يعود صدى صوت عقله، تقع دلّة القهوة من يديه يفقد الاتزان لا يصدق عينيه
إنه هو ولا سواه، ربيبه الذي هجره لأربع سنوات تضخ أوردته الدماء لمراكز النطق ولحظة بل أقل وحباله الصوتية المتخمة بالبحة وصوت اللهفة تجلجل في المكان الخالي من سواهما..
بسؤال أكثر منه خبر!!
-ثائر؟؟
القامة المنتصبة بإباء، وسم الفؤاد الذي ما برئ يده اليسار الشامخة عن أي حركة تسبح في سكونه، يدور بأفلاك الماضي يتهدج صوته بثائره الوحيد
-ثائر يا ابني، ولك هذا أنت!!!
يلتفت الساهم في الجمال ف*نزل مرآه للعم كتائه في صحراء استظل بغيمة ويخشى فقدانها تقدمه يصفع ضجة خيالاته بتماديها، باغته بحرارة اللقاء يفتح يديه يسحبه بكله بقوة لا تناسب هزل جسده، يشد بعروق الشوق شمل سنوات
-ولك كنت رح أنسى ملامحك، كيف بتسويها وبتتركنا؟؟
يضم يده المشلولة يسحبها حيث موضع قلبه مؤشراً بسبابته
-يا قاطع أربع سنين! ..
ترتفع يده اليمين يرميها بخيبة شاقة أمالت رأسه أسفاً
-بتروح وما تسأل، ما هدك الشوق علينا؟
يبصر عينيه ويصافح بحرارة سنوات القحط ملامحه، تشق خلجاته عتاب أبوي خالص يكافح بضراوة حرارة دموع تلسعه بحقها وشق وجنتيه..
-ما فكرت بحالنا بعدك، أقفيت(أعطيت ظهرك) وما اهتميت؟
صوته جامد صخري اكتوى بانهيارات حتى بات بهذا ال**ود وابتسامة لم تفلح في طي القسمات حول عينيه..
-وهذا هيني، رجعتلكم!
ن** رأسه، ونظره يتابع حركة قدمه الرتيبة في طرق الأرض ببطء ثم تن*د قائلاً:
-آخر شخص أجلت شوفته هو أنت، جيتك بعد ما شبعت هوا عمّان لأشحن طاقتي وأقابلك وأقدر أتحمل نظرة العتب بعيونك!
صدق ما بحكي لألتمس لحالي عذر، بس ما حدا رح يقدّر اللي مريته وبمر فيه غيرك..
أض*بني، بهدلني بس لا تعاتب، إلا نظرة العتب بعيونك!
بهمس أقرب منه للكتم نطق آخر كلمتين، فما كان من أبي محمود إلا أن ربت على يسراه الثقيلة:
-فيك الخير يا ثائر، فيك الخير عملتها.
تخلص من درامية المشهد وعدم تعقيده بأسلوبه الأبوي المحبب وهم لالتقاط الدلّة ناولها إياه قائلاً:
-أشغلتني عن اللي بدي أساويه، يشغل عدوينك، يللا نشرب قهوتنا ونرجّع أيام الخوالي..
رفع ثائر حاجبه وسأل بتعجب:
-أفهم إنو القهوة أنا اللي رح أعملها؟
-آه بس بعد ما تمسح الفوضى اللي عملتها جيتك!
-شو معاملة مرة الأب من أولها..
-إحمد ربك ما علقتك ع باب القهوة، عبرة للرايح والجاي.
اصطنع ثائر الأسف وعلق بسخرية وهو يهم بمسح الأرضية بيده اليمنى بمشقة مصطنعة، إذ أنه درّب اليمين على فعل كل ما يلزم..
-في شب شفته هون ليش ما يشتغل عني؟
تن*د العم هذه المرة وأجابه ..
-هاد ولد شغّلته عندي، بمر علي الصبح بشتغل هون وبداوم ع مدرسته!
