خرجت أميرة الجان من المجلس و خلفها تاج يتبعها، لكن سرعان ما توقف الإثنان عند الباب، لحظة انحنى الحارسان للأميرة.
طلبت لمار قائلة،
- سأخرج لبعض الوقت، و سآخذ معي تاج.
قال أحد الحارسين دون أن يرفع عينيه عن الأرض،
- سنرافقك يا مولاتي.
- لا عليكما. لن أبتعد كثيرا، كما أن تاج سيرافقني.
وقبل أن يتمكن الحارس من فتح شفتيه و ينطق بما لديه من كلام، اسرعت لمار باتجاه باب عظيم منقوش، أحد مصرعيه الفضية مفتوح، يكشف عن السماء و أضوائها، انبثق من ظهرها جناحان ضخمان شديدا البياض، أشبه بجناحي حمام، نشرتهما ثم رفعت بهما جسدها، و طارت لتخرج من القصر، فلحق بها تاج، و بقي خلفها إلى أن ابتعدا عن أنظر الحرس.
التفتت إليه لمار ثم قالت،
- خذني إلى البرج.
ابتسم لها، ثم أسرع و تقدمها، متجها نحو قصر الملك ورد شاه.
.....
رفع الستارة التي تغطي باب الشرفة المفتوح، و دخل الغرفة، فوجد الصبية في مكانها، نائمة.
دخلت لمار من بعده، لتجده يقف في منتصف الطريق نحو السرير.
تقدمت نحوه مستغربة،
- ماذا بك؟!
وقفت بجانبه، ألقت نظرة على الجسد النائم أمامهما، ثم التفتت إليه لترى على ملامح وجهه ما يشبه القلق و انشغال البال، إلا أنها لم تكن متأكدة من الأمر الذي يزعجه.
همست،
- تاج؟
التفت إليها كالمتفاجئ، ثم قالت،
- لا بد.. و أن الأمر أصبح صعبا عليك الآن.. أكثر من ذي قبل.
- أي.. أمر؟!
- عقاب ملك الجان و سجنه لك. لو كنت حرا لكان بإمكنك-
قاطعها قائلا وهو يراقب الحسناء النائمة أمامهما،
- لا يهم. ما حدث قد حدث.
وقفت في **ت لمدة تراقب تعابير وجهه الثابتة، و التي اهتزت مرارا، لتكشف عن تشوش، و اضطراب. ثم أخيرا إلتفتت إلى الفراش أمامها، رفعت جناحيها و طارت باتجاهه، ثم حطت بجانبه و دنت من الفاتنة الراقدة فوقه.
ارتسمت ابتسامة إعجاب على محياها، ثم التفتت إلى تاج.
- أ لا تعرف من تكون حقا؟!
هز رأسه نفيا و هو يتقدم نحو السرير بخطوات متمهلة،
- لا أعرف عنها شيئا.
- إنها أميرة جزائر و بحور السبعة قصور. وردة الجنة.
عقد حاجبيه،
- ابنة الملك ورد شاه؟!
- صحيح.
- و ما الذي تفعله أميرة ابنة ملك، في غرفة برج مهجور؟!
- من يدري!
ثم أضافت بعد سكوت وهي تتفحص وجه وردة،
- إنها حقا بديعة الجمال.
ثم أكملت بعد أن رفعت نظرها إلى الواقف أمامها،
- لكن قمر الزمان أجمل بكثير!
افتر ثغره عن ضحكة صغيرة مذهولة،
- حقا؟!
- أ لا توافق؟!
- لا أوافق!
أخذت لمار نفسا وهي تحدق بعيني تاج في نوع من التحدي، ثم تقدمت نحوه بابتسامة شبه ماكرة،
- ما رأيك لو أحضر قمر الزمان إلى هنا؟ عندها نستطيع أن نقارن و نرى من منهما الأجمل حقا!
- أنت تمزحين! أ ليس كذلك؟!
هزت رأسها نفيا، ثم رفعت جناحيها و طارت نحو الشرفة بسرعة خاطفة. توقفت للحظة وهي تطفوا في الهواء، استدارت ثم قالت،
- سأعود بسرعة.
أسرع إليها تاج محذرا،
- لا تفعلي! سيعاقبك سلطان الجان على ذلك.
لكنها طارت و اختفت بين نجوم السماء، قبل أن يكمل كلامه حتى.
تأفف في انزعاج، ثم تمتم لنفسه في استسلام،
- ما كان علي أن أوافق على احضارها إلى هنا. يا لها من مجنونة!
و ما هي سوى بضع دقائق حتى بدت له من بعيد، عائدة، تحمل بين ذراعيها جسدا حوله ملاءة من حرير.
خففت من سرعتها و دخلت من الشرفة، و لم تحط على قدميها إلا عندما اقتربت من السرير، فوضعت الجسد عليه، بجانب الأميرة النائمة.
أسرع إليها تاج و هو يردد في قلق و خوف واضحين على وجهه و نغمة صوته،
- سيقتلنا والدك إذا ما اكتشف الأمر. لقد حذرك مرارا من عواقب التدخل في شؤون البشر. سنعاقب! لا، بل سيقتلنا!
قالت ضاحكة، غير مكترثة لقلقه،
- إهدأ يا تاج! إهدأ!
- أهدأ؟! كيف أهدأ؟!
- لن يعلم بهذا! لا تقلق.
**ت وهو يبادلها نظرات حادة مستاءة، لتبادله بنظرات مسرورة مستمتعة. أسرعت إليه و أمسكت بذراعه، ثم سحبته قريبا من السرير ليتمكن من رؤية وجهي قمر الزمان و وردة الجنة بوضوح.
سألت،
- أ ليس الأجمل؟!
- إنه جميل! الأجمل! لا أحد يضاهيه حسنا! و الآن هيا، أعيديه إلى قصره أتوسل إليك.
التفتت إليه مصطنعة وجها عابسا،
- سأعيده! لكن ما إن تصدقني القول.
ثم أشارت إليهما،
- من الأجمل؟
تأفف قبل أن يقول متمنيا،
- يا ليتني كنت أملك سرعتك! لكنت وصلت إلى قصر أبيك في الوقت المناسب، و لما تأخرت! و لما حدث أي شيء من هذا.
ض*بت ذراعه ض*بة لطيفة لتعيد انتباهه إليها،
- قلت سأعيده! لا تقلق! لن يعلم أبي بشيء و ستكون في أمان. هل إرتحت الآن؟
- لن أرتاح حتى تعيدي الأمير إلى بلاده!
- حسنا إذا! أجبني من الأجمل و سأعيده في رمشة عين!
فتح تاج شفتيه ليتحدث، لكنه تراجع عندما شعر بشيء ما يتحرك على السرير. إلتفت، فاستدارت لمار كذلك، ليلاحظا أن وردة هي من كانت تتحرك، و ما هي سوى لحظات حتى تفتح عينيها.
أسرعت لمار و أمسكت بيد تاج، ثم لوحت بيدها أمامها فانفجر من جسداهما دخان أبيض، اختفى كلاهما وسطه بسرعة خاطفة و تحولا إلى ذبابتين، ثم أسرعا بأجنحتهما الصغيرة بإتجاه أحد الجدران و وقفا عليه.
قال تاج وهو يتقدم نحو لمار بسيقان الذبابة النحيلة،
- ذبابة؟! حقا؟! أ هذا أفضل ما يمكنك فعله؟!
لكنها لم تعر لكلامه اهتماما، فلقد كان انتباهها موجها نحو الأميرة المصدومة و المتجمدة مكانها على السرير.
قالت لمار،
- كان يجب علي أن أدخلها في نوم عميق كما فعلت بقمر الزمان. كيف نسيت ذلك؟!
- أ لا يمكنك تنويمها الآن؟! خدريها بلدغة مثلا!
- سأحاول.
ثم تحولت من ذبابة إلى بعوضة قبل أن تنطلق بجناحيها نحو وردة. و ما ان اقتربت لمار من وردة، حتى هزت الأميرة يدها و لوحت بها لتطرد البعوضة. حاولت الجنية الإقتراب من هدفها مرارا، لكن دون جدوى، فاستسلمت، ثم عادت إلى الجدار حيث تركت تاج في انتظارها.
سأل،
- هل خدرتها؟
- لم أنجح. كادت تقتلني!
- ماذا نفعل الآن؟! لقد تسببنا بكارثة!
لم تجد لمار جوابا على سؤال تاج، لكنها كانت تفكر في حل للمشكلة التي صنعتها بيديها. إن علم والدها بأنها تدخلت في قدر إنسيان، فسيعاقبها حتما. لكن سرعان ما اتجه انتباهها إلى وردة الجنة، و التي أخذت تحرك كتف النائم بجانبها بكل لطف و حذر، محاولة إيقاظه من نومه، لكن دون جدوى.
توقفت وردة للحظة كالمتفاجئة وهي تحدق به في قلق، مدت سبابتها إلى تحت أنفه في تردد، و لم تبعدها إلا بعد أن شعرت بأنفاسه، فأغلقت عينيها و تن*دت لتطرد تعابير القلق عن محياها، لكن كثرة الأسئلة التي تدور بداخل رأسها لم تطمئنها.
جلست الأميرة تتفحص وجهه كمن يتأمل صورة بديعة أذهبت بعقله تماما. خصلات شعره السوداء التي تغطي بعض جبينه، حاجباه المنظمان، رموشه اللطيفة، أنفه المستقيم الجميل، شفتاه النحيلتان الحمراوتان، و عظام وجهه البارزة بشكل جذاب.
همست لنفسها في هيام،
- ما أجمله!
انتبهت للملاءة الحريرية التي تغطي نصف جسده، و قميصه المطرز المريح الذي يكشف عن جزء من ص*ره المفتول، فغضت بصرها في ارتباك، ثم نظفت حلقها في هدوء، و أخذت نفسا شبه مرتعش، قبل أن تعيد عينيها المترددتان إلى ملامحه النائمة الهادئة.
همست لنفسها،
- من يكون يا ترى؟!
ثم عقدت حاجبيها،
- و كيف وصل إلى هنا؟!
بعد **ت وهي تتفقد الغرفة بنظراتها، وقفت عن السرير و أسرعت نحو الباب. حاولت فتحه لكنه كان مغلقا، فدقت مرارا و نادت على الحراس، لكن ما من أحد بالخارج، فتراجعت عن الباب ببضع خطوات بطيئة و قلصت عيناها في نوع من الشك.
تمتمت لنفسها بنبرة حادة،
- لا بد و أن أحدهم سمح له بالدخول.
تقدمت نحو السرير بضع خطوات، ثم وقفت في منتصف الطريق لوهلة و ملامح الإستغراب تعلو محياها. أسرعت نحو الشرفة، خرجت و طلت برأسها لتتفقد أسفل البرج، لكن ما من عربة غير عربتها، و ما من حصان غير حصانيها بالخارج. رفعت بصرها بعد أن بحثت طويلا، ثم وقفت تحدق بنجوم السماء، و القمر المكتمل في تلك الليلة. تن*دت في استسلام، وهي تحاور نفسها،
- لا أفهم كيف وصل هذا الفتى إلى البرج. لا أفهم!
عادت إلى الداخل بعد ثوان، ثم تقدمت نحو الفراش وهي تتأمل الراقد عليه، و على وجهها ما يشبه تعابير الشك و الارتياب.
جلست بجانبه، مدت يدها إلى ذراعه، ثم حاولت إيقاظه بتحريكه مجددا، لكن دون جدوى، فأبعدت يدها، و جلست تنظر إليه لمدة قبل أن تقول مخاطبة إياه،
- من تكون أيها الشاب؟ و كيف وصلت إلى هنا؟!
لكن ما من جواب منه، و ما من حركة حتى.
- أ حقا لا تسمعني؟!
جلست تنتظر منه ردا لمدة، لكن لا شيء. مدت أرابعها في تردد إلى جبينه، و أبعدت خصلات شعره في هدوء، ثم همست له،
- إن كنت تسمعني، فأرجوك أن تفتح عينيك و تحدثني.
لكنه كجثة م**رة، تتنفس، لكن غائبة عن الوعي تماما، فأشاحت بوجهها في خيبة أمل. نظفت حلقها، ثم قالت بنبرة مرتبكة، بعد التزمت ال**ت لثوان طويلة،
- أ أنت الأمير الذي تحدث عنه أبي؟ إن كنت كذلك فاعلم أنني.. أوافق على منحك فرصة. فهل لا..
