اافصل 4
صوت الراديو المنبعث عبر شرفة والديه القريبة لشرفته، بدأ يتهادى لأذنيه، مخترقًا مداركه النائمة بنعومة، وابتسامة حالمة تشق شفتيه، مستمتعًا بما ينساب لسمعه وصوت "أيناس جوهر" المميز يتألق بكلمات المبدع صلاح جاهين ( غمض عنيك وامشى بخفة ودلع الدنيا هى الشابة وأنت الجدع تشوف رشاقة خطوتك تعبدك لكن أنت لو بصيت لرجليك تقع وعجبى..)..لا تتخلى والدته، عن عاداتها الجميلة بسماع " الراديو" صباحًا، وكأن يومها سيبقى ناقصًا بدون صوت " أثيرها" المفضل! لا يعرف لما عبر في مخيلته مشهد من إحدي أفلامه المفضلة للممثل " عادل إمام".." كركون في الشارع"..ومعاناته حين انهارت بنايته القديمة، وكيف نفذ فكرةٍ ما، وبنى لأسرته "منزل خشبي متحرك" گ حل مؤقت لمشكلته.. وكي يصبغ الأجواء بإستيطان كاذب! تذكر صوت " إيناس جوهر" أيضًا وأذاعة "الشرق الأوسط" وكيف حاول إضفاء لمحة من الأستقرار عبر ذاك المذياع.. وگأنه في منزلًا حقيقيًا..آمنًا، أحيانًا بعض التفاصيل الصغيرة تشعرنا بالانتماء للأماكن والتلاحم النفسي معها..حتى لو صوت لأحدهم يحمل بنبراته عبق الزمن الجميل، وكلمات شعر سَلسة وعادات أصبحت تراثية وسط هذا الجيل!
تقلب على فراشه وأتسعت ابتسامته الساخرة من ذاته وأفكاره التي أخذته لأشياء لا يفهم حقيقًا لما طرقت على ذهنه هذا الصباح، ما هذا الهذيان يا " يزيد".. هيا ردد أذكار بداية يومك، ودعك من تلك الأشياء السخيفة..!
سمع طرقات هادئة على باب غرفته، ثم عبرت والدته وصدح صوتها، هاتفة: صحيت ياحبيبي؟!
أعتدل لها وفرك عيناه ب**ل: أيوة ياغالية.. واكمل بشوق: وحشني صباحك يا أمي!
اقتربت وداعبت وجنته: وانت أكتر يانور عيني، وربنا يجعل صباحك بلون قلبك الأبيض يايزيد.. يلا أنا صحيتك بدري اهو زي ما طلبت مني.. مع إني كنت عايزاك تشبع نوم وتأجل مشوارك لبكرة! الدنيا ما طارتش يعني!
قال بعد أن استفاق بشكلٍ كامل:
ما انا ارتاحت يومين يا أمي، أنا هفضل معاكم شوية وبعدين هروح عند "بلقيس" في الجامعة، واقضي اليوم معاها واشوف عمي وطنت " دُرة" واسلم عليهم!
_ ماشي ياحبيبي براحتك، وعلى ما تفوق وتجهز، هقول لأم السعد تجهز الفطار..!
..................
أبكر عابد في مغادرته لحضور محاضرات هامة، وفضل تناول إفطاره مع رفاقه فيما بعد..وأثناء مغادرته، لمح أخيه يزيد مُقبلا عليه، فمشطت عيناه هيئة أخيه سريعًا، ورغب بقول شيئًا ما، لكن تردد وتراجع، ثم قال: أنت خارج يا زيدو..! أكيد رايح للغزالة خطيبتك؟!
نهره يزيد: احترم نفسك.. غزالة في عينك!
واستأنف: أنت مش هتفطر معانا؟
_ للأسف يا كبير هحرمك مني انهاردة.. يومي متروس محاضرات من أوله! وليه مزاج ادبس الواد وائل في فطار جماعي محترم.. عشان اردله مقلب كان عمله فيا.. وواصل بمزاح: أنا هخليه يغسل مواعين مطعم الجامعة كلها!
وأشار بيده بسلام في الهواء، وغادر!
فلوح له يزيد بالمثل مبتسما وهو يتابع ابتعاده مرددا بخفوت: دماغك مفوتة يا عابد، الله يكون في عون اصحابك اللي مستحملينك!
____________________
بكافيتريا الجامعة!
هتفت تيماء بعد أن ارتشفت رشفة قهوة:
ماتيجي نتسوق شوية يا بلقيس.. المحاضرات خلصت بدري وفي عندنا وقت!
_ بابا عارف معاد خروجي وهيبعتلي السواق..خليها وقت تاني!
تيماء بتهكم: هو انتي لسه نونو يابلقيس؟ ده كلها شهور وهنتخرج من الجامعة، المفروض تكوني براحتك وتروحي مكان ماتحبي! اصلا إيه لازمة السواق؟ ماتتعلمي انتي تسوقي بنفسك!
زفرت بضيق: وبعدين معاكي ياتيماء، ما انتي عارفة خوفهم الزيادة عليا، ورفضهم اسوق لوحدي.. دي مشكلتي معاهم اصلا، بس هعمل أيه يعني مضطرة اتحمل!
هزت رأسها بيأس:
المشكلة إنك اتخطبتي لابن عم حسب كلامك مقفل وغيور .. يعني مش هيخليكي تتنفسي! يعني يامسكينة، هتخرجي من سجن أهلك لسجن جوزك..!
إمتى طيب هتعيشي سنك بحريتك؟
وبعدين بلقيس ملكة جمال الجامعة وأيقونة الف*نة، اللي البنات كلها بتغير منها وبتحسدها والشباب هيموتوا ويكلموها، تتخطب للكائن المبهدل في نفسه ده؟!
وكأنها نثرت ملحًا على عِلتها.. هي بكل جمالها وف*نتها، عاجزة عن نيل شاب يطابق خيالها، وهذا فقط رضاءً لأبويها.. وما يزيد ضيقها، أن قائمة الممنوعات التي تنتظرها مع يزيد ستكون أكثر بعد زواجهما..ليتها ما أطاعت والديها ورفضت للنهاية.. وقد ظنت أن عشق يزيد لها سيكفيها وربما أحبته هي الأخرى كما قالت والدتها.. لكن مر قُرب العام ولم تشعر معه بأي ألفة أو تمازج، بل ازدادت نفور وضيق.. دائما ما تنتقد هيئته الغير أنيقة إذا ما قارنته بشباب جامعتها شديدي الأناقة والجاذبيه!
لما لا يحسن يزيد طريقة تصفيف شعره " الغ*ية" تلك! لما لا يقوم بتلك الخدع فيصير انعم ويأخذ مظهرا يرضيها، لما لا يتخلى عن عويناته المستفزة، ويقوم بعمل " ليزك" لعيناه ويستغنى عن تلك النطارة الغليظة التي تضيف عمرًا لعمره.. أما "غيرته" عليها فقصة أخرى، تقريبا لا ينتهي لقاء أو نزهة لهما. إلا وختمها يزيد بعراك مع أحدهم. بحجة أنه عا** أو تحرش بعيناه.. أصبح الوضع يخنقها وكرهت التنزه بصحبته..! ربما لو أحبته لتقبلت غيرته! هكذا اخبرتها تيماء! وما يزيدها نفورأكثر وأكثر.. أن مظهر يزيد حين أتى إليها ذات مرة، أعطى فرصة للبعض من زملائها، أن يسخروا منه ومن قبحه بالمقارنة بجمالها الطاغي..!
_ بلقيس تحبي أوصلك ولا هتستني بردو السواق؟
فاقت من شرودها على صوت تيماء بعد أن ادركت أنهما وصلا لباب الجامعة دون أن تشعر بذلك، فقالت:
لا مافيش داعي، هستني عمو راغب دقايق ويكون وصل وهرجع معاه!
………… .
وبينما هما يثرثران ويقفان بعيدًا عن دائرة بصره!
واقفًا هو بملامح شاردة، حزينة لعدم إهتمامها بعودته النهائية من تجنيده، لم تهاتفة وتهنئه، أو تبثه ولو لهفة زائفة، ولن ي**ع نفسه هو يدرك أنه لم يمتلك قلبها بعد.. ولهذا عزم على الفوز بقلبها بكل الطرق.. سيغير طباعه التي ربما تنفرها منه..سيحوطها بحنانه وتفهمه أكثر، لتعلم انه لا ينظر لها كالأخرين ..دمية فاتنة يريد الجميع اقتنائها.. بل يعشق روحها، ثقتها بنفسها، ذكائها، قوتها، رقتها، كل شيء بها يصيبه بالوله! حتى عندما يتخيلها بعمرٍ أكبر، حين يغزوها الشيب، تغدو بعينه ف*نة للناظرين.. ولهذا يغار عليها بجنون! ولا يجد وسيلة لتقنين غيرته تلك..!
تن*د ول**ن حاله يقول "عذرا لغيرتي يا ملكة قلبي.. فمتى استقام عاشق دون غيرة؟! فإن ملكت أمرك يومًا..! سجنتك بين الضلوع! أنتي ماستي الغالية وكنزي الثمين!"
ها هي لاحت أمامه من بعيد برفقة فتاة أخرى.. فاعتدل بوقفته، متمتما حين أقتربت منه بعد أن ودعت الرفيقة: ازيك يا بلقيس!
تمتمت: الحمد لله يا يزيد، غريبة ما قولتش إنك هتعدي عليا؟! أنا كنت منتظرة عربية بابا بالسواق!
ابتسم وهو يجيبها ببساطة: ما أنا اتصلت بيكي عشان اعرفك إني جاي، ماردتيش.. فاتصلت بالسواق، قالي إنه هيروح ياخدك.. فقولتله يمشي وانا اللي هرجع بيكي البيت!
_ أنا مسمعتش رنتك خالص.. و**تت برهة شاعرة بالحرج وأردفت: عموما حمد لله على السلامة!
ابتسم مرة أخرى وهو يحاكيها بنظرة عاتبة:
لسه فاكره يا بلقيس!
_ عادي قلت اسيبك تشبع من مامتك واخواتك، وهبقى اكلمك اما ترتاح!
_ تفتكري مكالمتك كانت هتتعبني؟ ولا أنتي مش من الناس اللي اشتاقتلهم؟
**تت ثانيًا، فأعفاها بقوله: أنا عارف إنك زعلانة من اخر مرة اتقابلنا واتخانقنا، و اتعصبت عليكي.. بس أنا جيت اصالحك يا ستي، واستأذنت عمي نقضي اليوم سوا ونتغدا في مكان حلو وهرجعك بالليل!
لم تكن لديها أي رغبة بتمضية اليوم معه، "تحججت" قائلة: أيوة بس انا معرفش إننا هنتغدا برة وكده.. لو اعرف كنت لبست " طقم" مناسب!
مشط هيئتها بنظرة فاحصة، وهتف متهكما رغما عنه:
إيه كنتي هتلبسي حاجة أضيق من كده؟؟؟
رفعت حاجببها بتحفز: هنبتدي بقى؟! أنت مش بتقول جاي تصالحني بردو؟؟
زفر بغضب مكتوم، ثم مسح على وجهه وحاول أن يعود لهدوءه: خلاص خلاص.. اتفضلي بقى اركبي مش ظريفة وقف*نا كده!
رضخت لأمره، واستقلت السيارة جانبه، فانطلق بها متمنيا داخله، أن يكون اليوم خطوة حقيقة في طريق تقريبها منه، وان تراه گ عاشق يستحق نيل قلبها، وتتفهم غيرته وغضبه قليلا..!
... ................ ..