فسحة زمنية قصرية تأخذه من حوله، فيعجز إدراكه عن سماع أبي محمود الذي يستعجله بوجبتهما التي بردت، ألم طفيف عاود النبض في يده جراء حركة خاطئة لفرط الشرود، حطت به لرقعة الواقع فعاود التحليق للطاولة الأولى..
طاولة
المشاركة.. العطاء.. المودة.. البقعة التي تعلموا فيها الشعور الأول من كل شيء!
كيف يبث الشغف! وكيف تنبض الموهبة! وكيف يُهدى العطاء من أراضٍ قاحلة!
تناولا الوجبة بحب، بين كل لقمة وأخرى ضحكة تبدد عتب، ومزاح يرسم ذكرى جديدة..
وأما عنه فقد حاول قدر المستطاع صُنع ذكريات قبل طيرانه! والمقابل له يومئ قلبه بتفهم يستغل اللحظات قبل ضياعها! لكنه لم يستطع أسرها وألقى قنبلته التي تحوم حول أزقة روحه وتؤرقه:
-متى ناوي ترجع هالمرة، وتتركنا!
ترك رداء البشاشة وتلبس ثوب الأب الحازم بحنو:
-متى رح تقتنع إنك لازم تتجاوز، لازم تتعايش وتعرف إنه نصيبك كنت رح توخذه لو كنت بين حضن أهلك!
وبإقرار حقيقي:
-كنت هون أو برا، قضاء ربنا ماضي على الجميع..
هل يمثل الدهشة وتُصعق تقاسميه، لا أبداً... إنه يعرف العم أبا محمود، يقرأه ويحفظه عن ظهر قلب إلى حد يؤرقه!
يعلنها حقيقة لنفسه أولاً، سأمه من مدى الخذلان الذي أهداه الجميع، فهو يخشى ضعفه أن يسوقه نحو المطار مجدداً، يتركهم بقلوب أعلّها انتظاره ليعود..
عاد ولكن بين عودة الجسد وعودة الروح بعد مشرق الأرض عن مغربها!
من دون أن يرفع رأسه أجابه:
-ما جيت هون وإلي نية أرجع، هالقد صورتي مهزوزة بعينك يا حجي؟!
تهدل صوته الوقور :
- أجيك وأقعد معك لأرجع ثاني يوم!
تهللت أسارير العم رغم خوفه، ولكنه يطبطب على روحه بم**رات ثائر..
-فيك الخير يابوي، الله يهدي سريرتك .
غمس قطعة الخبز بالمقلاة أمامه وبحماس سأل:
-شو رأيك أرن للشباب هسا ونجتمع ما في أحبّ ع قلوبهم من هالخبر..
ترك عنه القطعة وهمّ بالتقاط الهاتف ليجري اتصالاته لكن كف ثائر قاطعته
-لا، بدي نأجلها شوي، ما بقدر أقا**هم هسّا!
رمى بخيبته سريعاً وانتظر ثائر يكمل حجته :
-خليني هالأكمن يوم وبوعدك بسهرة الخميس إذا لساها ع موعدها رح ألتقي فيهم..
شخص واحد يعلم كليهما صعوبة اللقاء به، وأنه يحتاج لشحن عواطف إضافية له ولم يكن سوى
-ملهم-..
ولكن بتفهم له وافقه رغم اعتراضه وبشدّة على رأيه، إلا أنه لم يشأ أن يضغط عليه، رآه يستقيم ويرتب هندامه..
-زي ما بدك، أعمل اللي بناسبك وأنا معك ما دامك موجود بيننا؛ وبالنسبة للسهرة الأيام هاي الكل انشغل وانحصرت بنهاية الأسبوع، استثني روبي وملهم طبعاً..
ملهم مجدداً ما يؤرقه كيف سيقا**ه! كم من جلد للذات سيتحمله إذا ما صوب بنظراته العتب والخذلان.
-وهسا شو رأيك تتفضل علينا، زمرد واعدتني بمكمورة على الشوارب!
قهقه بمودة خالصة وأشار بكفه اليسرى صوب قلبه..
-عزيز يا عمي، ربنا يسلمك، بس هسّا لازم أروح للبيت الحجة أكيد قلبها ع نار ومحضرة إلي سفرة!
-إييييييه، لا كبيرة هاي أكيد عامرة اليوم عند أم جهاد، ميسرة يا ابني، سلم ع الأهل كلهم..
-بيوصل بيوصل.. وهسا أمرك بمرلك ع خير..
-ع خير، الله معك، ربنا يحفظك..
" " " " "
"أجمل الأمهات التي انتظرته وعاد أجمل الأمهات التي عينها لا تنام"
-حسن عبد الله
تلحفت بغطاء صوفي ثقيل تقي نفسها لسعات الخريف الباردة، غير عابئة بجلوسها الخاطئ على مقعد انتظار أمام الباب.. جُنت ولا تهتم بما سيقال!
كل جنونها الآن لا يضاهي جنونها حين فتحت باب غرفة ثائر هذا الصباح ولم تجده!!
زادت من ضم الغطاء حولها وكفها الأخرى مشغولة بتمسيد السبحة التي بكفها..
-الله يهد*ك يا ثائر، الله يحميك قد ما بتكوي قلبي وأنا يا بستناك يا خايفة عليك..
خطوات قادمة جعلتها تنتفض من مكانها وتبصر القادم بخيبة فلم يكن سوى جلال ابنها.
-يما شو بتساوي هون أنتِ؟
-بستنى بثائر يا إمي..
أشفق عليها فتقدم منها يربت على كتفها من فوق الشال الصوفي، لسعته برودته فانتفض كفه.. حدّثها بحنو وأبصر مآقيها المتلألئة بدموع الرجاء..
-يا حجة ثائر وين بده يكون راح، تلاقيه طلع يشوف الدنيا ..
تبسم بقوله :
- أشتاق لكل إشي بهالبلد، شوفي حالك كيف جمدتي...
التفتت لنفسها وكأنها للتو تنتبه أنها بالفعل شبه متجمدة:
- هو ثائر صغير لتوقفي تستنيه ع الباب؟!
هزت رأسها بحسرة :
-فوتي جوى فوتي البرد ما بناسك يا حبيبة، أصبريلك شويات وبلشي سخني العشا تلاقيه وصل إن شاء الله..
أطاعته وسارت نحو المنزل، وجدت لطيفة تقف أمام الفرن تراقب نضج المكمورة الطبق الذي أعدته متأخراً بعد مجموعة كبيرة قد حضرتها اليوم..
-يعطيك ألف عافية يا لطيفة، الله يسلم إيد*ك يا رب
-يعافي قلبك ربيحة، شو وصل ولا لساته؟
تن*دت بحسرة وتقدمت حيث الطاولة التي تتوسط المطبخ، سحبت منها كرسياً وجلست..
-لساته، عمّالي بستنى يا لطيفة.. بستنى وهو في إلي حيلة غير إني أستناه..
-غمضي عين افتحي عين، بتلاقيه وصل، شو رأيك أعمل كاستين شاي نمخمخ عليهم؟
أومأت لها بابتسامة، فنهضت لطيفة بضحكة حلوة وشرعت بوضع الإبريق على النار وهي تدندن بألحان أغنية هامت بها الأخرى، وقضيتا الوقت تشرفان على الأطباق التي أعدتاها سوية..
دلفت أمجاد إلى المطبخ تسأل الطعام فقد أنهكها الجوع بعد إعداد وكتابة ملفات مطلوبة منها أجلت لها كل تركيزها، وجدت والدتها والخالة لطيفة يعقدان حلقة طوارئ في المطبخ
ابتسمت بشفقة، فوالدتها أحالت المنزل قسم طوارئ فعلياً، والأخ لم يتفضل عليها بوجوده صباحاً
سرحت به... لقد اجتمعت العائلة كبرتوكول عائلي كل جمعة، حيث يجتمع الجميع على مائدة أم جهاد، لكن لم يكن بالحسبان، الذي حصل أمس...
لقد صعقهم حين طُرق الباب في العاشرة صباحاً ووجدوه ماثلاً أمامهم، لم تسعف الصدمة والدتها الحبيبة فخارت قواها وسقطت مغشياً عليها، تلقفوها جميعاً وهرع إليها بجنون تلبسه، تذكر استيقاظ أمها ودعمه لها بيده الصحيحة، يربت على وجنتيها بلطف يسألها السلامة والمشهد قاتل لأمها يسألها السلامة! وتود الانفجار به وتسأل هل أنت حقيقي! ضمت عنقه لها بعنف مشتاق مال جسده به وأراح برأسه على ص*رها يدفن نفسه في طيات حجابها، فأنفاسها، رائحتها ودفئها سحبوا سموم وجعه وسنين اغترابه
استكان مُغَيباً عما حوله بصوتها وهي تبكي وتنوح سنوات انتظارها له، بدت مغيبةً هي الأخرى تعيش وجعاً آخر غير فقدانه تنطق باسمه:
-ثائر... وتبكي... تبكيه... تبكي وجعه، بتر فؤاده وإحساس يده اليسرى! توالي نوائب الزمن عليه..
-ثائر.. شفت أبوك والله شفته جاي علينا البيت ويضحك، مشي بزوايا البيت كله وبس وصل غرفتك مد إيده بإشي إلي وبس أجيت آخذه خلص الحلم..
حكت حلمها والدمع يهبط حبالاً من سماء عينيها، شهقاتها تطغى على الكلام فتقطعه..
رفعت رأسها فسمحت له بأن يرفع رأسه، تشفي اعتلال قلبها برؤيته، رفعت يديها وضمت وجهه بين كفيها..
-استحلفك بالله ،ما تروح، استحلفك بالله ترجع هون.... إذا اللي خاطر عندك تضل حوليي، كيف قدرت يا بعد عيني كيف قدرت تهجرني؟؟
ووصلة دموع مجددة، جلال وجهاد يتابعان المشهد بدموع غير قادرين على التدخل، وفي الجهة المقابلة تقف عهد المذهولة، وأمجاد بذاتها التي لا تقل ذهولاً عن الأخرى.. ما يصعقها بشدة رؤية والدتها وثائر المنفصلين عن كل شيء.. وكأنهم.. يعيشون طقوس موت والدهم مرة أخرى!