التفتت إليه، ثم إستمرت و هي تتفحص ملامحه،
- هل لا فتحت عينيك؟!
و مجددا، لم تحصل على ما كانت تطلبه.
فعبست تعابير وجهها، لكن سرعان ما أغلقت عينيها و زفرت كالمنهزم. استلقت على ظهرها بجانبه، و عيناها تحدقان بسقف الغرفة الحجري لمدة، ثم أخيرا استدارت إليه، نظراتها على معالم وجهه الفاتنة، لتسأله مجددا، بصوت هامس لطيف، رغم أنها كانت متأكدة من أنه لن يجيبها،
- أ حقا لا تسمعني؟ كيف لك أن تغط في نوم أشبه بالموت هكذا؟! لا أصدق هذا؟! لا بد و أنك تمثل!
أنزلت عينيها إلى يده القريبة منها، فأمسكت بها برفق و مسحت على ظهرها بلطف، ثم رفعت بصرها إلى ملامحه، لكنها لاتزال نائمة هادئة.
استفهمت،
- أ لا.. تشعر بي أحمل يدك؟!
لمست شيئا حول بنصره، فأعادت نظرها إلى يده، لتجد خاتما ثمينا يحمل حجرا كريما أحمر اللون. افتر ثغرها عن ابتسامة صغيرة، ثم خلعت الخاتم من أصبعه، و وضعته حول أصبعها.
تحولت ابتسامتها إلى ضحكة ثم همست،
- سأعيده لك عندما تقرر أن تفتح عينيك و تحدثني.
ثم خلعت أحد خواتمها الثمينة، و وضعته حول خنصره، ثم أخذت يده في كفها.
و في تلك اللحظة كانت لمار، و هي على هيئة بعوضة، قد تمكنت من الوصول إلى عنق الأميرة و لدغها، فبدأ جفنا وردة بالتثاقل، و تلاشت ابتسامتها و هي تحاول فتح عينيها و محاربة ما تشعر به من نعاس مفاجئ، لكنها لم تفلح، فاستسلمت و غطت في نوم عميق.
ظهر دخان أبيض أمام السرير، لتظهر لمار وسطه و هي تطفوا.
و ما أن حطت على قدميها، حتى سمعت صوت تاج من الخلف يقترب، وهو يعاتبها بلهجة مذعورة حائرة،
- ماذا الآن؟! كل هذا بسبب تهورك! حذرتك قبل أن تحضريه، و لم تسمعي كلامي. سيعلم والدك بالأمر الآن! سيعلم!
أجابته بهدوء مصطنع دون أن تنظر إليه،
- لن يعلم.
قال في انفعال،
- لن يعلم؟!
التفتت إليه، و بادلته نظرة جادة،
- ستظن وردة أن الأمر كله كان مجرد حلم. أما قمر فلم يرى شيئا حتى! فلما الخوف؟!
- لقد تلاعبنا بقدريهما يا لمار! الأمر لم يكن مجرد حلم! لقد رأته بأم عينيها. و ستبحث عنه لحظة استيقاظها. و إذا ما وصلت الأخبار إلى سلطان الجان، سيعلم أن أحد رعيته له يد في الأمر.
زفرت في ان**ار، و صاحب زفيرها رعشة فضحت أمر توترها. ابتلعت ريقها بصعوبة، ثم تمتمت بنبرة غير متوازنة،
- فلنتمنى.. أن تصدق أن ما رأته.. كان حلما.
أخرجت جناحيها و ض*بت بهما الأرض و رفعت بهما جسدها. طارت إلى الجانب الآخر من السرير حيث وضعت قمر الزمان، ثم حملته بين ذراعيها، و رفعته عن الفراش، فانتبه تاج إلى يد قمر الزمان وهي تنفلت من يد وردة، فأرتسم ما يشبه الضيق على صفحة وجهه، ثم أشاح بنظره بعيدا.
تقدمت لمار نحو رفيقها، وهي ترفرف بجناحيها، و الأمير في حضنها.
- لنذهب.
اكتفى بإيماءة صغيرة متفاديا النظر إلى عينيها، ثم انطلق من بعدها، و خرج كلاهما من الشرفة باتجاه السماء، و ارتفعا إلى أن اختفيا بين النجوم.
....