في صباح يوم بارد، بينما كانت الشمس بالكاد تخترق ضباب المدينة، وقفت إيرين أمام المقهى الصغير، تنتظر بقلب خافق. أصابعها العارية من القفازات كانت تتشبث بورقة القبول البالية التي تسلمتها قبل أيام. الباب فتح فجأة بصوت صرير، وظهر صاحب المقهى، رجل في الخمسينيات من عمره بشارب كث وبطن تبرز من تحت مريوله الأبيض المتسخ.
"أنتِ الفتاة الجديدة؟" سأل وهو يتطلع إليها من فوق نظارته السميكة. "تعالي، سأريك مكان الغسيل."
دخلت إيرين إلى الداخل حيث رائحة القهوة القديمة تختلط برائحة الصابون الرخيص. الحوض المعدني الكبير كان مليئاً بأكوام من الأكواب والصحون المتسخة، ماء الغسيل البارد قد تحول إلى لون بني غامق. "هنا ستغسلين كل هذا قبل نهاية الدوام"، قال الرجل وهو يخرج سيجارة من علبته. "وألا... فلن تحصلي على القرش."
عملت إيرين بلا توقف، الماء البارد يجعل أصابعها تتشقق وتنزف، لكنها لم تتوقف. في زاوية المقهى، كانت تسمع ضحكات الزبائن وتنظر خلسة إلى الساعة بين الحين والآخر. كل دقيقة تمر كانت تعني مالاً إضافياً قد ينقذ أمها وأخاها من الجوع.
عندما أغلقت أبواب المقهى في منتصف الليل، كان ظهرها يؤلمها وكأنه يحمل جبلاً. صاحب العمل ألقى إليها ببعض العملات وهي تتساقط على الأرض. "غداً تأتين مبكراً"، قال وهو يغلق الباب خلفها.
في طريق العودة، كانت الشوارع خالية إلا من بعض السكارى والمتشردين. أحدهم حاول الإمساك بذراعها، لكنها هربت بسرعة، قلبها يخفق كطبل حرب. تحت الجسر، وجدت أمها تحاول إشعال نار صغيرة من بقايا الأخشاب، بينما داي-هيون نائم ملفوفاً في البطانية الرثة.
"ها هو طعامنا"، قالت إيرين وهي تخرج رغيف خبز وبعض الجبن القديم من حقيبتها. نظرت إليها أمها بعينين دامعتين، لكنها لم تقل شيئاً. كان الصمت بينهم أثقل من أي كلام.
بعد أسابيع من العمل الشاق، تمكنت أخيراً من جمع ما يكفي للتسجيل في ملجأ المشردين. المكان كان مبنياً من الخرسانة الباردة، الغرف المشتركة مليئة بالصراخ والبكاء، لكن على الأقل كان هناك سقف يحميهم من المطر، وأسرّة متعفنة لكنها أفضل من الأرض الرطبة.
في أول ليلة لهم هناك، استيقظت إيرين على صوت شجار في الغرفة المجاورة. نظرت إلى أمها وأخيها النائمين، ثم أغلقت عينيها محاولةً تجاهل الضجيج. في ص*رها، بدأ شيء جديد ينمو - ليس ألماً ولا حزناً، بل إصراراً غريباً. كل قطعة نقود كانت تخبئها في جوربها القديم تحت الوسادة كانت خطوة نحو شيء ما... شيء لم تكن تعرف ما هو بعد، لكنها شعرت أنه قادم.
وفي تلك الليلة، بينما كانت المدينة تنام خارج نوافذ الملجأ المتسخة، حلمت إيرين حلماً غريباً. حلمت بأنها تقف في مكان واسع، ترتدي ملابس نظيفة، وتنظر إلى أسفل حيث يركع دايسيك أمامها، عيناه تفيضان بالرعب. وعندما استيقظت، كانت تعرف شيئاً واحداً: هذا ليس حلماً... بل وعد.
في احد الايام كان الصف أمام مطبخ الملجأ في يلتف كأفعى جائعة، يتقدمه المئات بأجساد هزيلة وملامح متعبة، تمد أياديها المتسخة نحو الحساء الباهت و بعض الارز. وقفت إيرين وسط الزحام، تحيط بذراعيها شقيقها الصغير داي-هيون، محاولة حمايته من الدفع والازدحام، بينما كان الجوع يعصف بمعدتها الخاوية.
همست في أذنه بنبرة مطمئنة: "سنأكل اليوم، لا تقلق." لكن عينيها بقيتا معلقتين على الأواني المعدنية التي كانت تنفد شيئًا فشيئًا.
