عودة بشروطي

1433 Words
في صباح اليوم التالي، توقفت سيارة أجرة صغيرة أمام بوابة شركة "دايسيك غروب". فتحت الباب بهدوء، نزلت منه إيرين بخطى خفيفة، لكن وجهها كان أكثر صلابة من الأمس، وعيناها لا تشبهان تلك التي خرجت خائفة منذ أيام. دخلت المبنى متجاهلة نظرات الموظفين، بعضهم تعرّف عليها، وبعضهم لم يصدق أنها عادت. صعدت إلى الطابق العلوي، حيث كان مكتب دايسيك يعلو المشهد كموقع حكمٍ لا يُخترق. طرقت الباب، فجاءها صوته الحاد: "تفضلي." فتحت الباب ببطء، دخلت بهدوء ووقفت أمام مكتبه، لم تنحنِ، لكن جسدها حمل نبرة خضوع محسوبة. رفع دايسيك عينيه عنها، نظر إليها مطولاً، استند إلى الخلف على مقعده وقال بنبرة مشوبة بالريبة: "هل فقدتِ طريق المستشفى؟" أجابت بصوت خافت، لكنه واضح: "لا مكان لي أذهب إليه. لا أسرة، لا مأوى… ولا رغبة في شيء سوى العودة إلى القصر." ظل ينظر إليها، دون أن يتكلم. أكملت إيرين، عيناها ثابتتان، ونبرتها تخفي ألماً مرًّا: "أنا لا يمكن أن أحب كوان، ولا أريده أن يهتم بي. اهتمامه يرهقني… ويؤذيني. فقط أريد أن أعود إلى مكاني." ضحك دايسيك بخفة، ضحكة قصيرة لكنها خالية من المرح: "أخيرًا… فتاة تفهم حدودها." وقف من كرسيه، دار حول المكتب، اقترب منها قليلًا، ونظر في عينيها نظرة اختبار: "ولِمَ أقبلكِ من جديد؟" أجابت، تنظر للأرض: "لأني لا أملك شيئًا… لكنني أملك الولاء إن شعرت بالأمان. سأكون تحت خدمتك، كما كنت." صمت دايسيك لثوانٍ طويلة. ثم أومأ برأسه وقال: "ستعودين. ولكن بشروطي." رفعت بصرها نحوه، ببطء. أردف: "لا اختلاط بكوان. لا كلمة واحدة معه دون إذني. تعيشين في الجناح القديم، دون رفاهية، دون خصوصية." هزّت رأسها بخضوع: "موافقة." نظر إليها لوهلة طويلة، ثم أشار للباب: "اذهبي الآن، سيتواصل معك أحد الموظفين لترتيب عودتك." استدارت بهدوء، غادرت المكتب دون أن تنظر خلفها، لكن داخليًا… لم تكن إيرين تلك الفتاة البريئة العائدة للاستسلام. لقد عادت، نعم… لكنها لم تعد كما خرجت. لم يكن أحد يتوقع أن يروا إيرين مجددًا، حتى أولئك الذين لم يحبوها شعروا بنوع من الحذر عند رؤيتها، وكأنّها عادت بشيء لم يكن فيها من قبل. كانت مييون أول من لمحها، واقفة عند الممر الجانبي، تمسك بملف العمل وتحاول أن تتأكد من أنها لا تتخيل. اقتربت بخطى سريعة، وجهها يحمل صدمة: "إيرين؟... أنتِ حقًا هنا؟" رفعت إيرين رأسها ببطء، بملامح هادئة لكنها جامدة، نطقت بخفّة دون ابتسامة: "مرحبًا." قبل أن تتمكن مييون من الرد، ظهر كوان من نهاية الممر، كأنه اقتحم المكان بعاصفة من القلق. توقفت عيناه على إيرين، وسرعان ما اقترب منها مسرعًا. "إيرين!" قال بصوت متهدج. مدّ يده وأمسك بيدها، وكأنه كان يبحث عن دليل ملموس على وجودها. لكنها انتزعت يدها بسرعة، وعيناها تبرقان بالألم والغضب. صرخت بصوت مرتجف: "اتركني!! لا تلمسني!! لا أريد أن أراك!" صمت المكان فجأة. توقفت مييون عن الحركة، وتجمّد كل من كان في الممر. تابعت إيرين، وصوتها يزداد حدة: "أنت تسبب لي المتاعب! ترهقني... تلاحقني كأنني مشروع شخصي لتثبت لنفسك شيئًا! أنا فقط فتاة عادية، لست لعبة تتحدى العالم بها لتبدو متمرّدًا ومختلفًا!" حدّق بها كوان مصدومًا. لم يتكلّم، لم يدافع عن نفسه، ولم يقترب. كانت تلك الكلمات كطعنة، لكنها لم تكن بغضبٍ فارغ... بل بحزنٍ ثقيل وقرار نهائي. استدارت إيرين وغادرت بخطى سريعة، ووجهها ينكمش من الداخل. كان الصمت يُخيم على المكان حتى ظهر صوت الكعب العالي يقترب، مييون كانت واقفة إلى جانب كوان، تراقب وجهه المحطم ببرود، وقالت بلهجة خافتة، لكن سُمها واضح: "هذا ما يحدث... عندما تعطي خادمة أكبر من قيمتها." لم يردّ كوان. بقي واقفًا في مكانه، بعينين تائهتين نحو الفراغ. من خلف جدار زجاجي في الأعلى، كان دايسيك يراقب المشهد. سمع كل شيء. ارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة من الرضا، ثم تمتم بصوت خافت لا يسمعه أحد: "أحسنتِ يا إيرين... أخيرًا، تتعلمين اللعبة." خرجت إيرين من الشركة بخطى متعثرة، وعيناها ممتلئتان بالدموع. لم تعد قادرة على التماسك، وكل ما فعلته طوال الأيام الماضية من صبر وانضباط انهار في لحظة. رفعت يدها لتوقف سيارة أجرة، لكن قبل أن تفتح الباب، سُمِع صوت مألوف خلفها: "إيرين!" كان كوان يركض نحوها، صدمته لا تخفى. وقف أمام السيارة، يمنعها من الركوب، ينظر إليها بعينين تبحثان عن معنى، عن تفسير. "ما الذي جرى؟ لماذا تغيرتِ فجأة؟ ماذا فعلت لكِ؟!" لكن صوتها ارتفع، لم تكن تصرخ عليه فقط، بل على كل شيء مرّت به: "أنت لا تفهم شيئًا! توقف عن ملاحقتي، أنت تُفسد كل شيء بوجودك!" حاول أن يقترب، فدفعته بعيدًا، ثم ركبت السيارة وأغلقت الباب بعنف. كانت شاحبة، عيناها حمراوان، وبداخلها إعصار من الألم والغضب المكبوت. وقفت السيارة تمضي بعيدًا، وكوان بقي واقفًا مكانه، يشعر أن المسافة بينهما لم تعد تقاس بالأمتار... بل بالألم. --- في المساء، اجتمع الجميع حول مائدة العشاء الكبيرة في القصر. الجو ثقيل، الصمت يسيطر حتى قطع دونيون، ابن دايسيك، الصمت بسخرية: "هل سمع أحد بما فعلته الخادمة اليوم؟ يبدو أنها لقّنت أحدهم درسًا أمام الجميع." لم يذكر الاسم، لكن العيون كلها توجهت إلى كوان، الذي بقي هادئًا، يقطّع قطعة من اللحم دون أن يرفع رأسه. تابع دونيون بابتسامة مزعجة: "اهتمامك بخادمة لا قيمة له، مهما حاولت، لن تصبح شيئًا مميزًا فقط لأنك أحببت من لا تليق بك." ارتفعت حاجبا شيناي، وضحكت ضحكة خفيفة، بينما كانت ترشف الحساء. وضع كوان السكين والشوكة على الطاولة بهدوء، ثم نظر إلى دونيون نظرة ثابتة، وقال بنبرة باردة وحادة: "ما لا قيمة له... هو الحكم على الآخرين بمنصبهم لا بشخصهم." ساد الصمت فجأة. حتى شيناي توقفت عن الضحك، وعين دايسيك التفتت نحو كوان بدهشة خفيفة. أكمل كوان بهدوء: "أن تكون خادمة لا يعني أنها أقل... لكن أن تكون بلا قلب، هو ما يجعل الإنسان تافهًا." ثم وقف، وترك المائدة، واتجه بهدوء إلى الحديقة. كان الليل قد حلّ، والنسيم يداعب أغصان الأشجار. جلس كوان على المقعد الخشبي قرب النافورة، يحدّق في انعكاس القمر على الماء. في داخله شيء ان**ر... لكنه لم يمت. أما شيناي، فتابعت الضحك وحدها، وكأن ما يحدث لا يعنيها إلا كمشهد في مسرحية تحب أن تشاهدها يوميًا. ---كانت إيرين جالسة على الأريكة، غارقة في أفكارها، يداها متشابكتان فوق حجرها، وعيناها لا تفارق الأرض. صمتها كان ثقيلاً، لكن سرعان ما قطعته بنبرة خافتة: "أعتقد أنني كنت قاسية جدًا عليه…" كان ليون يجلس مقابلها، كوب القهوة بين يديه، يراقبها بعينين هادئتين، لكن صارمتين. "كوان؟" سأل بنبرة