تساءل باستنكار..
-ليش يشتغل، شوفته صغير عاد..
-لأنه معيل عيلته، وبصرف ع أمه وخواته..
حزن لحاله ولم يشأ أن يعكر صفو العم أبداً امتعض بالقول والممسحة بيده يغسلها..
-الله ع الظالم بس، قلت يستقبلني بالأحضان، ما يفوتني ست بيت ع المطبخ!
-انطم(أ**ت) اشتغل وأنت ساكت لساك ما شفت إشي والله لأورجيك نجوم الليل بعز النهار.
علق ثائر بسخرية لاذعة:
-أشوى، لأني ما بشوفهم بالليل، أنا شو مقعدني عندك، أروح أنفد بجلدي أحسن اللي..
-جرب أعملها وشوف..
-أوامرك يا عم سكار!
ألقاها وهو يدلف المطبخ بخطوات بطيئة، وكأنه يحفر المكان بكل خلية تنبض بجسده.
-عالريحة
تأتيه إجابة أبي محمود:
-بلا سكر!
ارتفع حاجبه بتساؤل مستنكر وكأن العم أمامه!!
-من متى؟؟
أووه شكله فايتني كثير يعمّي!!
-أكثر من اللي بتتخيله..
وضع القرص المدور في آلته يطرب المقهى بصوت العندليب وهو يشدو
قاطع ثائر وصلة الاندماج وهو يقدم الفنجانين المذهبين على طاولة السرو المدورة، اعتدل بجلسته واستقبل القهوة قائلاً بتنهيدة مرتاحة..
-الله!! زمان عن هالقهوة وصاحبها صار فينا نقول هسّا صباحي خير..
ابتسم بحلاوة وأمسك بعروة الفنجان متسائلاً:
-إيووه طمني شو الأخبار، كيف حال الشباب؟
وبنظرة تفحصية شملت المقهى:
-ومتى صارت كل هالأشياء؟؟
انحنى جانبا فم أبي محمود بابتسامة وردّ بمعنى:
-أربع سنين مش هينات، ملحق تعرف شو صار فيهم، بس هسّا طمني عنك وأحكيلي شو اللي عملته فيهم!
بابتسامة يائسة أجابه وهو يرتشف قهوته بتلذذ:
-مستعجل ع رزقك، فش اشي مهم، ما خسرت كثير والله
أشار ليسراه الشامخة مردفاً:
-وشوفتك وقهوتك اللي يبلسموا روحي..
أبصره أبو محمود بتأثر صادق فقطع عليه ثائر الحديث قائلاً:
-وبصراحة رح أموت من شوقي لقلاية البندورة من تحت إيدك، اعملّي ياها واحكيلي مين موخذ هالمقهى عطاء ونافض عيشته!!
قهقه أبو محمود بصدق ودب حماسه لاستعادة طقوسه مع ثائر
-ولك من عيوني، أبشر من هالعينتين، قوم للسدة (مكان صغير يؤخذ من حيز السقف يستخدم للتخزين) ونزل البصلات اللي معك خبرهم والبندورة والبابور الأخضر
استقام ثائر من مكانه ضاحكاً..
-يا عتيييييييييييق، لساهم دسايسك (مقتنياتك الخاصة) ع حالهم
يرفع أبو محمود حاجبيه بشغب ستيني لطيف..
-لا وحياتك طورت عليهم فليفلة مجففة
ضحكة مجلجلة أزهت المكان بحلاوتها، وثائر يصعد درجات السلم الخشبي الذي بالكاد يتكئ بنفسه ليتحمل ثقلاً كثقل ثائر
************************
يخشى السؤال، كيف يسأل والعار يُكبّله؟! تحرر من مقصلة الإعدام التي نصبها لنفسه وانفجر من ل**نه ما تتوق روحه لنطقه:
-وملهم كيفه؟ وين أراضيه هسّا؟
سأل ثائر الذي يحرك شرائح البصل ويقلبها بالزيت وبالطبق الآخر قام العم بتشريح حبات الطماطم إلى دوائر رقيقة..
