"عذرًا سيدي، سأقوم بتبديله لك حالًا."
قال راينر بابتسامة متوترة وهو يتناول صحن سلطة دجاجٍ من على الطاولة، لفت صوت الزبون المنزعج انتباه ريو فرفع رأسه من حاسوبه، شاهد راينر يحمل الصحن ويتجه إلى المطبخ وقد تبعه ماكوتو إلى هناك فنهض من مكانه ومشى ناحيتهما.
ما إن عبر الباب المعدنيّ الفاصل سأل ريو: "ما المشكلة؟"
قفز راينر في مكانه وهو ينظر ناحيته بتوجس، حك ماكوتو خده ثم قال: "إن شينزو الطباخ الرئيسي غائبٌ هذا اليوم لذا المسؤول عن المناوبة هو هيراغي، مساعد الطباخ...وهو نوعًا ما مبتدِئ."
مد ريو رأسه عبر فاصل المطبخ وشاهد شابًا يلعن في قطعة خبزٍ محترقة، بجواره هسهس القدر وانسكبت محتوياته وقد ملأت السطح فلعن مجددًا بصوتٍ باكٍ، التفت ريو ناحية البهو وعلت وجهه تكشيرة حين رأى الزبونين يغادران المقهى وقد بدا عليهما الاستياء، فقال راينر: "آه هيراغي متوترٌ قليلًا سيدي فهذا يومه الثاني وحسب ولم يتوقع أن..." ابتلع ريقه، "طعامه جيد في العادة."
أومَأ ريو تجاهه مما جعل عينيّ راينر تتسعان: هل هذه تعابير متفهمة؟!
مد رأسه مرةً أخرى فشاهد هيراغي يُحدث قطعة خبزٍ جديدة طالبًا منها ألا تحترق مثل أخواتها، زمَّ ريو شفتيه وخلع زرائر قميصه الأ**د وساعته ووضعهما على سطح الطاولة، نظر إليه ماكوتو وقال: "لا تقل لي أنك تنويّ..." خطا ريو ناحية المشبك وتناول زي طباخٍ أبيض وأحكم ربطته خلف ظهره، أعاد شعره للخلف وكفكف أكمام زيه ثم غسل يديه ثلاثة مرات متتالية وعبر إلى المطبخ.
أتى نادلٌ يحمل طلبًا ووضعه في البورد فامتدت يد وأخذته فقال: "آه هيراغي رجاءً لا تسكب قنينة الملح كلها مثل—خرج منه صوتٌ مخنوق كدجاجة عندما رأى الرئيس يحمل الطبق وينظر إليه وهو مرتدٍ زي الطباخين.
"لا تقلق لن يكون الملح كثيرًا،" قال له ريو ثم أخرج مقلاةً وبدأ بتقطيع البصل بسرعة احترافية وقف هيراغي قرب النادل وقال بإعجاب: "أتعتقد أنه سيقبل بي كمتدرب؟" رمقه النادل بنظرة جاحظة فأردف بضغينة: "وبالمناسبة لو كنتم وجدتم بديلًا للسيد شينزو كان عليكم إخباريّ كاد قلبي ينخلع خلال هذه المناوبة!"
صفع النادل جبينه وفكر أن الجهل نعمةٌ لأصحابه.
***
ض*ب زيرو ماكينة القهوة بعنف وقال: "هيا إعمليّ يا غ*ية." فكان ردها عليه هو سكب قطرتين في الكوب. "ما خطبك! تملكين عملًا واحدًا في هذا العالم ورغم هذا لا تجيدينه!"
كان شويا مستند على الخزائن وهو يهز رأسه بيأس على حاله، دخلت ران بين يديها صينية بها كوبين فارغين وضعتها ثم قالت: "ما يزال يتحدث مع الماكينة؟" أومَأ لها شويا بالإيجاب.
"لابد أن بعضًا من المياه قد تسربت إليها حين اشتغلت المرشات،" تن*دت، "الآلة القديمة ما تزال تعمل لكن هذه الآلة الوحيدة التي تصنع اسبريسو مضاعف وبدونها لن نستطيع إعداد ثلاثة أصناف أخرى في القائمة."
تحرك شويا من مكانه وأزاح زيرو من أمام الماكينة ثم بدأ في تفكيك أجزائها، أخذ الفلاتر وقام بغسلها أسفل المياه ثم ركبها مجددًا، أغلق الباب وض*ب أعلا الماكينة مرةً واحدة ثم قال: "اشتغليّ." أص*رت الآلة آنينًا ثم تدفق منها سائل غامق ملء الكوب الصغير فحدق زيرو نحوه باستحالة لكن شويا لم ينظر إليه حتى عندما عاد ليقف في رقعته السابقة.
"على الأقل انتهينا من هذه المصيبة،" قالت ران بابتسامة فكشر زيرو ناحيتها. "لماذا تظنين أنه سيكون هنالك المزيد من المصائب!"
قطبت ران كأنما هذا أغبى سؤالٍ سمعته في حياتها، "لقد مضى يوم أمسٍ بسلاسة أتعتقد أن اليوم –وهو اليوم الأخير في الرهان- سيمضيّ على خيرِ أيضًا؟" تكتفت، "إن كنت تظن أننا محظوظون لهذه الدرجة فأنت واهم!"
"اخرسيّ، لن تحدث أي مصائب، لا تقومي بنحسنا!"
تظاهرت ران بتمرير سحابٍ وهميّ فوق شفتيها وابتسمت ببراءة، في تلك اللحظة دخلت يوميّ إلى المطبخ وهي شاحبة، تبدو كمن رأى شبح الموت ذاته، أشارت إلى الخارج وقالت بيدٍ مرتجفة: "هناك..هناك.."
كز زيرو على أسنانه وقال لران: "هذا كله بسببك!" ثم خرج من المطبخ ليرى ما الخطب، كانت الطاولات ممتلئة والزبائن يتحدثون مع بعضهم بسعادة، لم يبدُ أن هنالك أي مشكلة لذا قطب باستغراب.
وضعت ران ذقنها على كتفه وقالت: "إذن ما هي المصيبة؟" فرمقها بنظرة طرفية قاتلة، ببطء ومع ابتسامة سحبت ذقنها عن كتفه، شعر زيرو بيدٍ تجر قميصه فالتفت إلى الخلف، قالت يومي بصوتٍ مختنق: "هناك!"
في البدأ لم يرَ زيرو شيئًا لكن عندما دقق النظر رأى ذ*لًا يتمايل وراء إحدى الطاولات، هتفت ران بحماس: "آوه إنها قطة!"
رمقتها يومي بنظرة منزعجة وقالت لزيرو: "أخرج هذا الوحش من هنا."
"أنتِ الوحش! كيف تجرئين على نعت هذه الكائنات اللطيفة بالوحوش!" قالت ران وهي ترمق ذ*ل القطة بنظرات حب.
تكتفت يوميّ: "إما القطة وإما أنا في هذا المقهى!"
حدق زيرو وران بها مدة ثم إلى الباب ففغرت فاهها ورفعت يدها إلى قلبها كمن جرح جرحًا نافذ.
"أوه إنها قطة!" قالت إحدى الشابات فتلا تعليقها صرخة صديقتها وهي تقول بفزع: "أبعدي هذا الوحش عنيّ!"
نظرت يوميّ إلى ران بانتصار فهزت الثانية رأسها، ما إن سمع زيرو زعيق الزبونة تقدم تجاه القطة وانحنى فانحشرت القطة في الركن بين آلة الموسيقى والطاولة، مد يده وقال لها: "تعاليّ وسأصنع منك لحمًا،" جحظت الزبونتين ناحيته فاستدرك نفسه: "أعنيّ سأعطيك علبة تونا." ردت عليه القطة بانتفاش ذ*لها والقفز في وجهه ثم الركض بين أرجل الزبائن حتى دلفت إلى المطبخ.
وراء الواجهة الزجاجية للمقهى وقف شابٌ يرتدي قبعة رياضية حين رأى القطة تقفز في وجه زيرو حاول كتم ضحكته، أحسنتِ د*كسي، سببي لهم المتاعب وسأعطيك علبتي تونا! لم تكتمل ابتسامته حتى قفز في مكانه حين رأى النظرة النارية التي رمقته بها الفتاة الشقراء التي –رغم وقوفها فوق الكرسي وارتجافها- تمكنت من توعده بالقتل! حمل الشاب نفسه وابتعد ثم عبر الشارع بسرعة، حتى لو رأته فهي لن تتعرف عليه، كما أنها لا تملك دليلًا ضده، وعلى أي حال، د*كسي مجرد قطة، هو لم يرتكب جريمة...فكر في هذا وتذكر ما تفعله د*كسي كل يومٍ من خرابٍ في غرفته فضحك بصوتٍ عالٍ كالأشرار.
وفي هذه الأثناء، بداخل ساحة الحرب، أعني المطبخ، وقف زيرو أمام رفوف الكوؤس الزجاجية يحميها بحياته، فأسفل قدميه رقدت ثلاثة جثث لأكوابٍ خزفية أردتها القطة صريعة حين حاول إمساكها قبل قليل، اقتربت ران من القطة التي حبست نفسها وراء الثلاجة وقد حملت طبق حليب، "يا حلوة، هيا اخرجيّ،" ردت عليها القطة بمحاولة عضها فأبعدت ران يدها بسرعة ثم عادت أدراجها إلى زيرو: "أنا متأكدة أنها أرادت قضم اصبعيّ! هذه ليست قطة إنها—شيطان." قالت يوميّ وهي متسلحة بمكنسة وقد وقفت فوق الطاولة في منتصف المطبخ بشموخ.
نظر زيرو إليها وقال: "أتعتقدين أنها لن تصل إليكِ هناك لو أرادت؟"
تغيرت سحنة يوميّ بصورة مرئية وبدت كمن سيغمى عليها لذا أضاف بسرعة: "شويا سيقوم بحمايتك لا تقلقي!"
أشار شويا لنفسه ورمش.
طوال هذا الوقت كان هو الشخص الوحيد الذي يعد الطلبات ويأخذها إلى الزبائن ثم يخرج الفواتير اللازمة، تن*د من الأعماق وقد شعر بأنه محاط بمجموعة من...رمقهم بنظرة أبلغ من أي تعبير وتحرك من مكانه، جثى بالقرب من الثلاجة وضع طبق الحليب أمام القطة التي حاولت خدش يده فتركها، خدشتها مرة وأخرى ثم توقفت، داعب رأسها ورقبتها فل*قت يده ثم شربت الحليب وقد بدا أنها هدأت أخيرًا.
نزلت يومي من الطاولة واقتربت من شويا: "يدك ألا تؤلمك؟"
"لدي قطة في المنزل، أنا معتاد على هذا." حدقت يوميّ نحو شويا بإعجاب ظاهر فاحتضن نفسه بذراعٍ واحدة وقال: "أنا أبلغ السابعة عشرة."
مطت يوميّ شفتها السفلى كمن تحطم قلبه بينما قهقهت ران في الخلفية دون حياء، أما زيرو فكان سعيدًا أخيرًا بتخلصه من هذه القطة لذا على غير عادته ذهب لخدمة الزبائن بنفسه.
"إن هذه القطة منزلية." قال شويا، فتوقفت ران عن الضحك وقالت: "أنا متأكدة أنها من أتباع مقهى الشر!"
بدت على وجهها تعابير قاسية: "كيف يتجرأون على استخدام قطة بهذه الطريقة؟ أتعلمين؟ أنا لم أعد أشعر حتى بالذنب لتحطيم حاسوبه، بل أتمنى أن يتحطم سقف مقهاهم فوق رؤوسهم جميعًا."
"أتشو،" عطس ريو بينما كان يغسل يديه وقد فرغ للتو من طلبٍ آخر وتمتم من تحت أنفاسه لابد أن والده يلعنه لسببٍ سخيفٍ آخر، دخل ماكوتو المطبخ وقال: "أمازلت مصرًا؟"
نظر إليه ريو باستغراب: "مصرٌ على ماذا؟"
عقد ماكوتو ساعديه أمام ص*ره، "على الاستمرار في هذا الرهان، تبقى 3 ساعات فقط على نهايته، يمكنني التحدث معهم والوصول إلى تسوية، إنهم عقلانيون ولا أظن أنهم سيصرون على موقفهم."
"هاه وما الذي يجعلك تظن أني أريد الانسحاب؟" نفض يديه من الماء وأردف: "خصوصًا وأنا على وشك الفوز."
تمتم ماكوتو تحت أنفاسه بـ كم أنت ع**د ورأس يقطينة ثم التفت إليه وقال: "هنالك أمر أخر، يخص السيد فوجيوارا لقد طلب مني السيد سايرس—رفع ريو يده أمام وجهه وقال: "لا تكمل حتى، لا أريد سماعة كلمة عن هذا الموضوع—ولكن—قلت لك لا أريد أن أسمع شيئًا..."
حرك ماكوتو فكه وبدا عليه الغيظ جليًا، سحب إلى ص*ره نفسًا عميقًا ووضع يدًا على كتف ريو ثم قال: "تذكر أنيّ أردت تحذيرك، لكنك رفضت الاستماع إليّ. فقط تذكر جيدًا!"
نفض ريو يده كذبابة مزعجة وقال: "اذهب للخارج وتفقد إن كان هنالك طلبات جديدة."
***
في الحديقة العامة المجاورة، عندما حلت الساعة الثانية عشرة ليلًا، وقف طاقم مقهى تحت الصفر مواجهًا لطاقم قهوة ساخنة والشرر يتطاير في الأجواء، كان يفصل بينهما طاولة خشبية وبنشين، جلس زيرو بجهة وماكوتو بالجهة الأخرى، حين حانت ساعة الصفر أمسك كل منهما فواتير المقهى الثانيّ وبدأ بعدها.
طوى ريو يديه ورمق يوميّ بنظرة دونية، أما يومي فكنت تنظر إليه باستغراب...حينها فقط استوعب أنه نسيّ أن ينزع زي الطباخ عندما خرج سابقًا، اهتزت تعابيره المغرورة قليلًا ثم ابتسم كل منهما بثقة والفواتير تتراكم في الجانبين مع كل ثانية.
وما إن انتهى ماكوتو وزيرو من العد عمت لحظة من ال**ت المطبق، ترقب الجميع النتيجة، نظر زيرو إلى ماكوتو وماكوتو إلى زيرو في نفس الوقت ثم انفجرا بالضحك.
قال ريو بنفاد صبر: "ما هي النتيجة؟" بينما هزت يومي زيرو الذي احمر وجهه من الضحك. "قل ما هي النتيجة!"
"النتيجة هي..." حاول ماكوتو القول لكنه سقط في نوبةٍ أخرى من الضحك فجز ريو على أسنانه بغضب.
أخذ ماكوتو أنفاسًا عميقة وحاول الحفاظ على ثباته، نظر إلى يومي وقال: "245 زبونًا."
- نحن أما هم؟
"الاثنان" أجابها زيرو وهو مبتسم باتساع: "إن النتيجة تعادل."
"هذا مستحيل!" هتف ريو بانزعاج وقد سقطت تعابير وجهه.
"لقد أعدت العد مرتين،" أكد ماكوتو: "نفس عدد الزبائن."
ضحك طاقم عمل قهوة ساخنة وبدا عليهم الارتياح، أحاط راينر كتف آراشي وقال بهمس: "الفضل لد*كسي وعبقريتي!"
رمقتهما يوميّ بنظرات نارية فأشاح الشابين نظريهما، التفتت ناحية ريو وقالت: "لا بأس، انتهى الأمر على أي حال،" نفضت يديها كمن تخلص من مصيبة، "أخيرًا سنرتاح من إزعاجك...أتمنى ألا أراك مجددًا ما حييت."
تكتف ريو: "أوه صدقيني إنها مشاعر متبادلة!"
أزاحت يومي شعرها بغرور وحاوطت ذراع ران ثم ذهبتا، نظر زيرو إلى ريو وطقطق أصابعه: "خسارة، لن يتسنى لي إيساعك ض*بًا."
رفع ريو راحتي يديه في الهواء وقال: "لحسن حظك."
فابتسم زيرو ثم تبع الفتاتين، وقف ماكوتو بجوار ريو وقال: "كان الأمر ممتعًا."
"أي جزء بالضبط؟" استدار ريو وأضاف بتهكم: "الجزء الممتع الوحيد هو تخلصي من ازعاج تكتف ماشين."
ابتسم ماكوتو بزاوية فمه بينما راقب ريو يعبر الشارع، أعلى المبنى في التقاطع ومض إعلان القهوة، الفتاة الجالسة بداخل الكابينة وهي تراقب المطر، حدق ريو بالإعلان وتن*د. فهاهي قدماه تأخذه إلى العمل، إلى الأوراق والبيانات التي لا تنتهي والمشاريع التي لا تكف عن التراكم، حسدها على راحة بالها وابتسامتها، على كوب القهوة وبساطة حياتها. على كل الأشياء التي بدت بعيدةً عن متناول يده.