-يا إمي هاد ما فيه خير لبلده، رح يكون فيه خير الي؟!
خرجت من الصالة بعينين دامعتين، وملهم يشيعها بنظرات غير مفهومة أبداً
صوت سائح بقربها أفاقها من غيبوبة الذكريات، ناظرت كاميرتها مجدداً وشاركت الصور التي التقطتها ونشرتها على الملأ
-الصباح الذي يبدأ بأحضان بلدي ،هو فعلًا صباح الخير.
الكثير من أحببته، وأدعمه، والوااااو أيضاً وتعليقات توالت على صورها، لحظات أو أقل ووصلتها رسالة من ملهم المشاكس..
-يا خاينة ع الجبل بدوني..
ضحكت وردت له بوجوه ساخرة تمد ل**نها
-آه والله، محتاجة عزلة.. وأضافت _لحالي_ بين علامتي تنصيص.
فأرسل لها رمزاً تعبيرياً حزيناً مرفق بـ:
-مو طلعة بدوني
-تعال وأكتب المقال معي، مو عارفة أكتب!
-بطلت إجي، ما اللي مصلحة خلص!
-يا الله شو أنك وقت ضيق فعلاً ..
يرد ضاحكاً :
-الله لا يجعل ضيقتك بغير الأكل ما في غيره بستاهل!
ردت بوجوه ضاحكة كثيرة ومعها -معك حق الأكل اللي بستاهل ضيقنا!
-شو طابخة نهال اليوم؟
-ما عندي فكرة، أظن إننا معاقبين لأسبوع بدون طبيخ..
يرد بخيبة
-كله بسببك ليش ما وافقتي عالعريس اللقطة!
-عشان أضل قاعدة على قلبك!
بوجوه حزينة ورموز تعبيرية كلها مسدسات :
-أنت أرفضي وإحنا نضل بدون أكل !
تجاذبت معه أطراف الحديث، ثم أنهى الحديث سريعاً كعادته، وسرحت هي بملهم!
ملهم كان وحيها طوال مراحل حياتها، له من اسمه نصيب يبثها كل ما تحتاجه شخصية أقرب للانطواء مثلها..
توالت التنبيهات على هاتفها فناظرته بتأفف وأسدلت ستارة الهاتف، رسائل من الصحيفة تطالب بمقالتها سريعاً تلك المقالة التي لم تجهز منها حرفاً حتى الآن، لكنها شحذت طاقتها بما يكفي لأن تبهر كادر الصحيفة
ورسالة مستعجلة من أباد مفادها "اتصلي بي ضروري"
قطبت متعجبة ونقرت الأزرار:
-طمني أباد، في إشي؟
-أهلين علياء منيح، أنت كيفك؟
قلبت عينيها، اتصال و "ضروري" لتتبادل معه الأحوال وصوته يبدو عادياً لا شيء مهم أو هكذا يراءى لها.
-آه أباد خوف*ني صاير إشي؟
- ثائر رجع؟
-إيش؟!
بابتسامة مهتزة:
- بتحكي جد؟ ثائر هوووون؟
قالتها صارخة تشعر وكأن الأرض تميد بها من تحتها رغم صلابة هامتها وتمسكها بالجدار الأثري!
لقد عاد... عاد ثائر بعد سنوات فقدوا فيها أمل عودته!
" " " " " "
-آه يابا هيني جوا المطبخ تعالي هون..
والتفت للمتعجب بحاجبين معقودين يجيبه:
-هي روبي إجت!! بنت حلال... شو اشتهيتها معنا ع هالأكلة!
إن كان تقطيب حاجبيه كناية عن تعجبه، فما كان من اليمين منهما إلا أن يرتفع مندهشاً وبقوة وقبل أن يسأل عن روبي عاجلته الحنفية بإعادة التنقيط مجدداً فعاد يشتم بخفوت ويتعامل معها..
وصلت الزائرة محملة بأكياس ورقية وابتسامة واسعة تشق وجهها من الأذن اليمين إلى اليسار..
-إيش يا عمّي، خيانة وقلاية بندورة وحركات!!
لوت شفتيها بمكر خفيف..
-ومنزوي بالمطبخ! لازم نحكي لزمرد -ومطتها بتشديد- ونثبت خيانتك بالوجه الشرعي..
-وأنت بدل ما تشجعيني ع عمل الخير، جاية بتخربي عليي، خليني أرجع شباب وأحب..
شهقت وتخصرت قائلة:
-يمّا منكم يما، مالكم أمان لو يوصل الواحد فيكم مية سنة وعحفة قبره إلا يضل قلبه أخضر..
ض*بها بالمنشفة ورد بحنق مصطنع:
-عيب يا بنت، عمرك شفتي عليّي إشي؟
غيابه عن الصورة أساساً وعدم انتباهها لم يسمح له بالالتفات أو إصدار أي حركة فكان خروجه من الخزانة الخاصة بالتمديد محرجاً نوعاً ما بشبكة العنكبوت التي دخل قلبها والتصقت به، ورائحة الرطوبة التي عبقت أنفاسه وثيابه ناهيك عن قطع الأسمنت التي صبغت سترته السوداء، فدعا الله في سرّه أن يخرجها أبو محمود ليتعامل هو مع مظهره!
