(بعض القرارات تحتاج وقت للتفكير، وبعضها لا يحتاج إلى التفكير فعليك أن تقرر سريعا قبل فوات الأوان)
قرار قبوله الوصية يجب أن يكون سريعا فبنات عمه لايجب ألا يظلوا بمفردهم لوقت طويل هكذا تربى، وفي نفس الوقت هو يحتاج للتروي في الأمر فإنهما بنتين أكبرهما في عمر الشباب لا يعرف عنها أو عن أخلاقها شيئا فكيف سيسمح لها بأن تأتي إلى بيته تحتك بأمه و عمته و أخته التي تقريبا في نفس عمرها،......وأخيه!
لذا كلف موظفه هذا بجمع كل المعلومات عن تفاصيل حياتها قبل أن يتخذ قراره الذي في النهاية لن يكون بالتخلي عنهما مهما جاءته من معلومات فإن صعب عليه استضافتهما في منزله فحتما سيجد وسيلة أخرى للمساعدة.
..................
أما عن صفوة فبعد أن ذهبت أختها للدرس توجهت هي لشقة الشيخ علي كما طلبت منها زوجته سابقا، ورغم صعوبة الموقف فقد تحتم على علي أن يخبرها بتفاصيل لقائه بابن عمها فهي أولا وآخرا صاحبة الشأن ويجب أن تطلع على كل كبيرة و صغيرة في كل ما يخصها، كان وقع خبر وفاة عمها عليها صادما ليس بسبب معزته في قلبها فهو بالطبع لا يملك تلك المعزة لأنها لم تره من قبل ولم تكن تعلم عنه شيئا قبل وفاة والدها، ولكنها بمجرد أن علمت بوجوده وأنه من المحتمل أن يكون لها سندا في الحياة بعد والدها فقد أعاد لها ذلك قليلا من الأمان الذي فقدته، ثم استمعت لباقي حديث الشيخ حول لقائه بمهاب ابن عمها فعلقت ساخرة على الأمر: ابن الذوات محتاج وقت عشان يعترف بيا؟
ثم أضافت وقد اختنق صوتها بالبكاء: الله يسامحك يا بابا، انت السبب في اللي بيحصلي دلوقت، ليه عاوزني أدوق من نفس الكاس اللي انت شربت منه زمان؟
الشيخ مهادنا: يا بنتي ما تظلميش حد، هو من حقه يسأل ويتأكد، ما هي مش حاجة سهلة بردو ان الواحد بعد العمر دة يعرف ان كان ليه عم ومخليه كمان وصي على بناته اللي عمره ما شافهم.
ثم حاول مداواة الأمر بطريقته حيث ابتسم باعثا التفاؤل في نفسها: ثم كمان المهلة دي احنا محتاجينها زي ماهو محتاجها بالظبط، عشان نسأل عليه احنا كمان، وعن أخلاقه ونعرف مين اللي عايش معاه ولا عايش لوحده عشان نعرف نتصرف.
صفوة بابتسامة حزينة: طب ودي هنعرف نتصرف فيها ازاي يا عمي؟ الوصية كانت واضحة إما يقبلها أكمل مهران أو حد من أولاده في حالة وفاته ما ذكرش فيها بقا اذا كان الحد دة أعزب أو متجوز، عايش لوحده أو مع عيلته.
ثم عادت تندب حظها مجددا: أنا مش عارفة بابا الله يرحمه عمل فينا كدة ليه؟ يسلمنا لأغراب لا نعرف عنهم ولا عن حياتهم حاجة ليه؟ مع انه سايبنا مش محتاجين حاجة.
فتحدث الشيخ بمنطقية: الحوجة يا بنتي مش شرط تبقى مادية وخصوصا في حالتك انتي واختك، انتم صحيح مش محتاجين فلوس بس محتاجين اللي أهم من الفلوس، محتاجين الأمان والرعاية، محتاجين حد يخاف عليكم ويحميكم من عيون وكلام الناس، ومفيش اللي ممكن يعمل كدة غير واحد لازم يبقا من لحمكم ودمكم.
بينما سخرت صفوة من هذا التفكير معللة: وساعات اللي من لحمك ودمك دة هو اللي ممكن ينهش فيك قبل الغريب.
الشيخ موافقا: معاكي حق في دة، وعشان كدة أنا من بكرة ان شاء الله هحاول أسأل على ابن عمك كدة من تحت لتحت وأشوف هو عايش مع مين وحياته ماشية ازاي، واللي فيه الخير يقدمه ربنا.
..................
بعد حديثها مع الشيخ كانت بحاجة لصديق يفهمها أكثر و يبدد مخاوفها، لذا فقد خرجت من شقة علي إلى الشارع متجهة إلى تلك العيادة الخاصة التي تعمل بها صديقتها الوحيدة رغم فارق السن بينهما، استقبلتها مريم بالحفاوة والترحاب ولم يخل الأمر بالطبع من بعض المشا**ة: صفوة هانم عندنا، يا مرحبا يا مرحبا، نورك غطا على الكهربا.
ثم مدت تلك السماعة الخاصة بالفحص والمعلقة في رقبتها ناحية قلب صفوة: وريني كدة لما أشوف.
فأبعدت صفوة يدها بتذمر: ايه دة؟ انتي ما صدقتي انك حطيتي ايدك على مريض ولا ايه؟ وانا أقول ليه كل ماجي ألاقي العيادة مهوية، أتاري المرضى هربوا من رخامتك عليهم، والله انتي اللي هتخربي بيت الدكتور حسن وتخليه يقفل العيادة بالضبة و المفتاح.
أطلقت مريم ضحكة ساخرة تستخف بها من حديث صديقتها: هه هه، أقول ايه هما الناس الناجحين اللي زيي لازم يحبطوهم أعداء النجاح اللي زيك، بس كلامك دة ولا يهز شعرة واحدة من شعري، ثم يا جاهلة أنا ذنبي ايه انك دايما بتجيلي في فترة القيلولة يعني المرضى بيكونوا مقيلين مش فاضيين ييجوا يكشفوا.
أومأت صفوة برأسها موافقة وقظ تصنعت الجدية رغم ما تحمله كلماتها من سخرية واضحة: اه فعلا معاكي حق، أنا ازاي فاتني الموضوع دة، يعني العيانين الفترة دي هيناموا ولا يكشفوا، وكمان بيقولوا النوم سلطان، يعني لو حد فيهم تعب وقرر انه ييجي الفترة دي عشان يكشف ممكن النوم يغلبه فيأجل الكشف لبعد ما يصحى مثلا، وهو انتي يعني هتروحي فين؟ مانتي قاعدة متلقحة هنا ال٢٤ ساعة.
فزمت مريم شفتيها بعدم رضا لتقول: تصدقي فعلا أنا غلطانة اني بتكلم مع واحدة زيك، وسايبة حالي ومالي عشان أد*كي جزء من وقتي الثمين واسمع لتفاهاتك، واتفضلي بقا انكشحي من هنا لاننا خلاص شطبنا وهنرش مية.
صفوة مستعطفة: وأهون عليكي بردو يا ميرو؟ دة أنا صفصف حبيبتك.
تصنعت مريم التفكير قبل أن تقول بتمهل: ميرو، وصفصف! يبقا الموضوع أكيد يستاهل، اتفضلي ارغي بس بايجاز.
ثم بدأ الحديث يأخذ منحنى جادا حينما بدأت صفوة تقول: هو عم علي مش حكالك اللي حصل؟
هزت مريم رأسها بالإيجاب وهي تقول: حكالي.
ثم أضافت بمنطقية طالما أعجبت صفوة: بس احنا كنا متوقعين الأسوأ، ولا ايه؟
صفوة بحزن أصبح ملازما لوجهها وحديثها مؤخرا: ورغم كدة كان عدي أمل ان كل شكوكي تطلع وهم، وألاقي فيهم الأهل اللي مستعدين انهم يحموني أنا وأختي ويحاجو علينا لاننا مهما كان لحمهم ودمهم.
ثم بدأت تنتحب: أنا مش عارفة ليه انا بالذات اللي بيحصل معايا كدة؟
أخذتها مريم في حضنها لتربت عليها بحنان وتعمل على مواساتها وهي تنهرها بلطف: شششش، حرام الكلام دة، انتي ما تعرفيش ليه ربنا عمل كد؟ أكيد فيه حكمة من ورا دة انتي ما تعرفيهاش، ويمكن دة اختبار ليكي بيشوفك هتصبري ولا لا؟ يبقا لحنا بقا نعمل ايه؟ نصبر ونحمده على كل اللي يجيبه، مش كدة ولا ايه؟
أراحها كلامها فتقريبا هذا هو سبب لجوءها لها في تلك الأوقات فكلامها دائما ما يكون فيه بلسما لجروحها، لذا كفكفت دمعها بأناملها وهي تقول بنفس راضية: الحمد لله.
ثم أضافت بابتسامة محبة: تعرفي يا مريم أنا لو مشيت من هنا ايه أكتر حاجة هفتقدها؟
أجابت مريم بغرور مصطنع: أنا طبعا، وهي دي محتاجة تخمين!
وافقتها صفوة الرأي بايماءة خفيفة من رأسها لتقول بعدها بمشا**ة: فعلا، تبا لتواضعك!
وهكذا بروحها الخفيفة وصفاء نيتها استطاعت مريم إخراج صديقتها من جو الكآبة التي عايشته لتبدأ مرحلة جديدة وهي فقط الانتظار.
