٤

1000 Words
في طريقه لمقهى زمرد، المقهى الذي يقبع بوسط البلد وبؤرتها أوصله خليل لأقرب موقف يؤدي إلى الزقاق المقربة منه..هتف ثائر سريعا: -خلص نزلني هون؟ سأل السائق: -بدك آجي معك؟ بتر تردده ونزل، لو تأخر دقيقة لعاد مع خليل دون التفكير بالمجيء مجدداً فهتف : -لأ، هالمشوار تأخر كثير، وصار لازم وقته استقل السلالم المغطاة بالمظلات الملونة، وصل لزقاق جانبي أضيق من سابقه طويل وحين أبصر الجدران العتيقة هاله ما رأى! الجدران المشققة، المليئة برطوبة الشتاء وعفن الصيف ملونة! وبما!؟ بصورة كبيرة يتوسطها محمود درويش، وأخرى لوصفي التل، وجداريات معنونة بعبارات وطنية وحماسية بحق العودة، وأخرى بثت الحرية في حروفها صور لرموز وطنية وعربية ، أيقونات الأدب والحرية من مختلف الدول رفيق السبيعي وكوكب الشرق، أحمد شوقي، فيروز وعمر مختار، نزار والكثير -متى حدثت هذه الاختلافات؟ الحلل الفنية الزاخرة تحتل الجدران، حتى الشوارع لم تبخل عليها بها.. ما يميز -أبا محمود- عما سواه أن لقهوته مذاق خاص، فلا يكتفي بأن يقدمها لك سائلة سوداء ومرة، بل يقوم بتحميص البن الأخضر على مرأى عينيك، يطحنها بعدته الخاصة بيديه، بأنامل الحب وخبرة النفس الزكية يهديها إليك فلا قهوة تعدل مزاجك غيرها وها هي الرائحة تستقبله وبصبر نافد وصل عتبة السلالم، لاقاه صبي القهوة يمسح الأرض فسأله : -أبو محمود هون؟ رمقه الصبي طويلاً : -إيوه هون جوا لم يكبح الصبي فضوله فسأل: -أول مرة تجي لعنا؟؟ أسبل أهدابه يواري الحنين الذي أتقد في مقلتيه: -أول مرة فعلاً! أوقفه عمر المغربي صاحب محل المصوغات الذهبية، المقابل للمقهى حيّاه بحرارة: -والله من شفتك وأنا بكذب عيوني، لحد ما سمعت صوتك! -آه يا عمي هذا أنا بشحمي ولحمي -حيالله فيك تفضل ع الفطور مع الشباب.. أهدى له أجمل نظراته ورد: -فطوري اليوم مع أبو محمود .. استوقفه مارّة عرفوه في الشارع، سلم عليهم وتناول الأحاديث معهم مر بآخر سمعه يهمس لمن بجانبه.. -مش هاد ثائر! -هو ما غيره، ما بعرف اللي زيه كيف الهم عين يرجعوا!! تخطى الكلام بلا اكتراث ومضى نحو المقهى بكل خطوة يرتقي بها درجات السلالم الخمس، تسحبه فسحة النفس لكربها، وكل ثقته بالشفاء تضمحل وكأنها لم تبذر في صحراء عزيمته قط، وباستنزاف نفسي، دكت قدمه مغارة ألف ليلة وليلة!! أبصر المكان بشيء من العجب وأعاد النظر فسقط نظره للمهباش الذي يعتبر قيمة أثرية لأبي محمود، اليقين الذي أثبت أنه لم يخطئ المكان قادته خطوات الانبهار للتجول في مغارة الحكايات. اللون الأبيض والأ**د يحتلان جدران وخلفية المقهى كاملاً، إضاءة خافتة بل معدومة إلا من ضوء الشموع المحفوظة في قناديل، صور مجمعة لرواد المقهى، وعلى الطرف الآخر لوحات طبيعة. تاه في مغارة زمرد إن صحّ القول تضم منحوتات، نقوش ومزخرفات ذات أشكال متعددة تبهر النظر، سلك الممر الذي يصل إلى المكتبة، وكان له أن يتخيل ما شاء ورجع فيه المكان سنوات، ووقف مفتوناً بما شاهد من إبداع. كانت صغيرة بحيز ضيق يبصر حالها الذي قُلب لغرفة أبوابها مُقوسة ومزينة بالفسيفساء، والرفوف موزعة بشكل مقوس تلائم هندسة الرقعة، التي كان أصلها مدفأة الحطب وبزاوية ضيقة استند لوح خشبي يترك عليه كل زائر توقيعه وعبارة ترافقه معها! -نحن أمة اقرأ -وحي روحي بين طياتك يا قلم أني أطير فلا غيرك سماء أرفرف فيها. -لم تكن القراءة يوماً نهم الحروف وإيداعها عقولنا