وعندما وصلا إلى نافذة التوزيع، أغلق العامل الواجهة فجأة وقال ببرود: "انتهى الحساء. عودوا باكرًا غدًا."
"أرجوك! أخي مريض!" توسلت إيرين بصوت مخنوق، لكن الرجل لم يُجب، واختفى خلف النافذة المغلقة. في تلك اللحظة، اندلع شجار بين رجلين في الصف، وبدأ الجميع يتدافع في هلع. دُفعت إيرين بقوة فسقطت على الأرض، وارتطم ذراعها بشيء حاد، ما تسبب بجرح عميق نزف على الفور. أما داي-هيون، فصرخ بفزع وهو يحاول جذبها بعيدًا عن الأقدام المتراكضة.
ثم جاءها صوت أنثوي دافئ من خلفها: "خذي هذا."
التفتت فرأت امرأة مسنّة ترتدي "هانبوك" قديماً لكنه نظيفاً، تمدّ لها صحنا صغيراً . في داخله بعض الأرز .
قالت العجوز بلطف: "أنتِ وأخوكِ بحاجة إليه أكثر مني."
نظرت إليها إيرين مذهولة، ثم انحنت برأسها في صمت شاكر، فيما اختفت العجوز في الزحام كأنها لم تكن.
في صباح اليوم التالي، كانت إيرين تعمل في مقهى صغير بأحد أحياء سيول المزدحمة، تحمل صينية مليئة بالأكواب الساخنة. وبينما كانت تتنقل بين الطاولات، شعرت بنظرة ثقيلة تلاحقها. التفتت لترى شابًا يجلس في الزاوية، يرتدي معطفًا أ**د وعيناه تتأملانها بتركيز غريب.
وحين دخلت إلى المطبخ لتحضير طلبه، فوجئت به يقف خلفها فجأة، بصوت خافت ونبرة حزينة قال:
"عيناكِ... تشبهان عيني والدك تمامًا."
تجمدت في مكانها، والأكواب على الصينية ارتطمت ببعضها.
"هل كنت تعرفه؟" سألت بصوت مرتجف.
ابتسم ابتسامة باهتة لم تصل إلى عينيه، ثم قال:
"كنت أعرفه... وأعرف أيضًا أنه كان ضحية للاستغلال، تمامًا كما أنتِ الآن."
خفق قلبها بعنف، وكأنما كشف أحدهم سرًّا دفينًا حاولت إخفاءه طويلاً.
"ولماذا تخبرني بذلك؟" همست بخوف.
قال بنبرة حاسمة:
"لأن الظلم لا يدوم... ولأن دم والدك لم يجد العدالة بعد."
ثم أخرج بطاقة صغيرة من جيبه ووضعها في يدها المرتجفة.
قبل أن تنطق بكلمة، سمعا خطوات صاحب المقهى تقترب، فانسحب الشاب بهدوء، تاركًا خلفه شعورًا غريبًا ورجفة لم تغادر جسدها.
في المساء، جلست إيرين تحت جسر قريب من محطة المترو، تدرس البطاقة تحت ضوء مصباح خافت.
كانت البطاقة بسيطة، لكن ما كُتب عليها كان كفيلًا بإشعال فضولها:
مين ليون – محامٍ
مكتب العدالة الاجتماعية
شارع نامسان، الطابق الثالث
بدت البطاقة في يدها المشققة كنافذة لعالم جديد، عالم قد يحمل الإجابات التي طالما راودتها في صمت. بقيت مستيقظة تلك الليلة، تحدق في الورقة الصغيرة، بينما غطّت والدتها وشقيقها في نوم مضطرب على حصير بارد.
وفي الجهة الأخرى من المدينة، في أحد منازل النخبة في حي غانغنام، جلس دايسيك في حديقته الزجاجية يحتسي كأسًا من الويسكي النادر، يتصفح مجلة أعمال وهو يقول لزوجته شيناي:
"المشروع القادم سيُحدث نقلة معمارية غير مسبوقة."
أومأت له بابتسامة باهتة، منشغلة بطلاء أظافرها، دون أن يدري أن شابًا يُدعى "مين ليون" بدأ للتو في زعزعة عالمه، قطعةً تلو الأخرى.