يعرف الإجابة مسبقًا. أومأت ببطء، ثم قالت: "صرخت عليه أمام الجميع... انتزعت يدي منه كأنني أكرهه، لكن الحقيقة... أنني فقط لا أستطيع احتماله وهو يقترب مني. كلما اقترب، أشعر أنني سأنهار." شرب ليون رشفة من قهوته، وضع الكوب على الطاولة، ثم اتكأ للأمام وقال: "إيرين، اسمعيني جيدًا. نحن لم نأتِ إلى هنا لنغرق في مشاعرنا. تذكّري من دمر عائلتك... من دمّر حياتك. دايسيك هو الهدف، لا تنسي هذا." نظرت إليه إيرين بعينين مليئتين بالتعب، وكأنها تمشي على حافة هاوية بين عقلها وقلبها: "لكن كوان… لم يؤذني. بل على الع**، كان دائمًا... موجودًا. حتى عندما لم أطلب منه شيئًا." ابتسم ليون بسخرية: "وهذا بالضبط ما يجعله مفيدًا. وجوده سيساعدك، صدقي، هو لن يتوقف عن حمايتك مهما قلتِ له. لكن لا تنخدعي... هو ابن هذا النظام، من هذا العالم. في النهاية، سيختار ولاءه لعائلته." سادت لحظة صمت. ثم همست إيرين: "غدًا سأعود إلى القصر." نظر إليها ليون باهتمام. "هل أنتِ واثقة؟" هزّت رأسها، وهمست بصوت مهتز: "لا. لكن... لا أستطيع الهرب إلى الأبد. هذا الطريق يجب أن يُكمل." تنهّدت بعمق، ثم نظرت إلى يدها، وكأنها ما زالت تشعر بلمسة كوان، وقالت: "أصعب ما في الأمر… أنني لا أعتقد أنني سأستطيع النظر في وجهه مجددًا." أغمض ليون عينيه للحظة، ثم قال بهدوء: "حين يصبح الانتقام ضرورة… لا مكان للندم، فقط الصبر والثبات." نظرت إيرين نحو النافذة، كانت النجوم تتلألأ في السماء، لكن لا دفء فيها. داخلها كان الشتاء قد بدأ. في الصباح الباكر، كانت السماء رمادية، والندى لا يزال عالقًا على العشب حين توقفت سيارة الأجرة أمام بوابة القصر الحديدية. ترجلت إيرين بهدوء، ترتجف يداها لكنها تماسكت. نظرت إلى القصر للحظات، كما لو كانت تودّع نفسها القديمة قبل أن تخطو داخله من جديد. دخلت بهدوء، خطواتها تكاد لا تُسمع على الرخام البارد، وانحنت بانضباط أمام شيناي ودايسيك اللذَين كانا في انتظارها داخل الصالة الكبرى. رفعت رأسها قليلاً، لتقع عيناها على دايسيك، الذي ابتسم تلك الابتسامة الماكرة، الخالية من أي دفء. قال بصوت جامد: "عودتك مشروطة يا إيرين… أتظنين أننا سنسمح بتكرار ما حدث؟" تقدمت شيناي بخطوة، ورفعت حاجبها بازدراء: "أولاً، ممنوع تمامًا الاقتراب من السيد كوان. ثانيًا، أي تجاوز آخر منكِ يعني الطرد، وربما السجن. أنتِ تحت التهديد... هل هذا واضح؟" أومأت إيرين بصوت خافت، وعينان خاليتان من التحدي: "مفهوم… أعدكم أن أكون كما تريدون." ابتسم دايسيك ب ***ة وكأنه ربح جولة جديدة، ثم أشار بإصبعه نحو الدرج: "اذهبي إلى رئيسة الخدم، سترشدك إلى مهامك الجديدة." استدارت إيرين دون كلمة، وتوجهت إلى الطابق السفلي، حيث كانت رئيسة الخدم، السيدة "هوانغ"، تنتظرها بوجه صارم. نظرت إليها وقالت: "أهلاً بكِ مجددًا، يا فتاة. غرفة تنظيف الزجاجيات، ثم الغرف الشرقية. عملك سيكون صامتًا، من دون أسئلة، ومن دون توقف. مفهوم؟" أومأت إيرين مجددًا، ثم أخذت المئزر الذي وُضع بين يديها كأنها تعتمر هوية جديدة… بلا صوت، بلا رغبات، فقط خطة سرية تدفنها داخل قلبها. لكن ما لم تكن تعرفه هو أن كوان، من الطابق العلوي، كان قد لمح ظلها من النافذة… وعيناه اتسعتا بدهشة وشيء يشبه الألم.
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD