أشارت ميمونة لإبنها بالجلوس بجانبها،
- اجلس يا بني و سنقص عليك كل ما حدث.
أشار مرزوان للحراس بالمغادرة، فخرجوا و أغلقوا الباب خلفهم، فجلس أخيرا، استعدادا للإستماع.
بدأت وردة بسرد ما حدث بينها و بين والدها و أفصحت عن كل ما دار بينهما من كلام، ثم التفتت إليه لحظة انتهت من حديثها لتجده مطأطأ الرأس و كأنه يفكر في شيء ما.
هزت ميمونة كتف ابنها مستفهمة،
- ما الذي بك يا مرزوان؟
رفع بصره عن الأرض إلى أمه، ثم إلى وردة، ليقول بعد سكوت،
- سأذهب لأحدث السلطان.
هزت وردة رأسها نفيا في نوع من خيبة الأمل،
- لا أظن أن الكلام ينفع.
وقف قائد الجنود عن مجلسه، ثم قال متجها نحو الباب،
- مع ذلك، سأحاول. سأجد لك حلا.
- سيغضب عليك أيضا يا مرزوان.
التفت إليها،
- لا أهتم. فغضبه عليك، أسوء عندي من غضبه علي.
ابتسم لها ابتسامة صغيرة، لتبادله بمثلها، ثم لوح لها و لوالدته مودعا،
- سأزورك لاحقا.
- شكرا لك.
أومأ لها ثم غادر، لتقف ميمونة بدورها بعد أن انتهت من طي ملابس الأميرة، ثم استأذنت.
- أنا أيضا سأذهب يا عزيزتي لأحضر لك طعام العشاء.
وقفت وردة ثم قالت،
- لا داعي لذلك يا ميمونة. لا أشعر بالجوع، و لا أظنني أستطيع تناول أي شيء بعد كل الذي حدث.
- لكن لابد من --
قاطعتها الأميرة بابتسامة هادئة،
- إذهبي لترتاحي يا ميمونة. هذا أمر.
ضحكت المربية من كلام صغيرتها ثم أومأت،
- حاضر يا مولاتي. أمرك مطاع.
ثم تبادلتا ضحكة واسعة قبل أن تتجه ميمونة نحو الباب.
ثم ودعت الأميرة مربيتها.
- تصبحين على خير.
التفتت ميمونة و هي تقف عند الباب،
- تصبحين على خير يا صغيرتي.
ثم غادرت.
أطفأت وردة كل المصابيح و تركت واحدا مشتعلا قرب السرير. عادت للجلوس على فراشها، غطت جسدها بغطاء حريري مزركش، ثم استلقت لتجد نفسها وحيدة مع أفكارها المتضاربة، لكن سرعان ما خمدت نيران الأفكار، لحظت غفت و غطت في نوم عميق.
....
بعد منتصف الليل ببضع ثوان قليلة، و الأميرة نائمة، خرج جسد شاب، رشيق القد، طويل القامة، من البئر و كأنه يطفو، ثم انبثقت من ظهره جناحان ضخمان سوداوان يشبهان جناحي غراب، ليرتفع بمساعدتهما أكثر، ثم حط على قدميه. تقدم نحو المخرج المأدي إلى غرفة البئر الى غرفة الأميرة، بعد أن أثار ضوء المصباح المشتعل انتباهه. توقف للحظة يراقب الجسد النائم على السرير، و الذي لا يكاد يرى منه شيئا، ثم استمر في خطواته ليخرج من الظلام إلى المكان الذي يضيئه المصباح. فكشف النور على قدميه الحافيتين، ثم السروال الأبيض الواسع الذي يغطي ساقيه، و فوقه حزام ذهبي اللون حول خصره، ثم قميص أبيض من ثوب قطني خفيف له فتحة عند الص*ر تظهر بعضا من جسده المفتول و الموشوم ببعض الرموز السوداء اللون، كما ظهرت يداه، ثم سواران من ذهب طويلان عليهما نقوش غريبة حول مع**يه، ثم ذراعاه اللذان تزينهما بعض العروق و التي لا تظهر بوضوح بسبب الوشوم السوداء.
و لحظة وقف عند السرير، كشف الضوء عن الوشوم التي صنعت طريقها من ص*ره، إلى عنقه، و إلى بعض من وجهه، لتفسد بياض بشرته الجميلة، لكنها لم تستطع إفساد ملامح وجهه البديعة.
