اعتراف يوسف

333 Words
كان الليل ساكنًا إلا من قطرات الماء المتساقطة من سقف النفق. جلس يوسف في ركنه المعتاد، ممسكًا بدفتر صغير، يتصفحه ببطء. لم يقصد أن يراه دانيال، لكن عينيه وقعتا على صورة لطفلة صغيرة، شعرها مربوط على شكل ضفيرتين، ابتسامتها بريئة رغم أن الصورة بدت ملتقطة وسط جدار متهدم. همس دانيال، مترددًا: – "Your daughter?" "ابنتك؟" رفع يوسف عينيه نحوه، صامتًا لوهلة طويلة. ثم أطبق الدفتر ببطء، ووضعه على ركبتيه. تنفس بعمق، كأنه يقرر شيئًا خطيرًا، ثم قال: – "اسمها سلمى. عمرها ثماني سنوات. لديها أخ صغير، ستة أشهر فقط." صوته كان ثابتًا، لكن عيناه كانتا تغليان من الداخل. أخذ رشفة ماء، ثم أردف: – "كنت طبيبًا بيطريًا. لدي عيادة صغيرة في غزة. حياتي كلها كانت بين الح*****ت والحقول، لا أعرف غير ذلك. حتى جاء يوم… يوم واحد قلب كل شيء." سكت قليلًا، ثم أضاف بصوت مخنوق: – "قصفوا بيت أهلي. والدي ووالدتي قُتلا. أخي قُتل. ابني الأول… كان في حضن جده وقتها. لم ينجُ أحد. بقيت زوجتي وطفلتي… فقط." تجمد دانيال في مكانه. لم يكن يعرف ماذا يقول. كانت كل الصور التي رسمها في ذهنه عن "المقاتل الفلسطيني" تتحطم الآن أمام رجل فقد عائلته في ليلة واحدة. تابع يوسف، وعيناه معلقتان في الفراغ: – "حينها لم أعد أرى للحياة معنى. تركت مهنتي. التحقت بالمقاومة. ليس لأنني أحب الحرب… بل لأنني لم أعد أملك شيئًا آخر أخسره. أردت فقط أن أمنع غيري من أن يعيش ما عشته." ظل دانيال ينظر إليه، عاجزًا عن الرد. الكلمات علقت في حلقه، لكنه تمتم أخيرًا: – "I… I’m sorry.""أنا... أنا آسف." ابتسم يوسف ابتسامة مرة: – "لا تعتذر. لم تقتلهم أنت بيدك. لكن جيشك فعل. وجيشك جاء بك إلى هنا." كان صوته هادئًا، لكنه كان **كين يغرس في ص*ر دانيال. شعر لأول مرة أن الجدار بينهما ليس عدوًا وصديقًا، بل إنسانًا وإنسانًا… واحد فقد كل شيء، والآخر بدأ يتساءل إن كان كل ما آمن به كذبة كبرى. في تلك الليلة، لم ينم أي منهما. يوسف ظل يقلب صفحات دفتره، ودانيال ظل يتأمل تلك الصورة الصغيرة… صورة طفلة لا يعرفها، لكنها صارت تطارده كما يطارده صوت يوسف في كوابيسه.
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD