" " " " ""
لا يخفى عليها هلع ش*يقها وملامحه التي وشت بجنونه حال رؤيته والدتهم تسقط مغشية عليها، وكأنه لم يعتد طوال حياته على هبوط السكر الذي يسبب لها الإغماء في حال الصدمات المفاجئة..
بعد مدة طويلة جداً، جداً انتهى به الحال بين أحضانهم جميعاً، وحين حلّ وقت صلاة الظهر، أخبرهم بأنه لن يستطيع أن يصليها حاضراً في المسجد سيصلي في المنزل..
-خلص روحوا إنتوا، ما بقدر أصليها حاضر، رح أصليها بالبيت، بلاش تتأخروا.
صعد السلالم نحو الطابق الثاني، لحقت به وتوارت خلف أحد الأبواب لتراه أين سيذهب ولم يخطئ حدسها إذ رأته يقف أمام غرفة مكتب والده، طرقها مرة.. مرتين، لم تستغرب طرقه، فهم للآن ولحد هذه اللحظة لا يدخلونها دون طرق بابها، حتى لو أن صاحبها قد غادر من سنوات
شدّ على مقبض الباب وطال وقوفه ثم دخلها ولم تستطع كبح فضولها فلحقته، لم يتسن لها معرفة ما الذي يفعله، لكّنها سمعت صوت باب غرفة المرحاض الخاصة بوالدها.. ثوان قليلة صوت تكبير، تقدمت أكثر، وأكثر، فتحت الباب فوجدته ساجداً..
طال سجوده.. طال.. وطال إلى أن سمعت صوتاً اقشعر له بدنها... ثائر يبكي.. كان يبكي بصوت عالٍ!
زفت عينيها دمعة يتيمة، التفاف يد حول كتفيها نزع منها فسحة السير في أروقة الذكرى، رفعت رأسها فأبصرت ثائر، أشاحت بوجهها غاضبة، إذ أنها لن تسامحه على تركه لهم، فزاد من ضمها له، استسلمت لاحتضانه ومرغت رأسها إلا أن شهقة والدتها الفرحة غير المصدقة جعلتها تهرول إليه مسرعة وتنزعها من أحضانه وتستولي عليها كلها..
-شو عاملة إلي يا حجة، ريحة الطبخ فايحة بكل الحارة..
-أنت إجييييت يا حبيبي، إجييييت.. هيو إجى يا لطيفة، كنت عارفة إنه رح يرجع، كنت عارفة..
وين كنت يا حبيبي وين كنت؟ من الصبح أستنى فيك.. من الصبح بستنى!
ناظرته ووجدت ملابسه تعج بالتراب، وكأنه متمرغ بها هو الوصف الأفضل، وباستعجال رغم ثقتها بأنه كان عند قبر والده قالت:
-روح غير وانزل لأنزل العشا، روووح يا حبيبي، هينا بنسخنه، ما تغير وتشوف حالك تلاقينا حطيناه.
وصلة أحاديث كثيرة، والمنزل تحول من قسم الطوارئ، لمطبخ انتاجي بامتياز وهاهم جميعهم حول مائدة الطعام التي جودتها أمها بمساعدة الخالة لطيفة..
مقلوبة، مكمورة، ورق عنب، كوسا، وملفوف أيضاً، نوعين من الشوربة، كبة مشوية ومقلية، وكأن ثائر في دول المجاعات، سلطات ومخبوزات عصائر وطبق الملوخية الذي لا يطيق طعمها متواجد على الطاولة
استغربت عدم تواجد المنسف لكنها قد تذكرته بأنه وجبة الأمس المعتادة التي شاركهم ثائر بها..
********************
انفض العشاء، وشربوا الشاي عنوان كل سهرة، ولما أمّن الليل سكون الناس بظلامه، لم يستطع أن يغشى عيني الساهر الذي يتقلب على فراشه
صوت خطوات قادم جعله يستكين، فُتح باب غرفته سبقت رائحة القادمة جسدها، فاستكان ليوهب قلبها السكن
تقدمت خطواتها الحذرة، جلست على طرف الفراش عدلت وضع لحافه واقتربت منه أكثر تب** جبينه بقبلة من وجهها الوضاء، وخرجت..
-الله يوخذ الوجع من قلبك ..ريت قلبي يتلقى وجعك كله ولا أشوفك بيوم حزين!
استقام من سريره، وخرج من غرفته قاصداً غرفة والدته، أكله الندم لما لم يوحِ لها باستيقاظه لينهل من حنانها، وصل غرفة المكتب، وفي نيته تجاوزها ولم يفعل... طرق الباب مرتين ودخل، فوجد الغرفة تسبح في ظلامها، ولا خير منه في التعايش معه
مجدداً توضأ واستقام للصلاة، ركعتين في جوف الليل ابتهالاً لإن يحظى والده بالرحمة والمغفرة..
سلّم ومضى في جلوسه يدعو، ويسأل إلى أن انفلت عقال ل**نه وباح بسرّه..
-لو بدي أقول ليتني أنا ولا أنت، بتذكر إنك متت محسور عليي، فموتي قبلك، بخليني أكون معك بدار الحق..
بس أنا لا متت قبلك ولا متت بعدك.. أنا كنت سبب موتك يا حج!
ربت على يده اليسرى، وتابع بقوله:
- الإيد اللي كانت سبب موتك أنا قطعت الحياة عنها.. أساساً أنا مبتور بفقدانك، ما ضر إيدي لو انبترت!
استغفر ربه بعد ما قال، وزفر زفرة مختنقة، ورجع لدعائه، وحين استقام ووصل الباب وصله صوت والدته:
-شغل النور يا ثائر، وتعال عندي هون.
بهت في مكانه، والدته هنا موجودة ولم ينتبه!! سمعت كل ما قاله!!
-تعال يا حبيبي، لا تخجل من شكواك ولو بكيت لا تستحي، هاد أبوك ، إذا ما راحن الدموع إله والحكي إله لمين بروح الحكي؟!
أنار مصابيح الغرفة، فوجدها تمد يديها له بأن يتقدمها، ولأنه في أشد حالاته رغبة في أحضانها لم يتردد ووصل إليها حيث تجلس على الأريكة وبيدها سبحة والده، أفسحت له ووصل له بأنها لا تريد جلوسه وحسب، بل تريده أن يتمدد ويريح برأسه على فخذها
طاوعها بنفس راغبة متمنية، مد بجسده بسطت رأسه بين كفيها كف يمسد وجهه وآخر يعبث ب*عره تهديه صوتها بآيات الذكر الحكيم، تتلو وتنفث عليه..
"أمي! أضعت يد يّا على خصر امرأةٍ من سراب
أعانق رملاً أعانق ظلاً
رأيت كثيراً يا أمي رأيت
لديني لأبقى على راحتيك"
نطق بصوت م**ر تماماً:
-اشتقت لريحتك يا حبيبة، اشتقت..
-وأنا انكوى قلبي لهفة عليك..
-يا ريتني بقدر أعوضكم، بس أنا جاي وقلبي محروق بدل المرة ألف.. سامحيني يا حجة، سامحيني..
-ما عملت اللي يخليك تطلب مني سماح.
رفع رأسه إليها فوجدها تصوب بصرها نحوه تلتمع عيناها براحة تهديه السكن، وهو الذي ظن بسذاجته أنه هو من يهبها إياه..
-فتت هالغرفة قبل ولا لأ؟
أجابها ينفي بوجهه المستريح فوق فخذها
-فتتها مبارح..
-ما مر يوم يا ثائر وما دخلت فيه غرفتك وغرفته، أدعيلك وأدعيله..
غام صوتها بالحزن:
- ألومك أحياناً وألومه.. تركتوني أحمل كل هالحمل.. أشكي الدنيا بعدكو.. ولو كان عتبي عليه أكبر..
ت**ت، تعود بقولها المهدهد لروحه:
- بس بتذكر إني مؤمنة بكفر لو أضل أحكي هيك، وأكمل الوقت وأنا بمسح كتبكم.. أنظف أغراضكم ..
ضحكت وسط حديثها تنقل له ابتسامة :
-بس يتعبى قلبي من ريحتكم بطلع، وبس بحس إنه الشوق هدني برجع لغرفتك وغرفته!
لم يجد من حروفه ما يسعفه رداً على كلامها، فوجد سؤالاً آخر يستفزه الفضول لمعرفته:
-كنت عارفة إني رح إجي هون، لهيك استنيتي صح؟؟
أومأت له برأسها، ولا زالت أناملها تسلك الطرقات بين خصلات شعره الكثيفة..
-إيووه.. استنيت تيجي غرفتي، ولما شفتك تأخرت طلعت أجيبك أنا حتى لو كنت عامل حالك نايم ..
توقفت عن تمسيد خصلاته:
- بس شفت حركتك عند الباب وما استغربت دخلت وانت تتوضأ..
لم يجبها فأكملت عملها، رفع رأسه بغتة فأجفلها سؤاله المكلل برجاء:
-حجة، أحكيلي انك راضية عني!!!
-روحي وقلبي وربي راضيين عنك يا ثائر، طول عمرك مرضي و هني، الله يرضى عنك ويرضيك..
-وأبوي راضي عني؟!
أرجعت رأسه لمكانه، ومسحت على وجهه مجدداً..
-راضي.. مات وهو راضي يا حبيبي، وهو فخور فيك، بإنسانيتك، بحمائيتك، بالخير اللي جواك اللي بتقدمه للناس بلا حدود..