فحسب، نحن نقرأ لنمد ال*قول بالطاقة التي تناسب نُضجها.. تخطى العبارات وجذب إحدى الأسطوانات متصفحاً الكتب، ربما يجد إحداهن التي جمع ثمن ثروتها وحافظ عليها ل*قد كامل فلم يجد! أوقفه صبي المقهى . -بتقدر توخذ كتاب وتقعد بالزاوية هداك قسم مخصص للقراءة.. توجه بصره حيث أشار الصبي فأومأ له .. -شكراً إلك هسّا لعرفت! كان في وجهه حديث بترته إجابته الجافة تحلى بوجه بشوش وسأل : -في إشي كمان، المكان بحفز الإلهام .. تألق حماس الطفل وأشار حيث كتيب صغير .. -فيك تكتب عبارة بخطك وتعلقها على لوحة رواد المقهى .. ابتسم من قلبه له هذه المرة .. -رح أكتب شكرا إلك مرة ثانية.. ابتعد الصبي فترك له مساحة تفحص الكتب عقد حاجبيه يمرر أنامله بخفة، الكتب أغلبها لناهض عزيز ورغماً عنه زار شبح ابتسامة خاطف شفتيه، عاد ل*قدته أين ذهبت الكتب التي كان يأتي بها إلى هنا؟! عبر بصره الزاوية المقابلة ووجد الكتب القديمة تحتل الطابق الرابع من تقسيم المكتبة فانشرح ص*ره لوجود الكتب جميعها! تخطى نصف المكان ووقف أمام المنصة الصغيرة التي كانت حلقتهم في العزف على العود والناي، تعج الآن بمعظم الآلات الموسيقية والأقراص المدورة التي لم يعترفوا بها يوماً تملأ المكان بأكمله! ومن العدم خرج الصبي مرةً أخرى يشرح بحب .. -إحنا هون بنشتغل ع الآلات وبنسمح للزوار العزف والغناء! ********* وفاقهما محال قاعدة تتعلق بأباد وملهم، يتجولان بعد دعوة من ملهم رحبّ بها أباد متحمساً ابتاعا الفول وعصير التمر من الباعة المتجولين بزيهم المميز، وحين شعر ملهم بالملل من صحبته التي تأكل ب**ت تأفف بضجر: -يا أخي حسسني إني طالع مع بني آدم بدل ما انت زي الصنم! رفقته بغيضة ولا ينكر، ليت سيّاف بلا مناوبة عوضاً عن الأكول أباد .. -أنا وأنت ما بنتفق بإشي ليش نحكي وننهي الكلام ببلوكات تعودنا عليها! زم شفتيه حانقاً .. -فعلا أنا وأنت آخر شي نتفق عليه إنه نتفق! -كنا متفقين على حب ثائر هاي فاتتك يا أبو العريف توحشّت ملامحه بذكره .. -لا تجيب سيرته هالحقير، آخر شي بدي أسمعه اسمه ينذكر بيننا! ليت ثائر هنا يسمع ما يتفوه به ملهم الحبيب الذي باعه لأجله، سخر في سرّه ورد بيقين .. -بس ثائر جيته أكيدة، طالت أو قصرت! -يفكر يطلع وساعتها لأدفنه .. يبتعد عن المشاكل ويعرف ملهم بدمائه الفائرة اشترى السلامة وغير الحديث قائلاً .. -شوف معن بالسكن خليه ينزل علينا ! ******** لا زال على وقفته غارقاً بجرف الماضي بوديانه بصخوره التي تعثر بها كل شيء تغير هنا! لم يعد من مقهى زمرد إلا اسمه وتلك المقاعد الخشبية التي نشروها من شجر السرو.. وصوت من العدم، جاء برنّة تحكي الوجع الذي عايشه صاحبها حتى وطأت أقاصي روحه فكان أثرها بحة ظن بتجبّر قدرته على مواجهتها وال**ود أمامها. -ثائر!  " " " " " " السرّ في الحُب! والحب في التقدير! والتقدير يبوح بأصول الشغف، فتتلبس الأرواح التائقة الاندماج به، فتبدو جزءاً من الصورة. أنهى رص علب القهوة التي قام بتحميصها وطحنها، مد بدلّة القهوة النحاسية أسفل الحنفية المتهالكة سيكافئ نفسه على مجهودها بفنجان قهوة يستمتع به لوحده على أنغام عبدالحليم خطى للخارج بنية تشغيل إحدى الأسطوانات. وعند الباب أجفل ببصره وثقل الوزن بكله، يعيد رسم الهيئة الماثلة أمامه، يغافله صوته على حين غرة فيهمس بالاسم غير مصدق بعجب: -ثائر!!
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD