كان النفق ساكنًا، حين دوّى في أعماقه صدى خطوات سريعة وهمسات متقطعة.
رفع دانيال رأسه، متوجسًا.
لم يمر وقت طويل حتى انفتح المدخل الترابي، ودخل أربعة مقاومين يجرّون ثلاثة أجساد مثقلة بالتراب والدم.
وضعوهم على الأرض، بينما الهواء امتلأ برائحة الغبار والدخان العالق في ملابسهم.
كان واضحًا أنهم قادمون من جحيم.
اقترب يوسف بسرعة، صوته متوتر لكنه ثابت:
– "من أين؟"
رد أحد المقاتلين، يلهث:
– "النفق 3… انهار بعد الغارة. اثنان من الأسرى قُتلوا… وثلاثة من إخواننا. هؤلاء فقط نجوا."
شحب وجه يوسف، وعض على شفته وهو يتمتم:
– "من بين الشهداء… محمود؟"
أجابه المقاتل بحزن:
– "نعم… كان بجانبي عندما سقط السقف."
أغمض يوسف عينيه بقوة، كأن الطعنة وصلت إلى قلبه مباشرة.
كان محمود صديق طفولته، رفيق الحارات وأل**ب البحر. والآن صار جثة تحت الركام.
لكنه لم يملك وقتًا للحزن.
أشار إلى أحد الأسرى الملقى على الأرض، كتفه مغطى بالدم:
– "هذا مصاب. هاتوا ماءً نظيفًا وشريطًا ضاغطًا."
جلس يوسف بجواره، يزيل القماش الممزق، يكشف عن جرح غائر ينزف بغزارة.
تمتم دانيال وهو يراقب المشهد بدهشة:
– "You’re… a doctor?""أنت... طبيب؟"
رد يوسف، دون أن ينظر إليه:
– " قد قلت لك ، كنت طبيبًا بيطريًا. اليوم… أحاول فقط أن أبقي هذا الكلب حيًا."
كان المصاب أوري، وجهه متجهم، أسنانه تصرّ على بعضها من الألم، لكنه ما زال يرمق الجميع بنظرة متكبرة.
تمتم بالعبرية، بصوت ضعيف لكنه مليء بالكره:
– "عرب قذرون…"
نظر يوسف نحوه، لا غضب في عينيه بل برود جارح:
– "ستبقى حيًا رغمًا عنك… لتموت يومًا بما تستحق."
أما الأسيران الآخران فجلسا متباعدين:
· خالد، شاب نحيل يشيح بوجهه، يبتلع ريقه بتوتر واضح، عيناه تهربان من النظر في أي اتجاه.
· ناعوم، فتاة عشرينية، تحاول أن تخفي خوفها بابتسامة ساخرة، تنفض التراب عن ثيابها وتتمتم لنفسها بالبولندية قبل أن تستسلم لل**ت.
جلس دانيال يراقبهم، قلبه يخفق بسرعة.
النفق الذي كان قبرًا صغيرًا له… صار الآن مكتظًا بأسرى آخرين. لكل منهم حكاية، ولكل منهم ظل ثقيل يجره وراءه.
في زاوية النفق، جلس يوسف، يضم قبضته بشدة.
كان يريد أن يكون في الميدان، حيث يسقط الشهداء ويواجهون العدو وجهًا لوجه.
لكنه يعرف أن مكانه هنا.
مسؤول عن هؤلاء… وعن من تبقى.
رفع عينيه نحو السقف الترابي، وتمتم في سره:
"يا رب، اجعل هذا الثقب في الأرض حصنًا لا قبرًا لنا