" " " " "
من بعيد، ملهم يلتقط الصور على حين غفلةٍ منهم يوثق لوحة عائلية نشرت ضحكاتها وثائر بمرحه وشخصيته القريبة يلوّن أحلك المشاهد بزرقة قلبه!
لقد كان له قلباً أزرق، قلباً يملأ السكن والروح أينما حلّ
ودع والده بعناق لم يعلما بكونه الأخير، شده والده وطال مكوثه في أحضانه:
-حط ربنا بين عيونك، طول عمرك قدها!
وقور يقدّر الكلمة يعطيها حقها وكيف وأين يستخدمها :
-وظيفتك رسالة زي ما كنت أنت طول عمرك، أرواح الناس قبل روحك!
ثائر حلمه المتجسد، شبابه الذي لم يستطع فيه تقديم الكثير، يغرس فيه أملاً، فيجني ثمار وعي ثائر بكل ما يقدمه ويؤمن به .
يكمن إيمان أولادنا بما غرسناه فيهم
-تذكر أنه هالبلد إله من عروبتنا نصيب، ومن أمجادنا وتاريخنا النصيب الأكبر!
في كلمات الوداع، تتقاطر كلمات من ذهب، يغرينا بريقها عن ملاحظة أي شيء عدا الوهج
- بيستاهل تفديه بروحك لتحمي وتنقذ أرواح رح تكون بشي يوم هي السبيل لتحرره من ظلمه!
الله، الله في مهمتك وخدمتك يا ثائر!!
فُض العناق دون أن يفلته، احنى ثائر رأسه وجذب يد والده يقبل كفه، رفع بصره إليه هاتفاً:
-الله يقدرني وأكون ثائر اللي نفسك أكونه، إن شاء الله ما بقصر لا أنا ولا اللي معي..
مدّه والده منهياً حديثهما، بميدالية تضم خريطة الأردن، أودعها يده:
-خلي هالبلد صورتك وين ما تكون!
أومأ برأسه بتأثر حقيقي ودع الجميع الذين يحفونه بابتهالات وأدعية الاستيداع، في طريقه إلى مكان التجمع الذي تأخره نصف ساعة ولا بأس فرائحة أهله تستحق
كان تحت تأثير لحظات الوداع ولكم يكرهه لما يثير في النفوس أحاسيس توشي بالخوف من مجهول يزلزل الأمان والعزائم
اصطدام غير متوقع صفع التخبطات اللامرئية في عقله أن تعود الواقع، مرتدّاً للخلف مباغتاً بعاصفة هوجاء، أسفرت عن وقوع وثائقه الخاصة، من بطاقته ونظارته الشمسية وهاتفه، أبصر المتسبب بالحادث فوجدها فتاة تتشح بالسواد من رأسها حتى أخمص قدميها، أحنت قامتها تلتقط الأشياء فنهاها بكفه ألا تفعل وانحنى يلتقط بذاته حاجياته وحاجياتها!
ولم تجد ما يسعفها في هذه اللحظة إلا أن تنطق بصوت مبحوح لا يخفي طبقة صوتها الأصلية:
-آسفة.. ما شفتك!
ولا بأس منه ..
-مو مشكلة ولا يهمك!
جمع الأشياء خاصتها، محفظة وكيساً قماشياً غريب الشكل استقر في يده أوشى له الفضول معرفة ما يحمل، إن لم تخطئ حاسة اللمس خاصته أن حفنة من تراب يكنزها، ناولها إياه ولم يكبح ما راوده من مشاعر برؤية من تحمل تراب وطنها، سحنة تكاد لا تتبين ملامحها لفرط أرقها فالليل يجثم أسفل عينيها المتورمتين، تقاطيع قطع عنها شريان الحياة فلا ترى إلا بهوتها وعينين يبرق فيهما العسل كنبض يعلن حياة ميته..
أخذته منه تردد كلمات، شكر
-شكراً، ومعذرة على الإزعاج!
هز برأسه وأكملا سيرهما المتقاطع، بحثت عن خالها وعائلته الذين تركتهم مع والدتها، بعد فقدانها الكيس الذي تعقده بمع**ها، نقبت صالة المطار فاهتدت حيث الحمامات الخاصة بالنساء لقد نسته هناك حين جددت الوضوء
وصلت، تيهها عنهم جعلها تدور في المكان الذي تعرفته اليوم، بعد طول عناء فرأتهم وأطلق الص*ر زفرة مرتاحة
والدتها تستقر على كرسي بعجلات وخالها وامرأته يجاورانها؛ لقد تلاشى خوفها من الضياع ما أن أبصرت وجوههم المحتارة، التأهب، الوحشة، الخوف أكبر ما يؤرق مسافراً حط ببلاد لم يزرها من قبل
وصلت إليهم وأخذت موضعاً جانب خالها
-خفت أتوه عنكم !
