فتحت عينيها على نور الشمس الذي تسلل من بين خيوط ثوب الستارة.
استمرت في الإستلقاء على ظهرها لمدة طويلة و هي شاردة بسقف الغرفة، لكن سرعان ما اختفى السكون، و اتسعت عيناها كمن أبصر شبحا، ثم همت بالجلوس، و هي تبحث بنظرها على السرير حيث كان قمر الزمان نائما، ثم رفعت عينيها المصدومتين و جالت بها في أرجاء الغرفة، لكن لا أحد سواها هناك.
تشوش نظرها، و ارتسمت تعابير الحيرة على وجهها.
تمتمت لنفسها،
- مستحيل! لم يكن ذلك حلما.
مدت كلتا يديها إلى الغطاء على جسدها لتزيحه عنها، فانتبهت لخاتم قمر الزمان في يدها. تجمدت لحظة أبصرته، و رفعت يدها أمامها في ذهول.
شحب وجهها و هي تحدق بأصبعها، و اضطربت أنفاسها. ف*نهدت و أغلقت عينيها، لعلها تسترجع هدوءها، لكن دون جدوى.
ابتلعت ريقها ثم أسرعت في الوقوف، و هرعت باتجاه الباب.
دقت مرتين بقوة، ثم صاحت طلبا لحضور الحراس، فأسرع إليها أحد الحارسين الواقفين بالخارج.
وقف عند الباب و سألها من خلفه قائلا،
- بماذا أساعدك يا مولاتي؟
- افتح الباب.
- لا أستطيع أن أفتح لك الباب يا مولاتي، من دون إذن مولاي السلطان.
ثارت ثائرتها بعد ما سمعته من الحارس، فصاحت في انفعال،
- قلت افتح الباب!
اخترق صوتها جدران الغرفة و خارجها ثم اختفى، ليعم **ت لمدة ثوان، قبل أن ي**ره صوت المفاتيح التي تتحرك بداخل ثقب الباب.
و ما هي سوى بضع ثوان، حتى انفتح الباب، و ظهر الحارسان من خلفه منحنيين.
- مولاتي.
جعلت وردة من يديها قبضتين، بعد أن بدأتا بالإهتزاز توترا، ثم ابتلعت ريقها، قبل أن تقول بنبرة مرتبكة،
- أعتذر.. عن صياحي في وجهك.
طأطأالحارس برأسه،
- أنا من يجب أن يعتذر عن مخالفتي لأمرك يا مولاتي.
تن*دت كمن استعاد بعضا من اطمئنانه الداخلي، لكن سرعان ما بدى فقدانها لما استعادته من سكون على صفحة وجهها المحتارة.
اقترب خطوتين من الحارس ثم سألته في حذر،
- هل.. رأيتم أحدا يدخل البرج.. ليلة أمس؟
أجاب الحارس دون أن يرفع عينيه عن الأرض،
- ما من أحد دخل البرج ليلة أمس، يا مولاتي.
أومأت له في تردد، ثم طلبت منه قائلة،
- أ يمكنك منادات قائد جنود السلطان؟ فلي حاجة عنده.
- حاضر يا مولاتي.
ثم غادر الحارس بعد أن استأذن من الأميرة، و أغلق الباب خلفه.
بقيت واقفة مكانها تستمع لصوت المفتاح يتحرك في ثقب الباب مجددا، ليذكرها بأنها سجينة البرج حتى تخضع لأمر السلطان. و لم تتحرك من مكانها، إلا بعد أن تلاشى صوت خطوات أقدام الحارس.
عادت إلى فراشها، ثم جلست بالجانب الذي وجدت فيه قمر الزمان أمس، مستلقيا، نائما، غائبا عن الوعي.
تحسست المكان بيدها متذكرة شكله و ملامحه، ثم همست لنفسها،
- من تكون يا ترى؟ من تكون؟!
.....
فُتِح باب الغرفة، ليدخل قائد الجنود بعد أن استأذن، و دخلت معه المربية ميمونة، و في يدها صحن فضي تغطي ما بداخله بغطاء فضي منقوش. ألقت تحية الصباح على صغيرتها وردة، وضعت ما أعدته لها من طعام الإفطار على الأرض، ثم أسرعت و ضمتها إلى ص*رها، كما تضم الأم ابنتها، و هي تسألها عن حالها. ثم اعتذرت منها و من ابنها مرزوان و استأذنت لتغادر، ثم خرجت و تركتهما وحدهما.
ما ان أغلق الباب، حتى أسرعت وردة نحو مرزوان، و قد سمحت لتعابير وجهها بالكشف عن الحيرة التي تشعر بها.
