تحت ظلال القصر

833 Words
مرت الأيام على إيرين بشكل غريب، وكأنها تعيش حياة مزدوجة. في الصباح، كانت تودع أمها وأخاها بابتسامة مطمئنة، تخفي بها التوتر الذي يكبر في قلبها، ثم تنطلق إلى القصر، حيث تتحول إلى خادمة بملامح هادئة وخطوات حذرة حتى اصبحت تقيم هناك . سرعان ما تعلمت تفاصيل العمل، كيف تترتب الأسرة بدقة، كيف يُقدّم الشاي دون أن ينسكب، وكيف تختفي عن الأنظار حين لا يُراد وجودها. لكن خلف عينيها الهادئتين، كانت تُراقب كل شيء. دايسيك لم يكن رجلاً سهلاً. صوته الجهوري كان يملأ القصر، وكان يحيط نفسه برجال ذوي نظرات متوجسة. في كل اجتماع خلف أبواب مغلقة، كانت هناك معلومات تتسرب، وجمل تُقال بلا اكتمال. وكانت إيرين تحفظها، حرفاً حرفاً. وفي كل ليلة، كانت تمسك هاتفها الصغير، ترسل رسالة مختصرة إلى ليون: > "بارك جين-سو زاره اليوم. تحدثوا عن مشروع أراضٍ مشبوه، وتحويل أموال إلى جزر كايمان." وكان ليون يرد دائماً بجملة واحدة أو اثنتين، توجيهات واضحة، بلا عاطفة: > "تابعي ملفاته الورقية. وتأكدي من أسماء العقود التي يوقعها." لكن ذلك الصباح كان مختلفًا. بينما كانت تحمل كومة من الأغطية الثقيلة بين ذراعيها، شعرت بخطوات سريعة تقترب من خلفها، ثم... اصطدام. الأغطية تهاوت على الأرض، وصوتها اخترق صمت الممر. "آسفة! أنا آسفة جداً!" قالتها بسرعة، وهي تنحني لتلتقط الأغطية. لكن قبل أن تلمس أول قطعة، رأت حذاءً جلديًا باهظ الثمن أمامها، ورفعت رأسها لتجد كوان وو واقفًا، يتأملها بنظرة لا تحمل قسوة، بل شيء أشبه بالفضول. "أنتِ الجديدة، أليس كذلك؟" قالها بصوت هادئ، دون أن يبدو منزعجًا. "نعم، سيدي. آسفة على الإزعاج." ردّت بخوف، وهي تحاول جمع الأغطية دون أن تنظر مباشرة في عينيه. لكن ما حدث بعدها لم يكن متوقعًا. انحنى ليساعدها، بكل هدوء، وكأن وجوده هناك لا يتبع قواعد القصر ولا بروتوكولاته. "أنتِ صغيرة جداً لتكوني هنا." همس، وهو يناولها أحد الأغطية. كانت على وشك أن تنطق، لكنها ترددت. هل كان هذا فخًا؟ أم مجرّد لحظة عابرة من تعاطف؟ اكتفت بجملة مقتضبة: "أنا بخير، سيدي. شكراً." نظر إليها للحظة، كأنه يبحث في ملامحها عن شيء يعرفه، ثم قال: "إذا احتجتِ إلى شيء... أخبري كبير الخدم." ومضى. في تلك الليلة، قلبها لم يهدأ. جلست على طرف سريرها في غرفة الخدم الصغيرة، وأرسلت الرسالة: > "كوان ساعدني اليوم بعد أن اصطدمت به. هل هذا جزء من الخطة؟" ولم يتأخر الرد: > "لا. كوني حذرة. لا تثقي به." أغلقت الهاتف ببطء، لكن قلبها ظل مشغولًا. لم تكن نظراته عابرة. لم يكن كوان كغيره من الموجودين في القصر. شعرت بأنه رأى ما لا يجب أن يراه. وفي مكانٍ ما في الطابق العلوي، جلس كوان في غرفته المظلمة، أصابعه تداعب كوباً نصفه فارغ. لم يكن يفكر في خطط دايسيك تلك الليلة... بل في الفتاة التي اصطدم بها في الممر، وفي عينيها