم تُحسب في ميزان السلطة.