بقيت إيرين طوال الليل مُستيقظة، عيناها تحدّقان في السقف المتصدّع للملجأ، بينما كان شقيقها الصغير يغطّ في نومٍ مضطرب بجوارها. كانت أصابعها تعبث بالبطاقة الورقية التي تركها لها ذلك الغريب، تلامسها برفق كما لو أنها تحمل سرًّا قد يبدّل مجرى حياتها. مع أول خيوط الفجر، تسللت من الفراش بهدوء، تركت وراءها ورقة قصيرة كُتب عليها: "سأعود قريبًا"، ثم خرجت إلى شوارع المدينة التي ما تزال تغفو تحت ضباب الصباح البارد.
المبنى في شارع نامسان بدا أكثر فخامة مما توقّعت. واجهات زجاجية لامعة، وسلالم من الرخام، وأبواب دوّارة تنفتح أمام أصحاب البذلات الأنيقة. وقفت أمامه بثيابها الرثّة، تحسّ بجدران المكان تنظر إليها بازدراء. وعندما قيل لها إن "مين ليون" ليس في مكتبه بعد، جلست على الدرج الخارجي، تنظر إلى ساعتها البلاستيكية الرخيصة كل دقيقتين.
مرّ الوقت ثقيلاً، وبدأت الشمس تنسحب ببطء خلف الغيوم الرمادية، بينما تورّمت قدماها من طول الانتظار.
"لم أتوقّع أن تنتظريني هنا."
رفعت رأسها فجأة، لتجد "مين ليون" واقفًا أمامها، معطفه الأ**د يقطر من رذاذ المطر، وعيناه تتأملانها بتعبير غامض.
"تعالي إلى الداخل، الجوّ بارد هنا."
تبِعته إلى مكتب دافئ، تملأه رائحة الخشب والقهوة الطازجة. ناولها كوب شاي ساخن، لكن يديها كانتا ترتجفان بشدة، حتى انسكب جزء منه على الصحن.
"ما الذي تعرفه عن أبي؟" سألت فجأة، وصوتها ي**نها.
أخذ ليون نفسًا عميقًا، ثم قال:
"أعرف أنه لم يكن رجلاً سيئًا كما ظنّ الجميع، بل كان ضحية لرجل قوي، لا يعرف الرحمة."
"من؟" همست إيرين، عيناها تتّقدان بشك وفضول.
أجاب بهدوء:
"رجل اسمه دايسيك. يملك واحدة من أكبر شركات العقارات في البلاد، وشبكة من النفوذ تُخفي وراءها الكثير من الظلم."
كان الاسم غريبًا على مسامعها، لكنها شعرت بشيء يتقلّب في ص*رها، مزيج من الخوف والحذر.
"ولِمَ تخبرني بهذا؟ ما علاقتي به؟"
اقترب ليون قليلًا، وقال بنبرة أكثر جدية:
"لأن هذا الرجل مسؤول عن كثير من الألم الذي عانيتموه، وأنا أبحث عن العدالة، لكني لا أستطيع إسقاطه وحدي. أحتاج إلى شخص من الداخل."
نظرت إليه في ذهول:
"تريدني أن أعمل لديه؟ أن أكون جاسوسة؟"
نهضت فجأة وكاد الكوب يسقط من يدها، "هذا جنون! ماذا لو كشف أمري؟"
أجاب بهدوء:
"لن يتعرف إليكِ. وجهكِ لم يكن يومًا مألوفًا بالنسبة له، وهو لا ينظر في وجوه من هم خارج عالمه. لكنني لا أطلب منكِ أن تخاطري بلا مقابل."
ثم قال كمن يوقّع وعدًا غير مكتوب:
"سأؤمّن لوالدتكِ وأخيكِ حياة كريمة. سكن آمن، طعام جيد، ورعاية طبية طوال فترة تعاونكِ معنا."
سكتت إيرين، والصمت أثقل من أيّ قرار. تخيّلت أمها المنهكة، وأخوها الهزيل، سنوات من الانتظار والبؤس... فهل يكون هذا طريق خلاصهم؟
أخيرًا، قالت بصوت منخفض:
"وكيف سأدخل إلى عالمه؟"
ابتسم ليون للمرة الأولى وكأنّه كان يعرف أنها ستوافق في النهاية.
"لديه مشروع جديد، ويبحث عن موظفين في خدمات الضيافة. ستكون البداية من هناك. أما التفاصيل، فسنتحدّث عنها غدًا."
عندما خرجت إيرين من المبنى، كان المطر قد توقّف، لكن شعورًا أغرب بدأ يتساقط داخلها. لم يكن بردًا ولا دفئًا... بل قفزة نحو المجهول، مزيج من الخوف والرجاء. وكأنها على وشك الدخول إلى لعبة أكبر من قدرتها على الفهم... لكنّها بدأت بالفعل.