-عمو أنا مو مطولة، سرقت حالي من الدار، وأباد مش موجود طلع، فحكيت أمرلك وأنا رايحة أجيب قهوة
ضحك أبو محمود بشدة
-هو لساه بخبي أكياس القهوة، يا خيبتي منه وبده ياك موظفة دائمة!
مطت شفتيها وأردفت متذمرة:
-آه والله نكتت الدار زاوية زاوية وما لقيت، ومخبي علب الزيت والزعتر كمان، حتى مرطبان الزيتون اللي لعلياء فاقديته!!
شهقت متذكرة وأفضت له بسرّها:
-ويي لو تعرف لقيته مخبيهم بخزانته! متخيل بالله!!
عاجز عن الرد غارق في سيل من الضحكات الجنونية التي لا يعرفها غير معها وذلك الذي حشر نفسه في الزاوية..
-ما إلو حل أباد..
-وأزيدك من الشعر بيت، اليوم كل الدنيا بتحكي إنه ناهض عزيز كاين بالدار ومجتمع بالكارثة المتنقلة، إلا أباد مش شايفه ولا مجتمع فيه!
سأل مصدوماً:
-ناهض عزيز كاين عندكم؟؟
أومأت بسخط وصوتها الجهوري يرتفع:
-تخيل قديشنا بنستنى نجتمع فيه، وبعرفني أنا تحديداً شو نفسي، ونازل ينكر وينفي..
قاطعها مستغرباً:
-غريبة إجى عالدار تبعكم؟؟
أجابته بغير معرفة تقوس فمها للأسفل:
-انض*ب ع قلبه ولا لشو يجي عند أباد..
وأتمّت الشق الآخر من الجملة..
-ومن حظ قلبي
قالتها والقلوب تتقافز من عينيها تنضح منها بهيام خالص!
-اسمع أنا بدي أطلع بقدرش أضل، هلأ وأنا جاية..
-ما بدك تفطري عنا!
قاطعته تنفي بوجهها تمد الأكياس الورقية، تفتحها تُريه ما بها:
-لا أفطرت مناقيش زيت وزعتر..
أشارت نحو الأكياس:
- والمهم شفت بسطة صاحبها حج كبير هون ع زواية المسجد بيعمل كاسات فخار بتجنن!
وبانبهار تكمل :
-سعرها رمزي حبيتها كتير وانبهرت بشكلها، واتفقت معه أضل آخد من عنده نرسم عليها ونعطيه شي منها يبيعه وشي نستخدمها هون!
تابعت تشرح وهي تنقل أناملها للمقهى:
-العالم رح يحبوهم، فكرتهم مبتكرة ولطيفة، نكتب عبارات حب، صداقة ونرسم رموز إلها معنى!
أبصرها بنظرة عميقة تحمل فخراً، تفهماً، إنسانيةً.. تابعها بعواطف أهل الأرض التي توالت على حدقتيه..
لكم يحب حس الإنسانية الذي يكبر لديها، والشعور بالغير، كم تحمل من عطاء ولا ينفد مخزونها!
رفيقة الفقراء والأبرياء والمشردة قلوبهم!
أولى انتباهه إليها ما أن رآها تستدير نحو الباب، ومن ثم التفتت إليه تخبره مشيرة إليها بكفها..
-وأنت رح ترسم معي! تمام؟
-تمام
بدا صوتها يبتعد فسألته:
-تؤمر بإشي قبل ما أروح؟
-سلامتك، رح تيجي مسا؟
-أكيد، أكيد... يلّا باي
جاء صوتها متباعداً تنزل السلالم خارج حدود كوكب زمرد.
-من متى بتحب ع زمرد يا خاين؟؟ لو ما بعرف زمرد وقصتكم لقلت حبيبتك؟؟
مشغول بأحد أكواب الفخار التي التقطها يتفحصها بين يديه، أجابه وعيناه على زاويتها:
-ليش ضليت بالخزانة؟ كان نفسي تشوفها..
-صوتها بكفي وبوفي، شوفتها مالها داعي..
نفض السترة ومنظره كاملاً، يدخل إلى المرحاض الداخلي يرتب هندامه..
-هالصوت كان عوضي بغيبتك يا محترم!
خرج من المرحاض، وتقدم نحو الكؤوس الفخارية أمسك بأحدها، وابتسم حينما عرف الفن الذي لا تخطئه عيناه لمعت** النجار، صاحب البسطة التي حلقوا في طفولتهم حولها، علمهم أصول المهنة وأخذوها منه..
حنين!
ليته يستطيع أن يستبدل هذا المصطلح ليترك أسماً لكل ما يشعر به
يشعر بالرثاء..
إنه يرثي فنّه.. حِسه.. وقلبه الذي أفقده الشغف بكل ما مضى!
الخواء والفراغ الذي استحله، حال من حضارته الخصبة، رفات مملكة يمر بأطلالها كل يوم ويسأل
-أين أنا من هذا؟