-شو اللي معلق بحجابك؟
رمقها باستفسار لم تفهمه وحين أشار لحجابها لفت نظرها ميدالية توضح خريطة الأردن منقوش على قاعدتها اسم ثائر، توالت اللحظات الأخيرة ترمش في عقلها علمت هوية صاحبها وانطلقت من فورها ثم التفت إليهم
-لا تروحوا!
لا تدري كم ركضت، تبحث كالمجنونة، دون أن تسعفها ذاكرتها التي أهملت التفاصيل..
بعد مدة ليست بالقصيرة وجدت الهامة ذاتها تتوسط جمعاً كبيراً، سعداء جداً رغم أنهم يتأهبون للرحيل
لقد فاحت دماء البلاد من رائحتهم... إنهم أردنيون، هكذا تتحدث ملامحهم، كيف يكونون بهذه الراحة وهم يغادرون أوطانهم؟!
بخلافهم يتشح بالسواد يحمل حقيبة على ظهره منها عرفته وميزته حين انحنى يجمع الأشياء، تقدمت نحوه بسرعة، وظهرت له بصورة أدهشته، تلهث والوجه مبهوت المعالم، صبغ بحمرة الإجهاد من ركضها بلا مقدمات مدت له بالميدالية قائلة:
-هاي إلك، لقيتها بحجابي!
ابتسم بامتنان لها آخذاً الميدالية يغمغم بشكر، ولم تغفل عيناه عن الكيس الذي تتشبث به كفها الأخرى قرب موضع ص*رها ولا عن الثقب الذي أودع الميدالية بعض ذرات التراب!
شيعها بنظراته، رآها تستدير تلقي نظرة أخيرة على الجمع السعيد وتتحرك شفتيها بكلمات قرأتها عينه الخبيرة:
-أستودعكم الله!
" " " " " " " " " "
لم تربطهم الصداقة فحسب، لم يكن ثائر الخليل في مرتبة أقل من الأهل!
يرى به سكناه، يأوي به إليه يمد بساط الوطن ويفترشه!
نام بعد الفجر، رخي الص*ر منشرحه، وكل حرب تنتهي برائحة الأمومة والوطن، تُدَّكُ في أراضيها رايات السلم، حطت الحمائم تهدهد نومته، تهمس له السلام، تنثر شذى والدته تدور بها أفلاكه فتحتجزها لينعم بالوئام أكثر!
رائحة الحطب المشتعل فاح عبيرها، أيقظت حواسه بأن الدحنون، والأزاهير قد أشعلت سطح أرضه!
ينتهي صقيعه، ودورة فصوله تدخل الربيع !
عند البدو ارتبطت رائحة الحطب ببداية الربيع وموسم تفتح الورود، الإفصاح عن المشاعر في قانونهم عيب كبير، كانوا يربطون الربيع بدخول فصل جديد لحياتهم! فصل يتنشقون فيه رائحة السوسنة وشقائق النعمان.. فصل تتلون السماء بصبغتها مع خضرة الأرض فتهديهم الفيروز!
لم تسعفه إطلالة غرفته على معرفة الدخان المنبثق من أين جاء، لكّنه يثق بأنه والدته رصفت الحجارة، دثرتها بالصاج فالرائحة هذه، رائحة النار التي تسللت من طغي صاجها!
تقدم حيث نافذته وأزال ستارتها، تبسم متمعناً لمنظر أشجار الكينا والفلفل التي تغطي شرفته تقريباً
فتح نافذتها فوجد وريقاتها تلامس بخجل أنامله وكأنها تصافحه!
تنشق من رائحتها ما يكفيه ورفع عينيه نحو السماء فعرقلت الشمس رحلته، أغمض عينيه بقوة وتن*د هاتفاً من قعر قلبه:
-الشمس في بلادي أجمل من سواها!
فوضى وصوت خطوات تهرع إلى الطابق الثاني جعلته يتوجس خيفةً، عاجلت خطواته فتقدم الباب، أدار مقبضه فتحه فهالته القامة المديدة الماثلة بشرّ
ميثاق السلام أنقض، ورايات الصلح توارت خلف ثورة الملهم واجتمعت مشاعره تندلع بطوفان جعله ينطق بصدمة:
-ملهم!!!!!
وملهم يطوي بأشواقه ويرميها خلفه، يرمي برغبته في ضمّه والتشبع حد آخر رمق منه.. لكن كل هذا تبخر ما ان أبصر اليد التي أظهرتها ملابسه البيتية الخفيفة، هزلت وخف وزنها وكأنها انفصلت بالموت عن سائر جسده..
لقد كان محقاً حين قال بأنه سيبتر الحياة في يده، كما بترهم جميعهم معها!!
دورة الأحداق والمُهج، تدور وتدور.. يعانق عذب الإلهام الخيبة بموت المشاعر!
عاجزين عن التفوه بحرف!
تُفسد الحروف نغمات الوصل والعتاب!
" " " " " " " " "