سأل وهو يتفحص ملامحها في قلق،
- لماذا طلبتني يا وردة؟ تبدين.. مهمومة. ما الذي حدث؟!
فتحت شفتيها، لكنها لم تفصح عن شيء إلا بعد أن بادلته نظرات مترددة لمدة.
- ليلة أمس.. استيقظت بعد منتصف الليل ببضع ساعات، و وجدت شابا.. نائما بجانبي على الفراش.
عقد مرزوان حاجبيه،
- شاب؟! مستحيل!!
ثم سأل بعد أن درس عينيها المشوشتين،
- حسنا.. أ تعرفين.. من يكون؟!
- لا أدري! حاولت إيقاظه لأسأله من يكون، لكنه كان كالم**ر، لم يتحرك حتى!
ازداد استغرابه و كشفت ملامحه عن اضطراب أفكاره،
- إذا.. فأنتي لا تعلمين كيف وصل إلى هنا؟!
- تماما! كان الباب مقفلا، و الحرس عند باب البرج يحرسونه، كما أنني لم أرى أثر حصان أو عربة غريبة خارجا، ليلة أمس!
- أ متأكدة.. من أن الأمر ليس أضغاث أحلام؟
رفعت يدها و كشفت له عن الخاتم في إصبعها،
- لقد أخذت خاتمه منه. لقد كان حقيقة، و الدليل حول بنصري.
- و لماذا فعلتي ذلك؟!
نظفت حلقها، ثم أجابته متفادية النظر إلى عينيه،
- ظننت أنه.. يمثل دور الم**ر، فخلعت عنه خاتمه.. فربما يستيقظ.
- ثم؟
- لم أنجح في إيقاظه، لكنني..
أضافت وهي تحاول تذكر ما حدث،
- غفوت فجأة!
أخذ مرزوان نفسا، ثم تقدم نحو الشرفة، تفحصها بعينيه، ثم اتجه نحو الباب و تفقده جيدا، ثم دخل غرفة البئر و تفقدها أيضا، و طل برأسه في البئر، لكنه لم يجد مدخلا، و لا أثرا يدل على أنه كان بداخل الغرفة شخص آخر غير الأميرة.
عاد إلى وسط الغرفة حيث ترك وردة، وهو لا يزال يتجول بعينيه في المكان.
هز رأسه نفيا و هو يقول،
- مستحيل. ما تقولينه مستحيل! كيف يظهر شاب هكذا فجأة، ثم يختفي؟!
قالت في بعض من الإنفعال،
- بماذا تفسر الخاتم في يدي إذا؟!
تأفف استسلاما أمامها، ثم مد لها يده، فمدت إليه يدها.
أمسك أطراف أصابعها برقة و سحبها إليه، ثم أخذ يدرس الحجر الكريم على الخاتم.
رفع كلا حاجبيه في نوع من الدهشة،
- هذا النوع من الأحجار لا يرتديه سوى أغنياء و ملوك مملكة الغبراء!
ظهر الذهول على محيا الأميرة،
- مملكة الغبراء؟!
رفع نظره إليها ثم أومأ قبل أن يقول،
- كيف كان يبدوا؟ ذلك الشاب. صفيه لي.
خفضت بصرها لحظة حاولت تذكر ملامحه، ثم تشتتت نظراتها في ارتباك وهي تصفه،
- كان.. أبيض البشرة، أ**د الشعر. له أنف مستقيم جميل، و شفتان نحيلتان حمراوتان. و له عظام وجه بارزة.. تجعله يبدوا وسيما.
نظفت حلقها ثم استمرت في وصفها متفادية النظر إلى عيني مرزوان،
- كان يرتدي قميصا مطرزا مريحا و عليه ملاءة من حرير.
سكتت فخيم **ت جعلها ترفع عينيها إليه أخيرا.
أطال النظر إليها و هو يمسك شفتيه عن الإبتسام.
استفهمت في تلعثم،
- ماذا.. لماذا تنظر.. إلي هكذا؟!
سمح لشفتيه بالإبتسام أخيرا، ثم سأل بنبرة ماكرة،
- أ قلتي وسيم؟
قلبت عينيها،
- توقف عن هذا يا مرزوان!
- حسنا!