....................
عاد من عمله متأخرا ومُرهَقا كعادته، فهو دائما ما يستنفذ طاقته كاملة في العمل حتى يعود إلى بيته خائر القوى، وكعادته أيضا يتوجه إلى غرفتها قبل الصعود إلى غرفته ليجدها أيضا كما توقع وكما هي عادتها في انتظاره لتطمئن على عودته سالما: مساء الخير يا عمتي.
أجابته كريمة بابتسامتها الملازمة لها: مساء النور يا حبيبي.
مهاب متوجها نحو سريرها الذي كانت تستلقي عليه ليقبل رأسها: عاملة ايه؟
كريما برضا نفس: الحمدلله في أحسن حال، انت اللي عملت ايه؟
كان قد فهم المغزى الحقيقي من وراء سؤالها، ولكنه تعمد تصنع الجهل ليرد بجواب آخر غير الذي توقعته: أنا الحمد لله تمام، والشغل ماشي كويس.
كانت تفهمه ربما أكثر من نفسه وكيف لا وهي التي ربته منذ صغره؟ لذا فقد أبدت انزعاجها من طريقته في المراوغة: مهاب! ما تلفش وتدور عليا، انت فاهم كويس أنا بتكلم عن ايه؟
تأفف مهاب وسألها بنفاذ صبر واضح: انتي عاوزة تعرفي ايه يا عمتي؟
كريمة: عملت ايه في موضوع بنات عمك؟
رد مهاب ببساطة: ولا حاجة.
شعرت كريمة من رده بمدى استهتاره بالأمر فوبخته بحدة: يعني ايه ولا حاجة؟ انت للدرجادي الموضوع مش فارق معاك؟ هو اللي بيجري في عروقك دة دم ولا بقا مية خلاص؟ هتسيب بنات عمك كدة لوحدهم وكل من هب ودب ينهش في لحمهم؟
لم يكن رده بأقل حده عنها: يعني انتي عاوزاني أعمل ايه يعني يا عمتي؟ أجيب واحدة منعرفهاش متربية في بيئة مختلفة عن بيئتنا بعادات وتقاليد تانية تعيش معانا هنا؟ مع أختي البنت اللي في نفس سنها؟ تفتكري هيكون تأثيرها عليها بالسلب ولا بالايجاب، ولو افترضنا ان البنت طلعت أخلاقها كويسة أو ان العلاقة بينها وبين سارة كانت محدودة وتأثيرها عليها كان شبه معدوم، لما أحمد ينزل إجازة أو يخلص جيشه ووجوده في الفيللا يبقا باستمرار، الوضع هيكون عامل ازاي؟ ثم سيبك من كل دة وخليكي في أشكيناز هانم تفتكري هتوافق على حاجة زي دي؟ ولا رد فعلها هيكون ازاي وأنا وانتي عارفين ماما وتفكيرها اللي استحالة انه يتغير.
**ت قليلا ليلتقط أنفاسه التي تسارعت اثر انفعاله الزائد ثم تساءل بعدها بهدوء تنافى تماما مع تلك الحدة التي تحدث بها للتو: تفتكري بعد كل اللي قولته دة قرار زي اللي امتي عاوزاني أخده سهل كدة، ولا محتاج شوية تفكير.
ردت كريمة مهادنة: أنا عارفة كل اللي انت بتقوله، وطبعا مقدرة الحيرة اللي انت فيها.
ثم أضافت وقد غلبت نبرة الشجن على صوتها: بس يا ترى انت كمان مقدر احساسي دلوقت؟ احساس أخت اتحرمت سنين من أخوها واتمنعت من معرفة أخباره واليوم اللي يوصلها فيه خبر عنه يكون خبر وفاته؟ مقدر شوقي لاني أشوف بناته وكأني هشوفه هشوفه هو أدام عينية من تاني وأعوض اللي انا مقدرتش أعمله معاه مع بناته؟
ثم غلبتها عبراتها وهي تكمل باستجداء: نفسي أصلح لو جزء صغير من اللي ات**ر زمان وخايفة لا العمر يسبقني ومقدرش أعمل دة.
إلى هنا وقد رق فؤاده لحديثها فضم رأسها بين جناحيه بعد أن قبّلها وهو يقول: بعد الشر عليكي يا عمتي، كل اللي انتي عاوزاه أنا هعمله بس اديني مهله أظبط فيها أموري وأشوف الدنيا هتمشي ازاي؟
كريمة باقتناع ورضا: أنا عارفة انك أدها وإدود، وإن شاء الله ربنا يوفقك للي فيه الخير يا حبيبي.
ثم أضافت وهي تبعده عنها برفق: ياللا امشي بقا عشان تاخد دوش وتريح جسمك شوية لانك كالعادة أكيد هلكت نفسك في الشغل، أنا مش عارفة هتفضل كدة لحد امتى؟
فطن إلى أنها ستكرر نفس الحديث الذي لا تمل من إعادته على أذنيه بصورة شبه يومية، ولكنه اليوم ليس في مزاج يسمح له بالجدال في خذا الأمر أيضا، لذا قرر الهروب سريعا، فقبلة أخيرة طبعها على رأسها قبل أن يستدير متجها ناحية الباب وهو يقول لها: طب تصبحي على خير يا عمتي.
ثم خرج سريعا متجها ناحية غرفته ليغرق في الكثير من الأفكار التي يحاول الهروب منها بالعمل وبالفعل ينجح بذلك ولكن تأتي ساعات الليل ليكتشف أنه قد كان مجرد هروب مؤقت، حتى عندما ينجح ويطرد تلك الأفكار مستدعيا سلطان النوم تتلقفه تلك الكوابيس اللعينة حتى الصباح.
..................
ثم ننتقل إلى مكان آخر حيث البحر و الرمل والسماء الصافية والجو الرائع الذي يدعو للاستجمام، نجد تلك المدعوة أشكيناز (العجوز المتصابية) حيث لا يظهر عليها عمرا محددا بسبب ذلك الشعر الذي لا يخلو من الصبغات التي يتغير لونها كل فترة، وكذلك عمليات التجميل من شد وغيره مما يخفي أثار التقدم في العمر، ناهيك عن مستحضرات التجميل التي تُستخدم بإفراط وكذلك تلك الثياب التي لا تناسب عمرها إطلاقا، ولكنها تبقى في النهاية أشكيناز هانم ذات الشخصية القوية والكبرياء المتأصل والاسم العريق الذي يعود لعائلة الوهداني، أما إذا رأينا تلك الشابة حديثة السن التي تسير بجوارها فيمكننا أن نخمن كيف كانت أشكيناز في صباها مع فارق الشخصية بالطبع، فسارة تختلف كثيرا في شخصيتها عن أشكيناز، فهي مرحة، متقلبة المزاج، ومتهورة في اتخاذ القرارات كما أنها إجتماعية بصورة كبيرة ولكن تلك الصفة قلما تظهر بسبب تحكمات والدتها في اختيار أصدقائها والذين بالطبع يجب أن يتحلوا بصفات معينة حسب مقاييسها في تقييم البشر.
أبدت سارة تذمرها وهي تض*ب بقدمها بعض الحصوات على الأرض: يا ماما، خلينا نرجع بقا أنا خلاص زهقت ومليت، وكمان الدراسة قربت وانا لازم أجهزلها دة غير ان أصحابي وحشوني أوي بصراحة.
أشكيناز بجمود غير مبال: لما أعصابي تستريح نرجع، غير كدة مش عاوزة رغي كتير.
كانت كلمتها دائما هي الأولى والأخيرة لا تحبذ الجدال كثيرا، مما دعى سارة للرضوخ لأمرها ولكن لم يمنعها ذلك من ابداء امتعاضها وهي تحدث نفسها بصوت شبه مسموع: أنا كان مالي ومال الليلة دي.
لا تعلم ان كانت أشكيناز قد استمعت لكلماتها بوضوح أم لا؟ ولكن الأخيرة نهرتها قائلة بحزم: كفاياكي برطمة، وكمان مانا كلمت بنت خالتك شذى عشان تيجي معانا وأهو تسلوا بعض بس هي قالت انها مش هينفع تاخد إجازة من الشركة لان مهاب شبه معتمد عليها في كل حاجة.
فعلقت سارة بينها وبين نفسها ساخرة: وطبعا دي جايالها ع الطبطاب، بس على مين؟ مش مهاب مهران اللي يقع الوقعة دي.
ثم أفلتت منها ضحكة خافتة لاحظتها أشكيناز لتوبخها مجددا: بنت! انتي اتجننتي ولا ايه؟ بتكلمي نفسك؟
اختفت ابتسامة سارة على الفور لتعلق مجددا بخفوت: أعمل ايه؟ ماهو من الغلب اللي بشوفه، الله يسامحك يا مهاب يا خوية، انت كنت صاحب الفكرة الهباب دي، وقال ايه؟ ما ينفعش أسيب ماما تسافر لوحدها، قال يعني ماما ست ممكن يتخاف عليها، دي تخوف بلد يابا.
نظرت نحوها أشكيناز مجددا لتلحظ حديثها الخافت والغير مفهوم فتهز رأسها يمينا ويسارا حيث لا فائدة من تلك المزعجة التي أُختيرت خصيصا لتصحبها في رحلتها تلك والتي من المفترض أن تكون رحلة للاستجمام كي تريح أعصابها قليلا!