ذقن جذاب، عظام فك بارزة، شفتان شبه ممتلئتان حمراوتان فاتنتان، أنف مستقيم جميل، و عينان حادتان لونهما عسلي لطيف، ثم شعر بني أشقر، متوسط الطول مموج بشكل مثير، يغطي بعضا من م***ة عنقه، و بضع الخصلات الأمامية تغطي جبينه.
تفحص في استغراب شعرها الأ**د الحريري و جسدها الرشيق الذي يدير ظهره له، ثم همس لنفسه مستفهما،
- من تكون يا ترى؟!
دنى منها بحثا عن ملامحها، لكنه سرعان ما تراجع مذهولا عندما تحركت و استلقت على ظهرها، فبدت له محاسن وجهها التي أذهبت بعقله لثوان. و بعد تردد، نشر جناحيه و رفع بهما جسده قليلا، ليعتلي جسدها وهو يطفوا في الهواء، ثم بدأ يُنزل جسمه ببطئ بمساعدة جناحيه، إلى أن جعل المسافة بينهما قليلة.
أخذت عيناه تتجولان بين معالم وجهها الساحرة و النائمة.
حاجبان متوسطا الكثافة و منظمان بشكل جميل و كأنهما مرسوما بعناية، رموش كثيفة طويلة جذابة، أنف مستقيم مميز الشكل، خدان بارزان يطفيان لطافة على شكل وجهها، و شفتان ممتلئتان حمراوتان فاتنتان.
تمتم لنفسه وهو هائم بحسنها،
- إنها أجمل و أحسن من البدر ليلة اكتماله!
مد يده إلى جبينها، و أزاح خصلات شعرها الأمامية برقة، ثم افتر ثغره عن إبتسامة صغيرة، وهو يمسح بإبهامه على خدها بلطف.
و ما ان استيقظ من شروده و تذكر سبب خروجه من البئر، حتى أبعد يده عن وجهها و عاد للوقوف، ثم أسرع بخطواته نحو الشرفة وهو يردد و كأن باله منشغل بأمر ما،
- تأخرت! تأخرت! سأعاقب على تأخري.
توقف في منتصف الطريق، ثم التفت الى الحسناء التي لا يعرف عنها شيئا، ليلقي عليها نظرة أخيرة، قبل أن يخرج إلى الشرفة، ليجد أمامه جمال منظر مدينة قلب السبعة قصور. شرد في الصورة لمدة وهو يفكر في الصبية بالغرفة.
- من تكون يا ترى؟! و ما الذي تفعله في برج مهجور كهذا؟!
لكن ما من جواب خطر على باله، فأغلق عينيه وهز رأسه ليطرد صورتها وجهها من ذهنه، ثم نشر جناحيه و رفع جسده بكل خفة، ليطير بعيدا نحو السماء باتجاه القمر.
بعد دقائق طويلة من الطيران، بدى له قصر عظيم و كأنه يطفو بين السماء و الأرض، فأسرع مرفرفا بجناحيه و القلق مكتوب بوضوح على صفحة وجهه.
- الليلة سينتهي أمري!
و ما أن اقترب من مدخل القصر و بدى له الحرس عند بابه الضخم، حتى اتسعت عيناه و احتبست أنفاسه، فتراجع و طار مسرعا نحو النوافذ الخلفية.
توقف عند احدى النوافذ و طل برأسه، فوجد مجموعة قليلة من المخلوقات تشبهه، و أخرى أغرب منه شكلا، يصنعون و ينقشون الصور على جدران مجلس فسيح.
و بعد أن التقط أنفاسه، و تأكد أنه ما من أحد ينظر باتجاهه، تسلل من النافذة في هدوء، ثم أسرع نحو أدوات النقش التي كانت على الأرض، و مد يده ليلتقط إحداها، إلا أن صوتا أنثويا قويا جعله يتصلب مكانه، و كأن الدماء تجمدت في عروقه.
- أين كنت يا "تاج"؟
أغلق عينيه و ابتلع ريقه، ثم التفت بعد تردد، ليجد أمامه فتاة خيالية المظهر، ذات بشرة ناصعا البياض كالثلج، مزينة بوشوم أشبه بالزخارف بهيجة فضية اللون. شعرها طويل مسدول يماثل بشرتها في اللون، و على رأسها تاج ذهبي صغير. لها عينان واسعتان سوداوتان، أنف صغير ظريف، و شفتان صغيرتان شديدتا الحمرة. و كان على جسدها فستان طويل فضي اللون مطرز بالذهب و مرصع بالجواهر و الأحجار الكريمة.
تقدمت نحو تاج، و خلفها مخلوقان أغرب منها شكلا يرتديان ثياب الحرس. قال أحدهما موجها كلامه ل تاج،
- ما الذي تفعله؟ أ لن تنحني احتراما؟ أنت في حضرة الأميرة ابنة ملك ملوك الجان!
أسرع تاج في الإنحناء،
- في خدمتك، مولاتي.
افتر ثغر الأميرة عن ضحكة، فأسرعت و عضت على شفتها السفلى لإخفائها. أشارت بيدها للحرس بالخروج، فأطاعوا أمرها، ثم التفتت إلى العمال الذين استمروا في الإنحناء منتظرين منها أمرا، فطلبت منهم العودة إلى عملهم.
تقدمت نحو تاج، و ربتت على كتفه فاستقام، ثم همست له قائلة،
- مولاتي؟! كان ذلك مضحكا!
ابتسم وهو يراقب الجان المنشغلين بعملهم، ثم همس لها،
- أعلم كم تستمتعين بذلك يا لمار!
- لن أنكر الأمر!
تبادلا ضحكة صغيرة قبل أن تشير له الجنية بمرافقته في جولة حول الغرفة، يتفقدان فيها العمل على الجدران.
سألت،
- لماذا تأخرت؟
تردد قبل أن يجيب،
- فقط.. تأخرت في الطريق.
توقفت عن المشي ثم التفتت إليه،
- لا تكذب علي يا تاج.
توقف بدوره،
- أنا لا أكذب!
- و ما الذي قد يؤخرك في الطريق؟!
ابتلع ريقه ثم نظف حلقه،
- فقط.. توقفت.. للحظة.. أتأمل عالم الإنس.
نظرت إليه بعينان تشكان في صدق كلماته،
- هل حاولت الذهاب إلى مدينة البلور مجددا؟
هز رأسه نفيا، مرارا،
- لا! لا! أبدا!
- إذا أفصح و أخبرني أين كنت؟!
سكت وهو يبادل نظراتها الفضوليتان بنظرات مرتبكة. و بعد أن أدركت أنه لن يتحدث، قالت بابتسامة ماكرة،
- حسنا! ما رأيك أن أخبر السلطان عن تأخرك؟!
ضحك كمن لا يصدق ما تسمعه أذناه،
- لن تفعلي!
- حقا؟! راقبني إذا.
و ما إن استدارت نحو الباب، حتى أسرع و أمسك بيدها متوسلا،
- أرجوك لمار!
- إذا أخبرني! أين تأخرت؟
نظف حلقه قبل أن يبوح،
- تأخرت في البرج.
- في البرج؟ و ما الذي أخرك؟!
تن*د مستسلما ثم قال،
- في الغرفة، حيث تتواجد البئر التي أقضي فيها نهار أيامي مسجونا،
التفت إليها قبل أن يكمل جملته بنبرة ساخرة،
- و الشكر يعود لوَالِدِك على ذلك بالطبع-
قاطعته بلكمة على ذراعه،
- أنت تعلم أنك تستحق أن تُسجَن لبقية حياتك. لقد سرقت منه، أم أنك نسيت؟! كن ممتنا لأنه سمح لك بالخروج و العمل ليلا.
قال وهو يمسح على ذراعه،
- لو أنه لم يسجني، لأعدت له الخاتم الذي سرقته منه!
- لقد بحث عن الخاتم في كل مكان ولم يجده!
- أ لم يجده عند ساحر مدينة البلور؟!
تأففت لمار،
- أنت تعلم أنني لا أستطيع، و لا يجب علي أن أخبرك بما حدث! لذلك توقف عن طرح الأسئلة و أجبني. ما الذي أخرك في البرج؟
أجاب بعد **ت،
- فتاة.
اتسعت عيناها،
- فتاة؟! من الإنس؟! في غرفة البرج؟!
أومأ ثم جلس على أحد المقاعد القريبة من موقفه،
- كُنت سجين البئر لمدة عشر سنوات، و في هذه الليلة بالضبط، خرجت لأجد صبية بديعة الجمال، نائمة في سرير غرفة مهجورة. يا له من أمر غريب!