نظف حلقه، ثم أضاف على كلامه بجدية لكن دون أن يتخلص من ابتسامته،
- لدينا هنا خاتم من مملكة الغبراء، و تقولين أنه يعود لشاب وسيم. ما يعني أنه قد يكون أحد أغنيائها، أو ربما أحد أمرائها أو ملوكها. لكن ماذا يفعل شاب كهذا في غرفة البرج؟! ما غرضه؟ و كيف دخل؟
أجابت في تردد،
- الحقيقة.. أنني.. أشك في أبي.
- أتظنين أنه الأمير الذي حدثك عنه مولاي؟
- لا أدري! لكنني أشك في ذلك.
- و ما الذي قد يستفيده مولاي، من إدخال شاب على ابنته في منتصف الليل؟
- ليجبرني.. على منحه فرصة؟
- و هل تظنين حقا أن مولاي يستطيع القيام بشيء كهذا؟!
- لقد سجنني في برج مهجور وسط الغابة! أ كنت تتوقع منه ذلك؟!
زفر في استسلام، و طأطأ رأسه لمدة، ثم رفعه أخيرا و قال،
- لنعد إلى القصر.
رفعت حاجبا كمن يشك في ما تسمعه،
- لنعد؟ أعود معك إلى القصر؟
- يجب أن تخبري مولاي بنفسك بما حدث، و تسأليه إن كان يعرف شيئا عن ذلك.
ارتبكت نظراتها لوهلة، وهي تفكر في الأمر، ثم أومأت بعد تردد.
- حسنا. لنذهب.
أسرعت إلى سريرها، تناولت سلهامها، ثم ارتدته وهي تتجه نحو الباب، حيث ينتظرها مرزوان، ليغادرا.
و بعد خروجهما ببضع دقائق، خرج تاج من البئر، جسده يطفوا في الهواء، و خليط من الإستغراب و الذعر يعلو محياه.
مد قدمه ليحط على الأرض، لكنه لم يستطع التحكم في حركة جسده. حاول مجددا لكن دون جدوى، ثم اختفى وسط دخان أبيض انفجر من جسمه فجأة.
....
فتح تاج عينيه بعد أن شعر بقدميه على الأرض، فوجد نفسه وسط قاعة شاسعة، ذات جدران عظيمة، عليها نقوش راقية ذهبية و رسوم و صور مختلفة ملونة، و أمامه عرش ذهبي ضخم منقوش، و مرصع بمختلف أنواع المجوهرات بشكل بديع، موضوع على منصة واسعة لها سبعة درجات.
أغلق عينيه بإحكام، و جمع يديه المرتعشتين على شكل قبضتين. أخذ ص*ره يرتفع و ينخفض في اضطراب واضح. و ما أن سمع صوتا قويا غاضبا ينطق باسمه، حتى ابتلع ريقه، و خفض رأسه في خضوع، و جسده، من رأسه حتى قدميه، يهتز خوفا.
شعر بجسم ضخم يمر بجانبه متجها نحو العرش بخطوات ثائرة، ثم شعر بأحدهم يقف بجانبه، فرفع نظره في حذر، ليجد لمار واقفة مطأطأة الرأس، و تعابير الندم على وجهها.
- اقتربا.
أمر الصوت القوي بنبرة حادة، فتقدم كلاهما بخطوات هادئة، دون أن يرفعا بصرهما عن الأرض.
سأل الصوت بلهجة أكثر حدة،
- ما الذي كنتما تفكران فيه؟!
أجابت لمار في ارتباك واضح،
- كان كل ذلك.. فكرتي. لا شأن لتاج بما حدث يا أبي.
زفر الصوت في استياء، ثم صاح في انفعال حاول السيطرة عليه،
- أ لم أحذرك مرارا يا لمار؟! لا تتدخلي في شؤون البشر! نحن شعب مسالم لا يتلاعب بحياة البشريين، و لا نضع يدنا في يد المجرمين منهم!
ثم أضاف بعد سكوت،
- ارفعا رأسيكما.
ابتلع تاج ريقه، رفع رأسه، ثم عينيه في تردد، ليجد أمامه جنيا قوي البنية، في قميص طويل أبيض مطرز بأرقى الرشوم الذهبية، و على رأسه تاج من ذهب، و شعره القصير الأبيض مختلط بخصلات فضية تلمع، تشابه في اللون الوشوم على بشرته البيضاء. له عينان اشتد سوادهما غضبا، و شفتان نحيلتان ازدادتا نحالة بعد أن أطبقهما في غيظ.
وقف عن عرشه، ثم نزل الدرج ليقف أمامهما.
أغلق عينيه ليهدأ قليلا قبل أن يقول،
- ستعاقبان.
أسرعت لمار و أمسكت بذراعه مترجية،
- أرجوك أبي، أتوسل إليك أن تعفوا عن تاج.
سحب ذراعه إليه،
- كلاكما تدخل في ما لا يعنيه، لذلك ستعاقبان. كلاكما.
- أبي، أرجوك. أتوسل إليك!
- أنتي حقا لا تدركين ما تسببتي به للأميرة وردة الجنة؟! و لا للأمير قمر الزمان؟!
تراجعت لمار خطوتين متوترتين للخلف، بعد ما سمعته من والدها. مدّ ملك الجان كلتا قبضتيه أمامه، ثم فتحهما و كشف عن راحة يديه، فانشقت الأرض خلف الواقفين أمامه، ثم خرجت مرآة ضخمة لها إطار ذهبي، عندما رفع كفيه ببطيء. و ما أن توقفت يداه، حتى توقفت المرآة عن الحراك.
تقدم الجني فأفسح له كل من تاج و لمار الطريق ليمر، و هما يحدقان بالمرآة في ذهول.
لوح سلطان الجان بيده، فكشفت له المرآة عن صورة و صوت الأميرة وردة، وهي تناقش الملك ورد شاه.
- شاهدا ما تسببتما به لهذين الإنسيين.
تقدمت لمار و عيناها قد اتسعتا من الدهشة، ثم اقترب تاج بدوره بخطوات متوترة، و الصدمة تعلو محياه.
قالت وردة بلهجة منفعلة، وهي تؤكد على كلامها،
- لقد رأيت الشابا بأم عيني هاتين، و هذا الخاتم دليل على أنني أقول الصدق!
رفع ورد شاه يده إلى رأسه، ثم مسح بها على جبينه في انزعاج وهو يغلق عينيه. أخذ نفسا ليهدئ من روعه ثم جلس،
- أ تظنين أنني غ*ي لأصدق قصصك هذه؟!
عقدت وردة حاجبيها،
- ماذا؟! و لماذا أخترع قصصا؟!
- لتخرجي من البرج!
افتر ثغرها عن ضحكة ساخرة،
- أ لست من أدخلَ ذلك الشاب إلى البرج؟!
- و لما أفعل ذلك؟!
- من يدري؟! ربما لتجعلني أقا**ه؟! أوليس الأمير القادم من الغبراء ليقابلني؟!
- و من قال أن الأمير القادم، قادم من مملكة الغبراء؟! كما أنه لم يصل بعد، و لن يصل إلا في نهاية هذا الشهر!
اختفت صورة وردة الجنة و والدها في المرآة فجأة، لتظهر صورة قمر الزمان و هو لايزال في قميص نومه، يحاور خادمه الخاص.
- إن الخاتم يعني لي الكثير. ليس مجرد هدية من أبي، بل هو خاتم انتقل عبر الأجيال، و حافظ عليه كل ولي عهد من قبلي.
تأفف وهو يرتب الكتب و يبحث بينها،
- لا أصدق أنني فقدته!
- لا عليك يا مولاي، إذهب و غير ملابسك أولا، و نحن سنتكلف بالبحث عن الخاتم.
جلس قمر على كرسيه منهزما،
- كيف أضعته؟! لقد كان حول إصبعي طوال الوقت!
ثم رفع يده و تفحص الخاتم حول خنصره في حيرة،
- و من أين أتى هذا الخاتم؟! إنه أثمن من خاتمي بكثير!! لا أذكر أنني رأيته من قبل حتى! كيف وصل إلى يدي؟!
التفت إلى خادمه و عيناه تفضحان الإضطراب الذي سببه تضارب التساؤلات في خاطره،
- يا له من أمر غريب!
اختفى صوت و صورة قمر الزمان، و لم يبقى سوى انعكاس تاج و لمار على المرآة، و سلطان الجان الجالس على عرشه.
مد الملك يده المفتوحة أمامه، ثم أنزلها لتنزل المرآة و تبتلعها الأرض، ثم جمع يده على شكل قبضة فانغلق ما انشق من الأرض، و عادت كما كانت من قبل.
استدار كل من تاج و لمار، و مزيج من الصدمة و الندم الشديد مكتوب على صفحة وجهيهما.
قالت لمار في تلعثم،
- لم أكن أعلم.. أن الأميرة أخذت خاتم الأمير.. و بدلته بخاتمها.
أغلق السلطان الجان عينيه لحظة رفع حاجبيه، وهو يهز رأسه سلبا، ثم تأفف في استسلام أمام الأمر الواقع.
وقف عن مجلسه، ثم أفصح بعد سكوت،
- لا بد لكما أن تعاقبا.
....