-اسمع يا ولد
نطقتها بحزم أمومي..
-ما خلاك تروح وتدرس هالمجال إلا أنه عارف شو أبعاده وشو تتحكم عليك ظروف عملك فيه..
- وداك هالتخصص لتدرسه لإنه بعرف أنك أهل إله لإنه انخلق إلك.. بتموت وأنت بتقدم روح مريضك على نفسك..
لهيك بليق فيك هالمسمى ..دكتور!
أسهبت تلين صخر قناعاته الموبوءة بالفقد:
-وافقك تروح ع بلد كلها قصف، وهو ما بعرف ترجعله بجنازة ولا على رجليك ماشي..
غشت طبقة دموع مقلتيها :
- كان عارف ومشجعك لإنه أكتر واحد عارف إنه الناس هناك بحاجة شفاء و حياة، بيستحقوها وأنكم السبيل بإيد ربنا إلها!
سقطت دمعة من عينها جرت على كفها فوجنته، بللت جفافها ورحمتها من أن يذرف الدموع أمام والدته استرسلت بحديثها ولم تقطعه :
-مات وهو بتابع الأخبار كل يوم، وبس يشوف مظاهر الفزع والدم الإرهاب والناس المرمية، كان يدعي ويدعي يا رب سخر لهم جنود الأرض وملائكة السماء لحمايتهم، وبس تسأله أمجاد عن جنود الأرض بقولها..
-اللي زي أخوك يا أمجاد.. ثائر جند من جنوده!
قضيا ليلهما بذكريات، وأحاديث غربلت وجع قلبيهما فبات أهدأ، وعدها أن اليوم كله لها، ولم ينفضا بجلستهما إلا حين صدحت المساجد بـ -الله أكبر- الفجر..
صلياها جماعة في المنزل، وحين دخلت لغرفتها دبّ حماسها فقرأت وردها وما تيسر من القرآن ثم ذهبت لمطبخ الحديقة، أخرجت طحين القمح وطفقت بعجنه حيث ستخبز اليوم خبز الشراك، ولمّا رأت أن في مقدورها أيضاً أن تنجز شيئاً آخر، تركت العجين من يدها، وذهبت لمطبخ المنزل، عجنت عجين خبز الطابون، وخبز الفرن العادي، ستعد المسخن اليوم ولا بأس إن دللتهم بخبز المتلوت، تذكر أن ثائر يحبه!
خرجت للحديقة، أخرجت صاج الخَبز الخاص بخبز الشراك، نظمت وضع الحجارة، وناظرت الساعة... لا زالت السابعة والنصف
همت بأن توقظ أبناءها يحضرون خبزها ويعيدون أياماً خلت، لكن صرير عجلات أمام بوابة المنزل أثار ريبتها فوقفت تراقب القادم الذي كان يهتف بصراخ:
-معلم خليل! افتحلي الباب، معلم خليل!
ملهم ويصرخ ما به؟؟
توجست خيفة وهرعت نحو البوابة، وجدت لطيفة تقف حيث الباب، وخليل يفتح بوابة المنزل:
-أعذرني يا معلم لإني أزعجتك، مستعجل والله..
تقدم نحوها، وملامحه لا تُبشر بخير أبداً، وصل عندها فاستقبلته بحنوها
-ملهم هلا يا خالتو.. هلا.. خير إن شاءالله ، خوف*ني والله صاير إشي؟
لا يمكنه تصنع الذوق، ولا الرد بلباقة:
-حجة.. آسف لوقت جيتي، ثائر متى رجع عالبلد؟؟
-أول مبارح الصبح يا خالتي، ليش في إشي؟
رأته ين** رأسه ويشتم، رفع رأسه إليها وسألها بصبر نافذ وغضب يغلي به، يحرضه على قتل ثائر..
-ووينه هسا؟
-بغرفته لسى نايم، كنت طالعة أصحيه والله..
-نامت عليه حيطة هالنذل، أنا بصحيه ي حجة، خلص أنا بصحيه..
قالها يلتهم الأرض ويهم بالدخول للمنزل غير عابئ بمن متواجد به أو لأ، أكانت أمجاد هنا أم كل ش*يقاته.. ولو رآهم لن يهتم، حقيقة لا يهمه سوى قتل ثائر، سيدق عنقه، لكل ما فعله ومستمر بفعله له..
نهب خطوات السلالم بعجل، صادفته أمجاد التي ترتدي جلباب الصلاة، ولم يخجل من تواجده..
وصل لغرفة المأسوف على شبابه كما سيكتب بعد قليل، هم بفتح الباب وللصدفة كان ثائر يهم بفتحه والتقى الجبلان، كان ثائر أسرع بالنطق لفرط صدمته..
-ملهم!!!!!
" " " " " " " "
تندلع الثورات بالإلهام!
فهل يوحى بالإلهام التمرد؟
فلا يُسأل الثائر عن إلهامه.. إنه يقين الحدس ووقوده! المغناطيس الخفي المستتر في ذاته!
الجنون أو الهوس الذي يبعث الطاقة في حياته المضمرة.
والثائر لإلهامه، ناقوس يرصف الأفكار ويُدلعها... إنه وحيه للعبث في نجواه!
********************
وحدها صالات المطارات، من شهدت المواقف الإنسانية بتخمة، ووارت أسرارها بين طيات جدرانها!
لو سألتها كيف تستقبل تدفق مشاعر الوداع واللقاء بثبات تُحسد عليه، لأجابت أنها اكتنزت من مشاهد اللقاء ودموع المستحيل واللهفة ما يعطيها القوة أن تعين الأقدام الراحلة على السير نحو حلمها، تمدهم يقين العودة!
************************
قبل خمس سنوات..
حلقت حمائم السلام نحو بلاد غابت شمسها ولم تسطع، وحطت الحمائم التي طار سكنها في بلاد النور تحمل بقايا ريش وهامات كُسرت تسأل جبر جناحيها! مشاهد عناق، وقبلات.
لقد اكتفى من قبلات والديه، أبي محمود، وملهم ثقيل الدم، سياف، معن وأباد الذي أرخى جيبه وجاء معهم لتوديعه، يلتقط لهم الصور وكأنه ذاهب بلا عودة!
يشده ملهم لالتقاط صورة يتمتم ضاحكاً له:
-بيض وجهنا يا زم لا ترجعلنا بخيبتك!!
يؤكد سيّاف الذي ترك الكاميرا بتعليقه:
-اجمد يا ولد ولا تبكي على كل حالة تنزف وتعبانة!!
ومعن يعانقه بود خالص:
-ضلك وثق إلنا لحظاتك كلها..
ولأباد سلام خاص جداً ومشاعر أخرى تماماً:
-دير بالك ع حالك يا مان، والله مو هاينلي تروح لحالك لو بقدر أروح معك..
انتهت الحلقة بصورة جماعية مخللة بالكثير من الدعوات، وحب عبّق الأجواء، تأخر عن القافلة الطبية المفترض أن تجتمع قبل موعد الرحلة بساعة على الأقل، الجميع متشبث به بشكل بدا له وكأنه لن يعود أبداً، والدته التي أشفق عليها الجميع وأبكت كل الحاضرين بدمع لا ينضب بكاء امرأة تبكي طفلاً رضيعاً لا رجلاً قد أتم عقده الثالث مؤخراً..
أبصر والده يسند والدته حيث أحد المقاعد أجلسها برفقته يد تربت على كتفها وأخرى تحمل منديلاً يمسح وجهها..
-يا أم جهاد وحدي الله، ثائر رايح بقافلة طبية، مكلف بواجب إنساني بوظيفته..
أنصتت له متوقفة عن بكائها:
- خدمة بقدمها لناس بتموت وهي عايشة!
أدار رأسها إليه يسألها:
-قديش إلك تبكيهم وبس تشوفيهم تسألي ربنا الف*ج إلهم؟
أجابته :كتير ..كتير!!
-وهيه راح يساعدهم استودعيه ربنا وما عليك أنت، ودائع ربنا ما تضيع، تضل بحفظه.
-ونعم بالله..
ببحة أوجعته كان صوتها، شدّ من إحكام يده على كتفها فتابعت ببكاء متقطع:
-أنا مآمنة بربنا، وراضية والله، بس هاي سنة يا أحمد سنة!!
ترمقه متسائلة( أتستخف بعمر الوقت الذي سيطول بابتعاده عنا؟؟)
-كتيرة على قلبي والله..
ن**ت رأسها مجدداً تتابع بكائها، ضمها إليه سارّها بشيء فضحكت ونقلت العدوى للمراقب من بعيد الذي فهم أنه يشاغبها بمنزلته عندها، ما أن رآها سكنت حتى تقدم نحوهما جاثياً على ركبتيه يمسك بكفيها:
-يا حجة كلها سنة وراجع، ألاقي البيت جاهز لتجوزيني.
ثم غمزها بمكر :
- ومنه معك سنة كاملة عناية وتزبيط لتوخذي الجو كله من الكريمة المستقبلية..
-ربيحة بتوخذ الجو من الكل بدون تزبيط يا ولد!!..
وضعت كفها على فمها محرجة من كلمات زوجها وهتفت تواري خجلها:
-أبشر يا عيون إمك، ربي يرجعك سالم وإلك العروس حاضرة وكل شي يرضيك..
-بيرضيني اللي أنتِ راضية عنه!
اقترب منها أكثر يرفع كفه يسرّها بهمس:
- بدي ياها مواصفات وعلى مستوى..
قلص المسافة أكثر :
- طول عمري صايم يا حجة وبدي أفطر فطور محترم..
وضعت كفيها هذه المرة من جرأته وزوجها يقهقه بصوته العالي وقد استطاعوا بشغبهم المعتاد قلب جوها كله إلى مرح..