- أ تعرف من تكون؟
- لا أعرف عنها شيئا.
جلست بجانبه و هي تنتظر منه قصّ المزيد،
- و ما الذي حدث؟!
أجاب في نوع من الشرود،
- لا شيء! تأملت حسنها لبضع دقائق، ثم أسرعت إلى هنا بعد أن أدركت أنني تأخرت.
طلبت وهي تراقب ملامحه الهائمة،
- صفها لي.
رسمت شفتاه ابتسامة صغيرة قبل أن يتحدث،
- صبية.. أجمل من البدر ليلة تمامه. شعرها كليالي الهجر، و أما وجهها فكأيام الوصال. لها أنف كحد السيف المصقول، و وجنتان كرحيق الأرجوان، و لها خد كشقائق النعمان، و شفتان كالمرجان و الرقيق.
- تعجبك؟
استيقظ من شروده بعد أن سمع سؤالها، ثم تلاشت ابتسامته،
- يعجبني.. جمالها.
ابتسمت لمار، ثم اقتربت من تاج لتقول بصوت كالهمس،
- الحقيقة أنني أيضا.. معجبة بشاب من الإنس.
التفت إليها مستغربا،
- و من يكون هذا الشاب؟!
- أنت تعرفه جيدا. إنه أمير من أمراء مملكة الغبراء.
تغيرت ملامحه فجأة إلى ما يشبه الدهشة، ثم سأل،
- من منهم؟!
- أمير الغبراء الغربية. قمر الزمان ابن الملك شهرمان.
رفع كلا حاجبيه ثم رد على كلامها بنبرة متعجبة،
- قمر الزمان!
أومأت بملامح مستبشرة ضاحكة، و عينان مشرقتان لامعتان، فأدرك تاج أنها وقعت تماما في شرك حسن قمر الزمان.
تفحصت لمار المكان من حولها ببصرها لتلاحظ أن الجميع منشغل بعمله و لا أحد يعيرهما اهتماما، فأعادت نظراتها المتحمسة إليه، لتنفجر شفتاها عن عبارات إعجاب، غلبت عليها نبرة هائمة، صاحبت صوتها اللطيف،
- إنه كالبدر السافر في الليلة العاكرة. فائق الحسن و الجمال و القد و الإعتدال. كامل الفصاحة، عذب الكلام، ف*نة للعشاق، و روضة للمشتاق. له خدود تشرق احمرارا، و بياض وجهه يشابه بياض القمر الزاهر، و أما سواد شعره فكأنه الليل العاكر.
أطال تاج النظر إلى صفحة وجهها التي تفضح مدى عشقها للأمير، قبل أن يقول في شرود، و ابتسامة صغيرة شبه حزينة تعلو محياه،
- لطالما كان حديث المملكة بأسرها. كامل الملاحة، و ال*قل و الفصاحة. إنه ف*نة للعشاق حتما!
تقلصت ضحكة لمار إلى أن أصبحت ابتسامة تطابق ابتسامته وهي تراقبه، لكن سرعان ما عادت اشراقتها إليها، و لكمت ذراعه برقة مداعبة، لتجعله يلتفت إليها، ثم قالت،
- الحقيقة أن أُمراء الغبراء جميعهم، ف*نة للعشاق!
افتر ثغره عن ضحكة واسعة كشفت عن أسنانه المنظمة، فبدى أكثر لطافة من ذي قبل. ثم عضّ على شفته السفلى في نوع من الخجل قبل أن يقول،
- لكن تلك الصبية، أجمل و أحسن من أن تكون حقيقة.
رفعت لمار حاجبا و هي تحدق به في ذهول، قبل أن تقول بنغمة مازحة،
- أ تقول أنها أجمل من معشوقي قمر الزمان؟!
أجابها بنفس النظرة على وجهها،
- إنها كذلك!
وقفت عن مكانها ثم قالت،
- لنرى من منهما الأجمل إذا!
عقد حاجبيه مستغربا،
- أ تقصدين أنك ترغ*ين برؤية الصبية؟!
- بالطبع!
ثم اتجهت نحو باب المجلس، ليسرع تاج في الوقوف عن مكانه و اللحاق بها.
.....
إبتداء من الأسبوع القادم، سيتم تنزيل فصلين إثنين كل أسبوع،
خلال أيام الجمعة و السبت، ان شاء الله ^.^
.....