التي لم ترتجفا كما اعتاد. استقرّت إيرين في القصر كشبحٍ يعرف كل الزوايا. كانت تتحرك بين الممرات بخفة قطة، عيناها تسجلان كل تفصيل بينما يداها تمسحان الغبار أو ترفعان الأطباق. في النهار، خادمة مطيعة. وفي الليل، جاسوسة تهمس بالأسرار لهاتفها المخفي. لكن المهمة كانت تزداد صعوبة. بعد أشهر، طلب منها ليون المستحيل: "أحتاج صوراً لوثائق مكتبه الشخصية". كانت تعرف أن هذه لعبة خطرة، لكن فرصة ذهبية أتت عندما غادر الجميع القصر فجأة في ظهيرة أحد الأيام. تحت ضوء النهار الخافت الذي يتسلل من النافذة، انزلقت إلى مكتب دايسيك. أصابعها ترتجف وهي تفتح الأدراج ببطء. "عقود مشبوهة... أرقام حسابات..." التقطت صوراً سريعة بينما قلبها يخفق كطبل حرب. فجأة... صرير الباب. التفتت بذعر لترى كوان واقفاً على العتبة، عيناه الضيقتان تلتقطان يديها فوق الأوراق المبعثرة. لحظة صمت طويلة اخترقها سؤال جاف: "ماذا تفعلين هنا؟" التفتت إي رين بسرعة وهي تخفض رأسها، محاولة إخفاء توترها، وقالت بصوت هادئ: "كنت أنظف المكتب، سيدي." حدّق كوان وو بها للحظات، وكأنه يحاول قراءة أفكارها. لم يكن غ*ياً، وكان يعلم أن هناك شيئًا غير طبيعي. "في هذا الوقت؟ وفي مكتب عمي تحديدًا؟" سألها بصوت منخفض لكنه حاد. ضغطت على المنديل في يدها وقالت بثبات: "السيدة تشا طلبت مني التأكد من نظافة المكان. لم أكن أعلم أن ذلك يثير الشك." ظل يراقبها، وكأن عينيه تبحثان عن أي اهتزاز في صوتها، أي ارتباك في تعبيراتها، لكنها حافظت على هدوئها. تن*د أخيرًا وقال: "لا تكرري هذا… لا تقتربي من مكتب عمي مجددًا." ثم استدار ليخرج، لكن قبل أن يغادر، توقف للحظة وقال بنبرة باردة: "إيرين… لا تجعلي نفسك جزءًا من أشياء لا يمكنك الهروب منها." ثم غادر، تاركًا إياها واقفة هناك، قلبها ينبض بشدة… هل كان يشك بها؟ أم أنه يحاول تحذيرها من شيء أخطر؟ في المساء، حول مائدة العشاء الفاخرة، كانت إيرين تقدم الشاي بيدين ثابتتين هذه المرة. دايسيك كان يتباهى بمشاريعه الجديدة: "سنشتري كل الأراضي حول النهر. الحكومة وعدتنا بتسهيلات..." لكنها لاحظت أن كوان لا يشارك الحماس. عيناه كانتا تتابعان حركاتها بينما هي تتجنب النظر إليه. عندما مدت الكوب أمامه، أمسك بمعصمها للحظة أطول من اللازم، همس بكلمة واحدة فقط: "حذرة..." أحست بقطرات عرق باردة تنزلق على ظهرها. هل كان يحذرها؟ أم يهددها؟ في تلك الليلة، بينما كانت المدينة تنام، جلست على حافة سريرها في غرفة الخدم الضيقة، تكتب رسالة لليون: "كوان وو يشك بي. لكني حصلت على المستندات. ماذا الآن؟" الرد جاء سريعاً: "استمري. هو مجرد ظلّ لا يملك دليلاً." لكن عندما أطفأت الأنوار، ظلت عيناها مفتوحتين في الظلام. تذكرت نظرة كوان الأخيرة - لم تكن غاضبة... بل أشبه بتحذير من عاصفة قادمة.
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD