أما في اليوم التالي، وتحديدا في فترة الظهيرة وقد كان مهاب بمكتبه منشغلا بأحد الملفات أمامه حينما دخلت عليه سكرتيرته الحسناء شذى تحدثه برسمية بحته: أستاذ سامح برة ومصر يقابل حضرتك رغم اني بلغته ان حضرتك مشغول جدا ومش هتقابل حد دلوقت زي ما قولتلي بس هو بردو رافض يمشي من غير ما يشوف حضرتك.
رفع مهاب عينيه عن الملف أمامه وقد بدتا في غاية الإرهاق، وقال وهو يمسح بيديه على وجهه: دخليه، واطلبيلي قهوتي.
تسمرت شذى مكانها للحظات فهي لم تتوقع ردا كهذا، فعادة ما يثور ويغضب ويجازي من يخالف أوامره، إذن فهناك سرا وراء هذا الأمر ويجب أن تعلمه، نظر نحوها مهاب باندهاش ثم نهرها بغلظة: شذى! سرحانة في ايه؟
ارتبكت شذى لتقول بتلعثم: هه! أبدا يا فندم.
مهاب: طب ياللا روحي اعملي اللي قولتلك عليه.
أومأت شذى برأسها في طاعة وخرجت صامتة ليأتي سامح بمفرده فيحيي مهاب باحترام بينما بادره الأخير بسؤاله: خير يا سامح! عملت ايه؟
سامح بعملية: كل اللي حضرتك عاوزه اتنفذ، ثم قدم له ملفا كان يحمله في يده موضحا: الملف دة فيه كل المعلومات اللي حضرتك طلبتها.
أخذ منه مهاب الملف دون أن يفتحه وأشار له بإصبعه محذرا: المهم تكون المعلومات مظبوطة وإلا...
قاطعه سامح بثقة مؤكدا قبل أن يكمل تهديده: يا فندم حضرتك عارفني وعارف شغلي كويس، وبعدين دي مش أول مرة يعني تكلفني فيها بمهمة من النوع دة.
أقر مهاب في نفسه بصحة قوله ولهذا السبب تحديدا اختاره هو خصيصا لتلك المهمة، فأشار له بالإنصراف: أوك، تقدر تروح انت دلوقت على مكتبك وقبل ما تمشي يبقا عدي ع الحسابات هتلاقي مكافئتك هناك.
سامح متمنعا بتهذيب: مكافئة ايه يا فندم؟ حضرتك خيرك سابق.
مهاب: المهمة دي كانت خارج الشغل عشان كدة أنا خصصتلك مكافأة ليها برة المرتب.
سامح بابتسامة ممتنة: متشكر أوي يا فندم، وربنا يديم عزك.
مهاب منهيا الحديث بحسم: تقدر تتفضل دلوقت على شغلك.
سامح مطيعا: أمرك يا فندم.
وخرج سامح وهو بداخله يزداد إعجابا بشخصية مديره، فرغم صرامته وحدته في الكثير من المواقف إلا أنه دائما ما يقدر كفاءة موظفيه ويعطي كل ذي حق حقه.
وقد لاحظت شذى تلك الابتسامة التي تعلو وجهه فاستوقفته وهي تجلس خلف مكتبها: استاذ سامح!
توجه سامح ناحية مكتبها ولازالت الابتسامة مرتسمة على شفتيه: خير يا آنسة شذى؟
تقف شذى وتميل نحوه بدلال مستخدمة سلاحها الأنثوي: واضح كدة ان الشركة داخلة على صفقة من العيار التقيل وعشان كدة مهاب بيطلبك كل شوية، يا ترى مع مين المرادي؟
نظر سامح نحوها بشك، ثم ابتسم بمكر ليقترب منها أكثر مقلصا المسافة بينهما: هقولك، بس هاتي ودنك عشان الكلام دة سر.
ابتسمت شذى بانتصار ولفت وجهها قليلا ليقرب هو فمه من أذنها، ثم قال فيما يقرب الهمس: أنا أصلا مش فاهم انتي بتتكلمي عن ايه؟ وأي حاجة تحبي تعرفيها عن الشغل اسألي مهاب بيه.
شدد على كلمته الأخيرة وكأنه يتعمد تذكيرها بضرورة المحافظة على الألقاب أثناء وجودها بالشركة ليتركها ويرحل وقد عبس وجهها لتجز على أسنانها غيظا.
..............
وفي الداخل بمكتب مهاب تطلع نحو الملف الذي أعطاه له سامح، ثم أخذ نفسا عميقا قبل أن يفتحه، فأول ما وقعت عيناه كانت على صورتها التي تص*رت مقدمة الصفحة الأولى، نظر نحو الصورة بتمعن فوجدها لفتاة محجبة بملامح عادية في مقتبل العمر، ليس بها ما يميزها عن غيرها من بنات ج*سها، تركت عيناه الصورة ليبدأ في قراءة تلك المعلومات أسفلها بتركيز كبير.
..............
نعود مرة أخرى لشذى التي تجلس خلف مكتبها تعض على أناملها غيظا و تتطلع ناحية باب المكتب المغلق كل ثانية وكأنها تريد اختراقه لتعلم ماذا يدور بالداخل؟ ثم جاءتها الفرصة حينما جاء العامل يحمل بين يديه الصينية التي تحوي فنجانا من القهوة وكوب ماء متجها بها ناحية باب مكتب مهاب فاستوقفته بصوتها الآمر وهي تتجه نحوه بخطوات سريعة: استنى يا عم متولي، مهاب بيه قالي أنا اللي أدخله الصينية.
انطلت كذبتها على العامل المسكين، فترك لها الصينية ثم غادر، هندمت شذى نفسها في لحظات قبل أن تطرق الباب ثم تفتحه وتدلف إلى الداخل لترى مهاب لايزال جالسا خلف مكتبه يطالع على ما يبدو ذلك الملف الذي سبق ورأته مع سامح بالخارج وكما يبدو فإنه لم ينتبه لدخولها و قد أسعدها ذلك للمرة الأولى فقط، فتقدمت منه ببطء حتى توقفت أمامه ونظرت بعينين مدققتين إلى الأسفل ناحية الملف لتتفاجئ بصورة تلك الفتاة الغريبة والتي يبدو أنها تأخذ كل تركيز مهاب، فمن تكون تلك الفتاة يا ترى؟ ولم يهتم بها مهاب بهذا القدر؟
: فيه ايه يا شذى؟
خرج هذا السؤال الغاضب من فم مهاب الذي نظر نحوها بعينين حادتين، أما هي والتي قد فاجأها تحديقه بها ويبدو أنها لم تفق بعد من أفكارها فخرج سؤالها عفويا: مين دي؟
تجعد جبين عمر وهو يصيح فيها بصرامة: نعم!
ابتلعت شذى ريقها بصعوبة و حاولت تدارك الأمر سريعا فوضعت الصينية أمامه وهي تقول: القهوة!
سألها مهاب بشك: وانتي جايباها بنفسك ليه؟ أمال فين عم متولي؟
كانت شذى قد أعدت كذبتها مسبقا لذا فقد أجابت على الفور: عم متولي تعب ومقدرش يجيب القهوة، فخليته عملها وأنا اللي جبتها.
هز مهاب رأسه صامتا وهو يرتشف بعضا من قهوته ثم أشار لها بيده: طب روحي انتي دلوقت وبلغي رؤساء الأقسام انهم يستعدوا للاجتماع.
ونظر نحو ساعة يده ليردف: خلاص مش باقي غير نص ساعة.
شذى بعملية: حاضر يا فندم
ثم خرجت من المكتب ويدور في رأسها ألف سؤال حول تلك الفتاة صاحبة الصورة.
وفور تأكده من مغادرتها للحجرة أخرج حافظة نقوده من جيب سترته المعلقة خلف الكرسي الذي يجلس عليه، ليفتحها ويلتقط منها تلك الورقة الصغيرة المطوية بعناية ففضها وأمسك بهاتفه الخلوي، ثم ضغط على عدة أزرار به ووضعه بالقرب من أذنه وانتظر، لحظات وأتاه الرد من الطرف الآخر ليتحدث هو بسؤاله الذي كان يحمل الكثير بطياته: الشيخ علي عبدالرحمن معايا؟ معاك مهاب مهران.
..............
وفي الجانب الآخر يظهر الشيخ علي يرتدي عمامته بمساعدة زوجته التي سألته بفضول: يعني مقدرتش تفهم من صوته هو عايزك في ايه بالظبط؟
أجاب علي بحيرة: والله يا أم مصطفى اللي زي مهاب دة صعب تفهمي منه غير اللي هو عاوز يوصلهولك، وبعدين يا خبر النهاردة بفلوس كمان شوية هيبقا ببلاش، وأديني رايح أقا**ه وأفهم منه هو ناوي على ايه؟
سهير بقلق: طب يعني هو ليه طلب يقابلك برة؟ ماهو كدة كدة جاي لمنطقة فكان أحسن انه ييجي هنا البيت وأهو كنا بردو قومنا معاه بالواجب، ولا على راي البت صفوة، هو مستعر يعني من معرف*نا؟
علي بحيادية: خلي الجدع على راحته يا أم مصطفى، وبعدين بلاش تسيئي الظن في الناس، وبعدين لحد دلوقت احنا ما شوفناش منه حاجة وحشة، وأنا كمان لما خليت أستاذ شعبان المحامي يسأل عنه الراجل قالي انه سامع عنه وعن أخلاقه كل خير.
ثم أضاف بنفاذ صبر: وياللا كفاياكي أسئلة بقا وخليني أنزل أقابل الراجل لان ما ينفعش أتأخر عليه وهو جاي منطقتنا أول مرة وميعرفش حد غيري.
سهير: ماشي يابو مصطفى، بس ما تتأخرش عليا يا خوية، انت عارف ان مش هرتاح غير لما أطمن انت عملت ايه؟
علي وهو يهم بالمغادرة: ان شاء الله، واللي فيه الخير يقدمه ربنا، ياللا، سلام عليكم.
سهير: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
................
تجلس شذى بجوار والدتها التي تتابع احدى البرامج التليفزيونية بانتباه، بينما كانت ابنتها في عالم آخر، تفكيرها منصب على شخص واحد وهو مهاب مهران وسر تلك الفتاة التي ظهرت لها من العدم، تقضم أظافرها بغيظ حتى لاحظتها كاميليا أخيرا فنظرت نحوها بتقزز وهي تنهرها: بطلي الحركة الزبالة دي بقا، وكمان انتي ايه اللي مضايقك أوي كدة؟ كلنا عارفين مهاب ابن خالتك، وعارفين ان مفيش في دماغه غير الشغل وبس وعشان كدة أنا خليتك تشتغلي معاه لان دي الطريقة الوحيدة اللي ممكن توصلك ليه؟ أما موضوع الصورة دي، فممكن تكون صورة لبنت واحد من العملا اللي عاوز يوصله عن طريقها مثلا.
بينما نفت شذى استنتاج والدتها بقوة: لا يا ماما، استحالة، مهاب عمر ما كانت دي طريقته في الشغل، هو طول عمره ص**ح ودوغري ومش بيحب الطرق الملتوية دي.
سألتها كاميليا بملل: أمال تفتكري هو مهتم بيها ليه وبيجمع معلومات عنها؟
شذى بحيرة: ماهو دة اللي مجنني ونفسي أعرفه، لو بس صبر لحظة كمان كنت قدرت ألقط بقية الاسم وعرفت أدور حواليها بمعرفتي، بس للأسف هو بس أول اسم اللي عرفت ألقطه وبعدين ابن أختك خد باله وخلاني ارتبكت.
كاميليا باطمئنان: ع العموم، شوية و أكيد هنعرف، مفيش حاجة بتستخبى للأبد.
ثم تحول اهتمامها لشيء آخر حيث تساءلت بنظرة ذات مغزى فهمته ابنتها: المهم، هو عامل معاكي ايه؟
شذى بضيق: ولا حاجة، علاقتنا لا تتعدى المدير والسكرتيرة، دة يمكن قبل ما أشتغل في الشركة كان بيعاملني أحسن من كدة.
كاميليا باتهام: ماهو انتي اللي ع**طة ومش عارفة تستغلي دة لصالحك، أنا وافقت على شغلك معاه عشان تقربي منه وتفهمي دماغه ماشية ازاي وايه هي نقطة ضعفه اللي مكن تدخليله منها.
شذى بابتسامة ساخرة: مهاب مهران ليه نقطة ضعف! أهو دة بقا اللي أشك فيه.
ثم أضافت بحنق: ع العموم نعرف موضوع اللي اسمها صفوة دي الأول وبعدين نشوف ممكن أعمل ايه تاني؟
.........
ذهب علي و زوجته إلى شقة صفوة ليزفا إليها الخبر، فما ان عاد علي إلى شقته وأخبر زوجته بنتيجة لقائه مع مهاب حتى أصرت سهير أن يذهبا في الحال إلى صفوة ويخبراها معا بما قد يسر قلبها، ولكن ع** ما توقعا فقد تجهم وجهها ما ان أتم علي حديثه فتساءلت سهير يشك: مالك يا صفوة يا بنتي؟ شكلك مش فرحان كدة ليه؟
صفوة بتهكم: لا ازاي يا خالتي؟ أكيد طبعا فرحانة لأن طلعلي أهل هيطيروا من السعادة أول ما عرفوا بوجودي.
ثم بدأت دموعها تتساقط وصوتها يختنق وهي تكمل: دة حتى مفيش حد فيهم كلف خاطره وطلب ان يشوفني، حتى عمتي اللي بتقولوا انها عايشة هي فين؟ وليه ما جتش شوية على نفسها واتنازلت وجات زارتني، أو أقل واجب كانت بعتتلي أروحلها لو كانت شايفة يعني ان بيتي مش أد مقامها.
ثم تمسكت بيد سهير وهي تطالبها باستجداء: أرجوكي يا خالتي.
ووجهت رجاءها لعلي كذلك: أرجوك يا عم علي، أنا مش عاوزة أروح هناك، خليني هنا وسطيكم وتحت عنيكم، أنا هنا مطمنة أكتر وحاسة بالأمان.
مسحت سهير على رأسها بحنان لتهدئ من روعها بينما استدعى علي خديث ال*قل متغلبا على مشاعره وهو يقول: يا بنتي، صدقيني اللي بنعمله دة لمصلحتك، ودول مهما كان في الأول وفي الآخر أهلك ومحدش هيخاف عليكي ويحميكي انتي وأختك أكتر منهم، يمكن رد فعلهم بالنسبالك يبان انه بارد حبتين، بس دة يرجع لانهم لسة حاسين بالصدمة ولسة مش عارفينك، وأنا متأكد وكلي ثقة ويقين بالله انهم أول ما يعاشروكي ويعرفوكي كويس هيحبوكي أكتر مننا، وبكرة تقولي عم علي قال.
نظرت نحوه بغير اقتناع وقد تحجرت دموعها فيبدو أن لا طائل منها وعليها أن تبدأ بالتعامل مع الوضع الجديد والمحتوم، فقالت بجمود: خلاص اعملوا اللي تشوفوه وأنا جاهزة لأي حاجة.
علي باستحسان: أيوة يا بنتي كدة، سلمي أمرك لله، وهو أكيد مش هيخذلك، وابن عمك قالي انه هيعدي ع الساعة ٤ بعد العصر عشان ياخدك انتي وأختك، فجهزي حالكم عشان تبقوا جاهزين في الميعاد.
أومأت صفوة بالإيجاب: ان شاء الله.
.................
عاد علي وزوجته إلى شقتهما وقد ترقرقت عينا سهير بالدموع وهي تقول لعلي: والله البنت صعبت عليا خالص يا أبو مصطفى، وأول ما مسكت ايدي واترجتنا اننا ما نسبهاش كان هاين عليا اني آخدها في حضني وما سبهاش أبدا مهما حصل والوصية دي بقا يبقا ابن عمها يبلها ويشرب ميتها.
بينما اعترض علي بهدوء ربما لعدم اقتناعه التام بما يتفوه به: احنا كدة عملنا الصح يا ام مصطفى.
فأتاه سؤال ابنته التي خرجت من حجرة الصالون للتو: الصح بالنسبة لمين يا بابا؟
أجاب علي بإيضاح: الصح بالنسبة للأصول يا بنتي.
رفضت مريم الاقتناع بالأمر وهي تقول باستهجان: مع احترامي لحضرتك، أنا المرة دي مش موافقاك، مفيش أي أصول تقول ان واحدة تتخلى عن حياتها وبيتها والناس اللي عاشت معاهم طفولتها ومراهقتها وجزء من شبابها معاهم لحد ما حفظتهم وحفظوها، عشان تروح تبدأ حياة تانية مع ناس عمرها ما شافتهم لا تعرفهم ولا يعرفوها وتأقلم نفسها على نمط حياة جديد، كل دة عشان حتة ورقة كتبها أبوها في آخر أيامه وهو على سرير الموت وممكن يكون مشكك في قواه ال*قلية في الفترة دي.
: مريم!
خرج صوته حادا معنفا، ثم أشار نحوها بإصبعه في تحذير: إياك أسمعك تاني بتتكلمي عن عمك كامل الله يرحمه بالطريقة دي، وخلاص الكلام في الموضوع دة اتقفل لحد كدة، تصبحوا على خير.
ثم توجه ناحية غرفته منهيا الحديث، فرغم اسلوبه في تربية أولاده الذي يعتمد فيه على الحنان و التفاهم والحوار، إلا أنه لا يفتقر إلى الحزم والصرامة في بعض الأوقات إذا تطلب الأمر منه ذلك.
: شكلك بقا بايييخ.
كان هذا التعليق الساخر على ل**ن مصطفى توأمها الذي خرج للتو من حجرته على صوت والده وش*يقته، فأشارت له ش*يقته بضيق وهي تقول: يا أخي بس انت كمان، الحكاية مش ناقصاك.
مصطفى مهادنا: والله يا بنتي انتي اللي تاعبة نفسك ع الفاضي، دعي الملك للمالك بقا وسيبي الناس تمشي أمورها بطريقتها، مش انتي اللي هتصلحي الكون لوحدك، واحنا سبق وغلبنا نفهمك، ان اللي بيحصل دة لمصلحة صفوة و صفا قبل أي حد تاني بس انتي اللي راكبة دماغك وخلاص.
بينما قررت مريم عدم الاستماع للمزيد من نصائحه، فطلبت من سهير بلطف: ماما، بعد اذنك أنا هغير هدومي وهروح أبيت النهاردة مع صفوة.
ثم أضافت ببعض الحزن الذي بدا جليا على ملامحها: يا مين عالم، ممكن نشوف بعض تاني امتى؟