-ماشي حاله، استقر بشغل وتثبت من سنتين
أنهى آخر قطعة من حبات الطماطم، ونفض يديه ليقاطعه ثائر مستفهماً:
-ولساته بعطي دروس موسيقى؟؟
-خلص بكفّيه البصل.. آه لسى بعطي، طور مجال إنجازاته، ولقي روبي الثانية نفس أحلامه وطموحاته كل شغلهم سوى ووسعوه عن قبل
كان بحديثه لثائر من دون قصده طبعاً يخبره بأن ملهم لقي من يقوم بدورك!
المشاريع التي كنتم تديرونها لم ينسها أو يهملها، بل وسع منها وطورها..
-بس الله يهديه..
قالها وعيناه على البصل الذي مال لونه للذهبي ويخشى احتراقه ويضيع طعم -القلاية- المدفون بنكهة بصلها..
-ماله؟ في شي ما بعرفه؟؟
التفت إليه بجسده، أسند يده على رخام المطبخ وتن*د قائلاً:
-مشكلته ولا راضي يستوعب إنه خلص بكفيه شنططة (سير بلا هدف) من مكان لمكان عاجبته حياته وهو ع حلّ شعره، ماشي براسه وبدوش منصحة.
أف*ج ثائر عن نفس كان محبوساً خوفاً من ملهم وجنونه، لذا أجاب العم:
-معه، معه يا حجي بعرف، خليه ع كيفه مش رح يقدر يحس بالسكن إلا لتوصل روحه لحالة تشبعها راحة ودفا!!
أثناء غسيل أبي محمود لأدوات الطهي، انفجرت الحنفية المفخخة أساساً بعوامل الزمن والاهتراء، فهمّ لاحتواء الموقف لكيلا تصل المياه لكل مكان، استلم ثائر المهمة وأبعد العم عنها أغلق المحبس وضغط عليه بفوطة صغيرة، ومن ثم نزل للخزانة الصغيرة التي لم تتسع حجمه وبخبرة استطاع أن يوقف نزيف المياه، ويصلح المحبس بطريقة مؤقتة..
بحسرة ستينية وأسف صادق صفق أبو محمود بكلا كفيه
-لسى من أسبوع بدلت الجلدة إلها، معقول مش مثبتها منيح!
-لا والله بدها حنفية جديدة هالقطع ع الفاضي بتنجاب، التركيب كله مش نافع، والتمديد شبه مستوي!
-يلا معليش ،بشوفلي اليوم -الموسرجي- عطية وأخليه يمر
-أتركه عليّي، كمان شوي بشوفلك معرفة
قاطع حديثهما المهتم صوت جهوري، وخطوات مزعجة بغناء أفسدت متعة وجود عبد الحليم التي أُفسدت أساساً بانهيار صنبور المياه..
-سجل أنا عربي
-عمو أبو محمود، عمو أبو محمود، أنا إجيييييييت..
نادت بلا مجيب، لذا ظنت أنه قد يكون بالغرفة الأرضية، فعاودت النداء:
-عمو أبو محمود أنت هون؟؟
والصوت يغيب وفجأة يعود بتركيز
-إمم شو هالريحة؟؟
ثانية أو اثنتين للاستدراك، والصوت يعود هاتفاً بنصر..
-الله ريحة بندورة قلي!!!
-هيني هون يا عمو تعالي..
ناظره بصدمة، يستشكف الصوت الذي بدا له وكأنه يعرفه، هذا الصوت سمعه أو ومض في ذاكرته التي تحتفظ بالأصوات والمشاهد بعناية، أشار بغضب للعم الذي لم يعره أساساً وخرج للباب ينفض المنشفة ويرفع نبرته قائلاً:
-آه يا بنتي هيني جوا المطبخ تعالي هون..