وضعت ران كوبا شوكولا ساخنة مع قطع مارشملو صغيرة أمامهما، جلست وهي تطالع صديقتها المستلقية بوجهها على الطاولة.
"هل العمل هناك بهذا السوء؟"
دمدمدت يومي وهزت رأسها فتحركت خصل شعرها يمينًا ويسارًا.
أسندت ران خدها براحة يدها وحدقت بها باهتمام، كانت تعلم أن يومي من النوع الذِّي لا يسهل إحباطه، شخصيتها المرحة تمكنها من إيجاد قوس القزح حتى في قلب العاصفة، لم تكن تسمح للحياة بتحريك دفتها كما تشاء، بل كانت، أينما ألقت بها الحياة، تعمل على الأخذ بزمام الأمور، لذا كونها تعيسة لهذه الدرجة يعني أنها حقًا تكره العمل في الشركة.
"بالمناسبة ألم تقولي أن هنالك خبر تودين إطلاعنا عليه؟"
جرَّ زيرو كرسيًا واتكأ بمرفقيه على الطاولة، ألقت الاضاءة بظلٍ داكن على وجهه، عقد أصابعه معًا وقال: "من الأفضل أن يكون خبرًا جيدًا فأنا بحاجة لبعض الإيجابية في حياتي."
همهمت يومي ورفعت رأسها من الطاولة، ظهرت علامة حمراء على جبينها، بعثرت غرتها وتناولت كوب الشوكولا الساخن وأخذت رشفة، تنهَّدت بعدها كزوجة فقدت زوجها في الحرب.
"أتذكران مالك مقهى 'قهوة ساخنة؟'"
"صاحب الحاسوب؟" سألت ران بينما رفع زيرو حاجبًا: "هل من الممكن نسيانه؟"
أومَأت مع كلامهما ببؤس، رفعت الكوب وارتشفت رشفة كبيرة ثم مسحت فمها كما لو أنه شرابٌ كحولي.
"أتعلمان ما هو عمله؟"
نظرا إليها بحيرة، راقبت قطع المارشملو تطفو وتغرق في السائل البني.
"إنه نائب مدير قسم التخطيط في شركة فوجيتسو."
"مهلًا، شركة فوجيتسو؟!!"
"إنه رئيسي المباشر."
شهقت ران وعادت في كرسيها إلى الخلف أما زيرو هزَّ رأسه وتمتم: قلت أريد بعض الإيجابية!
وضعت يومي خدها على راحة يدها وقالت بضجر: "ليس هذا كل شيء،"
ران: "هل هنالك أسوأ؟"
زمت يومي شفتيها محاولةً عدم الابتسام، "يدعى ريو سايرس."
"لماذا يبدو لي هذا الاسم مألوفًا؟" قالت ران بتقطيبة، عقلها يعمل على إيجاد الذكرى المرتبطة بالاسم.
"لأنه مألوف بالفعل."
حثتها نظراتهما على الاكمال فقالت: "إنه ابن 'العم سايرس'"
"يا إلهي!" ضرَّبت ران يدها على سطح الطاولة ونهضت فجأة فارتج الكرسي وراءها: "أنتِ جادة؟ هذا لا يعقل!...لقد كان يتفاداكِ مثل الوباء!"
أومَأت يومي وقد بدأت ابتسامتها تهتز، هتفت ران: "أليس هو بطل رحلة التخييم الشهيرة؟!"
"نعم، بشحمه ولحمه."
وفي ذات اللحظة انفجرت الفتاتين بالضحك كمجنونتان في مصحة عقلية بينما تنهَّد زيرو غير عالمٍ لماذا يصادق من تصلحان كخليفة لهارلي كوين بجدارة.
"آه معدتي...لا أصدق، لقد نجح بتفاديِّك كل هذه السنوات...ثم...--أتى بنفسه واشترى المقهى المجاور."
لمعت عينا يومي بتسلية: "ليس هذا فقط، هو من قام بتعييني للعمل معه، تعلمان، بنية الانتقام..."
"رباه هو لا يعلم أنه ينتقم من نفسه!"
ولأن مشاعر يومي تحسنت بالشماتة على ريو ارتشفت من كوب الشوكولا باستمتاع واضح ثم قالت: "هو لا يعلم هذا بعد،"
"عندما يكتشف الحقيقة عليكِ بتصوير المشهد وإلا سأطالبكما بإعادته!"
تذكرت يومي ما قاله السيد سايرس سابقًا فكتمت ضحكة، دراما 'ريو سايرس وغباءه' لديها الكثير من المشاهدين!
"لكن ألا يعني هذا أنكِ تحت رحمته الآن؟" قال زيرو وأخذ كوب ران ثم شرب منه، حدجته ران بنظرة احتجاجية فهشها.
"آه نعم، شكرًا لك على تذكيري، تمامًا ما كنت أحتاج إليه." وضعت جبينها مجددًا على سطح الطاولة ببؤس.
"دعينا من هذا،" قال زيرو: "ما هو الشيء الذي يزعجك بالفعل؟"
من زاويتها على الطاولة حدقت يومي بعيني زيرو الرماديتين، كان ينظر إليها بجدية وقلق فابتسمت وهي تفكر أنهما يعرفانها أكثر من اللازم.
"الفتيات في المكتب،" تنهَّدت بتراجيدية، "إنهن يتنمرن عليّ، لقد مزقن دفتري المفضل بل تعدوا على صورة مامورا ثلاثة مرات حتى الآن."
رمش زيرو: "أحدهم يتنمر عليك؟" أضافت ران: "أنتِ؟"
"لا أعرف الجاني بعد، لكني أظنهم يفعلون هذا لأنهم يعتقدون أني أطارد ريو."
كتمت ران ضحكة لكنها لم تستطع فحدجتها يومي بنظرة حادة: "هل تضحكين على تعاستي؟"
"آوه ههههه آسفة ولكن، ألا تجدين المفارقة طريفة؟ آهههههه إنهم يتنمرون عليكِ لأنكِ تطاردين الشاب الذي يهرب منكِ كالطاعون آهههههههه...."
"لا لا أراها طريفة! إنه نزق الطباع ومزعج! من ذا الذي يهرب من الآخر؟ لو كان أخر شاب على سطح الأرض لن انظر إليه أبدًا!"
"آه قد قالتها!"
صفع زيرو جبينه بحسرة: "جملة المصائب، الآن سيقعان في الحب وسيرزقان بحفنة من الأطفال جميعهم نزقوا الطباع ويملكون حواسيب!"
فغرت يومي فاهها وضرَّبت سطح الطاولة: "اسحب ما قلته سريعًا! اسحبه الآن!!"
كانت معدة ران تهتز، دمعت عيناها من فرط كتمها للضحك وفي النهاية انفجرت، لوح زيرو بيده: "فات الآوان على ذلك."
نظر زيرو إلى روحها عميقًا ومثل قاضٍ متمرس قال: "بات قدركُ محسومًا."
"لااااااااااا"
اتشو...
"هل أصبت بالزكام؟!" سألت السيدة آيري ريو الجالس أمامها في الكرسي، كانوا يتناولون طعام العشاء في صالة المعيشة.
"لا لا،" أجابها ثم أخرج منديلًا من جيبه.
"بل يبدو أنك أصبت به! إلهي هذا لأنك لا تأكل شيئًا سوى كرات الأرز! هل الأونيغري تبدو لك كحمية صحية لرجلٍ راشد مثلك؟ فوق ذلك أنت لا تأتي لتناول العشاء هنا إلا مرةً كل دهر..."
زمت شيزوكو شفتيها وهي تراقب المشهد المعتاد، والدتها تعاتب أخوها الأكبر لأنه مدمن للعمل ولا يأكل كما يجب، حركت قدميها في الكرسي، بدا على ريو الاضطراب وهو يحاول اقناع والدته أنه يأكل جيدًا لكن الثانية ظلت تتحرى معه كمحققة إف بي إي محنكة، أخذت شيزوكو قضمة من السلطة وقررت انقاذ أخيها لذا قالت: "ريو أتعلم ما هي المناسبة المهمة الأسبوع القادم؟"
التفت ريو ناحيتها بملامح ممتنة، ابتسم ناحيتها بلطف وقال: "هل لديِّكم رحلة مدرسية؟"
هزت شيزوكو رأسها: "مناسبة أهم."
تناول ريو شوكته وأخذ قضمة، تظاهر بالتفكير العميق، "سيأخذك أبي لمدينة الألعَّاب؟"
قفز سايرس في مقعده مع ذكر اسمه وقال: "هوي يا ولد لا تورطني! ليس لدي وقت الأسبوع القادم!"
نفخت شيزوكو وجنتيها وقالت: "كلاكما تحبان العمل أكثر مني."
"هذا ليس صحيحًا!" قالا معًا وبنفس الشدة.
شيزوكو: "إذن ما هي المناسبة في الأسبوع القادم؟"
تبادل الرجلان نظرات مَن وقع في ورطة، قال سايرس بعينيه لريو: هل هذه نسختها من لو كنت مهتم لعرفت بنفسك؟
فأجابه ريو: لقد تعلمتها من زوجتِك!
'إنها والدتك يا قليل الأدب!'
'إذًا أخرجنا من هذه الورطة!'
'أنا أيضًا لا أعرف ما هي المناسبة!'
راقبت شيزوكو محادثة الأعين الصامتة بين أخيها ووالدها ثم تنهَّدت بصوتٍ مسموع، "لا بأس، لم يكن شيئًا مهمًا."
"أوه بالفعل؟" قال ريو وقد بدا عليه الارتياح تناول شوكته مجددًا وأخذ قضمة كبيرة من المعكرونة، كذلك فعل السيد سايرس ولكن عندما رفعا رأسيهما تجمدت الدماء في عروقهما من نظرات السيدة آيري القاتلة.
استأذنت بعدها شيزوكو وذهبت إلى غرفتها وما إن غادرت نطاق السمع ضرَّبت السيدة آيري يدها الممسكة بالسكين على الطاولة، "واللَّعنة ما خطبكما؟ أليس واضحًا أنها تعني عيد ميلادِها!"
**َّتا برهة وبعد ثوان قالا سويًا: "لا لم يكن واضحًا على الإطلاق."
ظللت السيدة آيري جبينها بيدها وهزت رأسها، "أنتما عديما الفائدة حقًا!" نهضت من الطاولة وحملت طبقها الفارغ معها: "من الأفضل أن تجهزا لها هدايا مميزة... مميزة وليس باهظة الثمن هي لا تريد عقد ألماس بربع مليون دولار!"
حدجت زوجها بغضب فانكمش على نفسه وتمتم: ظننته سيعجبها...
"اختارا شيئًا من القلب، أتفهمان؟ يعني أن تجوبا ألف محل وتقفا بحيرة أمام كل غرض وتفكران بعمق إن كان سينال إعجابها أو لا...هل كلامي واضح؟"
أومَأا ناحيتها كجنديين يؤديان التحية العسكرية لجنرال، استدارت على عقبيها فأصدَّر كعبها العالي صوت "كليك كليك" مع الرخام.
تناول ريو لقمة من حساءه الذي برد وعبر المعلقة قال: "زوجتك مخيفة!"
"إنها والدتك يا قليل الأدب!"
"ما الذي تعنيه بهدية من القلب؟"
"ربما دبٌ محشو يحمل قلبًا أحمر؟"
"أتعتقد ذلك؟"
"ما أدراني!"
"عديم فائدة."
رماه السيد سايرس بنظرة غاضبة فتَّناول ريو طبقه واتجه نحو المطبخ، جلست السيدة آيري برفقة شيزوكو أمام التلفاز، كانتا مندمجتان مع دراما وكل منهما تحمل دلو فشار.
سمع شيزوكو تقول: "أنا أحب شقَّيقة البطلة أكثر من البطلة."
"أنا أيضًا، انظري إنها تضع لها الم****ر في القهوة!"..." جيد أخيرًا سنتخلَّص من إزعاجها!"... "لا أعتقد ذلك فالبطلات لا يمتن بل يحظين بالنهاية السعيدة."..." إنهن كالصراصير."..."تمامًا أتمنى أن تسكب لها جرعة زائدة ويكون المخرج ذكيًا بما يكفي وبالفعل يتخلصُّ مِن البطلة."..."سيكون هذا مثاليًا!"
مع سماعه أخر جملتين سرت في جسده قشعريرة وفكر أن عليه أخذ موضوع الهدية بجدية أكبر، مالم يرد أن يموت بجرعة زائدة في كوب قهوته المفضلة!
غسل أطباقه وصنع لنفسه كوب قهوة من غير سم، ممسكًا بالقدح بيد وبهاتفه في الثانية أدخل اسم الدراما التي تشاهدناها في خانة البحث من باب الفضول، اهتز الفنجان في يده وكاد أن يسقط حين شاهد قائمة الممثلين، "أليست هذه صديقة تاكتف ماشين الصهباء؟"
"ران هيتوري، 19 عامًا، حظيت بسبع أدوار جانبية حتى الآن ومثلت في فلم 'كبسولة زمن'...آوه لا بأس بها."
تذكر لقاءهما الأول وشعرَّ بلسعات القهوة الساخنة على جلده فقطب، حتمًا لم يكن لقاءً أول جيد، تغيرت ملامحه لأخرى فارغة، الحقيقة أنه رآها تتعثر بالفعل بعربة الطفل التي جرها الزوجين وفي قرارة نفسه كان يعلم أن ما جرى مجرد حادث، لكنه حينها لم يستطع تمالك نفسه وصب جام غضبه عليها...
ليس بسبب المشروع الذي قضى فيه شهورًا عديدة، ولا خسارته للحاسوب، ولا قميصه الذي اتسخ، بل لأن اليوم كان ماطرًا وكان أيضًا ذكرى وفاة ذلك الشخص...
حاول طوال اليوم أن يغرق نفسه بالعمل، أن يتجاهل احساس الضيق المتصاعد، الظل القاتم الذي كان طوال الأعوام الأربعة الفائتة يحوم فوقه، مع كل رمشة، غمضة عين، كان يبصر الذكريات التي تحاول قسرًا أن تطفو للسطح، لم يكن مستعدًا بعد لمواجهة الحقيقة، لقد مات نعم، لكنه لا ينوي إحياء ذكرى موته كل عام، يكفيه أنه فقده مرة...فكرة أن يفقده كل عام بذات التاريخ...أرعبته، حطمت دفاعاته كلها وجعلته يصرخ بوجه فتاة بدا الذنب واضحًا على وجهها وقد حاولت الاعتذار، لكن اعتذارها لم يكن كافيًا لدرء الدموع المتحاملة عليه، الجرح في قلبه الذِّي لم يندمل...والحقيقة العاريَّة لكونه حيّ ويشعرُ بلسعات القهوة الحارقة بجلده...بينما تاداشي ميت ويقبع في قبرٍ رطب وبارد...وحيدًا...وما يزال بعمر التاسعة عشر.
نظر إلى انعكاسه على سطح القهوة المتموج، باتت ملامحه أكثر حدة مع العمر، عظام وجنتيه بارزة، وجهه حليق، أنفه مستقيم، وعينيه زرقاوتين كحبرٍ مخففٍ بالماء...أربعة وعشرون عامًا.
أربعة وعشرون عامًا لم يفعل فيها شيئًا سوى أن خلَّف وراءه خطًا من الركام...والآن، ماذا تبقى منه؟ لو رحل ريو سايرس من هذا العالم، بأي شكلٍ سيتجسد في ذكريات من يعرفونه؟ وهو لم يكن يومًا سوى قِشرة، قشرة حياةٍ ظل يتفاداها، هيكلٍ خاوٍ، آلة عالية الكفاءة، شغلَّ نفسه بتسلق سلم العمل، بإغلاق الصفقات، بالتوقيع على الأوراق ونيل منصبٍ مرموق، عنوان: لحياة شخصٍ يعمل لأن العمل هو كل ما يُجيده وكل ما لديه. لكن العمل لم يجعل حياته أقل كآبة، لم يُصلِح ما أفسده الزمن، ولم يقتل تلك الوحدة النافذة إلى روحه.
وضع فنجان القهوة على الطاولة وخرج من المطبخ، بدا أن لخطواته وجهة لذا تبع نفسه، منقادًا بدافعٍ لا يعرف مص*ره، خطوة خطوة، توقف أمام غرفة في الطابق الثاني، وضع يده على مقبض الباب وسحب نفسًا عميقًا إلى ص*ره ثم فتحه. اندفع الهواء المكتوم ولوهلة حبس أنفاسه، تسلل الضوء القادم من الرواق ورسم مستطيلًا على أرضية الغرفة المظلمة، وقف بمكانه مدة يطالعها، يطالع الحياة التي تمَّ تحنيطها هنا، لشابٍ لم يعد هو، لشابٍ لو رأى ما آل إليه حاله اليوم لأصابه الاحباط، لشابٍ ما كانت يده سترتعش وهو يرفعها لقابس الضوء، ضغط عليه فأنيرت الغرفة.
طغى عليها اللون الرمادي، سريرٌ ضخم في المنتصف، أرفف كتب أعلاه مباشرة، خزانة ذات أبوب تنزاح للجانب، طاولة تراكمت عليها الكتب والمراجع، حاسوب قديم وملصق فريق يونايتد سيتي. كان الطرف العلوي للملصق ملتوٍ ولون الحائط وراءه باهت، أسفل السرير توجد صناديق من الورق المقوى بداخلها مشغل موسيقى قديم، سماعة مقطوع طرفها، والمئات
...المئات من اسطوانات الموسيقى الكلاسيكية.
بصعوبة بالغة أجبر نفسه للنظر نحو النافذة، الستائر الثخينة والبيانو الأ**د القابع آسفلها. منسيًا. مهجورًا. وقد **ته طبقة من الغبار.
بخطواتٍ بطيئة اتجه إلى السرير وجلس، واضعًا يديه خلفه حدق بملامح حياته السابقة، بدت له الغرفة أصغر حجمًا وشعر بالسرير يغوص إثر وزنه، لمح الإطار الموضوع بالقرب من السرير فمد يده ورفعه، في الصورة كان خمسة شبان يبتسمون للكاميرا، يقفون وسط المسرح المدرسي وعازف الغيتار يحيط كتفه بيده وهو مبتسم باتساع، أما النسخة ذات الستة عشر عامًا من ريو كانت ممتعضة وتنظر للكاميرا بازدراء، من الواضح أنه يتساءل لم عليه أن يظهر في الصورة بينما لم يكن من أعضاء فرقتهم حتى...
كانت تلك هي البداية لحلمٍ خرَّ صريعًا بعد أربعة سنوات من ذلك اليوم، جالسٌ بداخل الصالة الرياضية، متربعٌ على السطح اللامع وبين يديه مثلجات بنكهة المانجو، التهمها بشراهة، لم يكن يحب السكر لكن حرارة الصيف في الخارج جعلت ملمسها البارد شعورًا مرحبًا به للغاية.
للمرة العاشرة التفت ناحيته تاداشي بعد أن فرغ من العزف وقال: "ها ما رأيك؟"
ل*ق ريو المثلجات وتجاهله، فضيق الثاني عينيه تجاهه، "هل يمكنك أن تركز معي وليس مع بطنك؟"
"إنك تثقب أذناي بهذه البشاعة لذا أفضل التركيز مع بطني."
"أوتش! هل كان أدائي سيئًا لهذه الدرجة؟"
أومَأ ريو بحزم: "صدقني لا تريد أن تعرف رأيي الحقيقي."
وضع تاداشي الغيتار جانبًا وتق*فص على الأرض، غطى وجهه بيديه وقال منتحبًا، "ا****ة تبقى للمهرجان أقل من أسبوع ولا أستطيع أن أؤلف لحنًا مناسبًا لها!"
"عندما يتعلق الأمر بالشعور أو كتابة مقطعٍ من القلب أشعر بالأغنية تدفق للخارج...لا أبذل أي جهدٍ في كتابتها، لكن ما إن أصل إلى المرحلة الأخيرة...اللمسات التقنية، فقط...لا أستطيع العثور على الاحساس المناسب..."
"هذا هو الفرق بين كتابة الأغاني الشبابية الغ*ية والعناء الذي يبذله موزارت لتأليف مقطوعاته."
ضيق تاداشي عينيه: "رأيك غير مأخوذٍ به فأنت متحيز!"
"ولو كنتُ متحيزًا أذناي تميزان القمامة."
"هل نعتّ موسيقاي للتو بالقمامة؟" قالها فاغرًا فاهه وهو يرمش.
أكمل ريو ل*ق الآيسكريم ثم حدق بالعصى الخشبية الفارغة بيده وطرق ل**نه، "خسارة لم أربح واحدًا أخر."
"ريو!"
"هممم؟"
"ريو...♡"
"هذه النبرة لا تريحني. أيًا كان ما تريده الإجابة هي لا."
"اسمعني أولًا على الأقل." نهض تاداشي من الأرض ونفض بنطاله فعاد ريو خطوتين للوراء وتكتف.
"لا. ولا تقترب."
رسم بقدمه خطًا وهميًا أمامه وقال: "هذا حد مساحتي الشخصية، تخطاه وسيعثرون على جثتك طافية في النهر."
دور تاداشي عينيه، "لماذا تفترض أني سأتخطاه؟"
"هاه أنت لم تسمع بالمساحة الشخصية قبل أن تلتقي بي."
"هذا ليس صحيحًا!" طوى تاداشي يديه بعناد، "دعنا من هذا، بما أنك ذوّاق في الموسيقى لم لا تسديني خدمة، ها؟"
"لا."
"اكتب لي لحنًا لهذه الأغنية ولن أزعجك لمدة ثلاثة أيام."
رفع ريو تجاهه حاجبًا.
"حسنًا أسبوع."
ارتفع الحاجب أكثر.
"10 أيام ولا! لن أزيد على ذلك!"
"لن تأتي لسرقة واجبي أيضًا." **ت برهة ثم أضاف، "ولا طعام غدائي."
على مضض ابتسم تاداشي وأومَأ.
"ما سأؤلفه قد لا يروق لك. إن ذوقنا مختلف كما تعلم."
أدخل تاداشي يديه في جيوب بنطاله، توقف وراء الخط الوهمي الذي رسمه ريو، مبتسمًا بطريقته الخرقاء تلك قال: "لا بأس، يمكننا دائمًا أن نلتقي في مكانٍ وسط."
رمقه ريو بنظرة ضجرة، "أنا أفضل ألا نلتقي على الإطلاق."
بحركة خاطفة وسريعة اعتقل تاداشي عنق ريو وثناه للآسفل، بعثر شعره وهو يضحك بينما الثاني يشتمه، "من قال أني اهتم لما تريده!" ..."دعني! لن أكتب لك اللحن!!"
أفلته تاداشي على مضض، ابتعد ريو عنه وبتكشيرة رتب خصل شعره السوداء، مرر يده عبرها عدة مرات وهو يحدجه بنظراتٍ منزعجة.
"ستكتبه وسأعزفه في المهرجان وسيحمل أحدهم الفيديو على الانترنت وستراه شركة مواهب وسنصبح حفنة من المشاهير والأغنياء!"
"هل تعتقد أن وجهك هذا وجه يصلح للشهرة؟"
لمس تاداشي وجنتيه اللتين يملؤهما النمش، حدق بخصلة بنية ساقطة على جبينه ونفخ عليها ثم حرك كتفيه، "أعتقد لا بأس به، على أية حال ما يهم هو الروح بالداخل. وروحي جميلة." **ت قليلًا، "أما أنت، جميل من الخارج لكنك تمتلك روح ملَك الموت."
قلب ريو عينيه، استدار ومشى ناحية المخرج قبل أن يقول: "ملك الموت هذا لن يكتب لك علامة موسيقية واحدة."
"هاي هاي هاي،" هتف تاداشي وزلق يده على كتف ريو الذي أزاحه لكن الثاني التصق به أكثر، مشيا معًا إلى الخارج وتاداشي يتملقه: "لا بأس حتى لو كانت روحك سودَّاء كالفحم لا مانع لديّ وعندما أصبح مشهورًا بفضلك سأتباهى أمام العالم كله بأن ريو سايرس ملك الموت هو صديقي العزيز."
"لست صديقك العزيز وأبعد يدك عني."
"وأيضًا سأخبرهم أنك تحب العناقات جدًا."
"لهذا لن تصير مشهورًا."
"قلها مرةً أخرى، أنا متأكد أن تأثيرها ع**ي."
"فقط اخرس،" لكن عوضًا عن أن يخرس قهقه تاداشي من القلب.
أعاد ريو الصورة إلى مكانها ودعك عينيه، كان يأخذ تلك الأوقات كمسلمٍ بها، كل ضحكةـ ودقيقة- كل غداء تشاركانه- كان، جزءٌ سخيفٌ من عقله يؤمن بأنها ستستمر للأبد، وما يزال هذا الجزء السخيف يرفض تقبل الواقع، أن تلك الضحكة الخرقاء باتت مجمدة بداخل إطار صورة.....للأبد.
أطلق نفسًا ثقيلًا وغطى عينيه بيديه، ضحك عبرهما وتمتم..."إلهي من كان يتصور أن كل تلك السخافات التي تفوه بها ستتحقق بالفعل..."
أبعد يديه وبابتسامة صادقة حدث نفسه، "ربما تأثير كلماتي ع**ي فعلًا..."
همدت حركته، أغلق جفنيه مدةً طويلة ثم قال: "أنت لن تعود للحياة."
فتح عينيه فحياه ال**ت المطبق للغرفة، ابتسم على سُخفه، وحملق بطاولة الكتب، فكر أنه كان قارئًا نهمًا في الماضي، لكن الآن لا يذكر أخر مرة فتح فيها كتابًا.
نهض عن السرير واقترب من البيانو النائم آسفل النافذة، مرر يدًا على سطحه الأملس، أزال غطاء المفاتيح فارتفعت سحابة من الأتربة، عطس ولمس أنفه، كانت الأزرار لامعة ومتراصة باتساق، مد يده للمسها لكنه توقف في اللحظة الأخيرة.
على سطح البيانو برزَّت ورقة بيضاء مكتوبٌ عليها بخطٍ أنيق مجموعة من العلاماتٍ الموسيقية، كانت معزوفة، لم تكن مكتملة، في علامة ديِ عالية توقف العزف فجأة. ظلت المعزوفة معلقة بلا نهاية، كل هذه السنين، قابعة هنا على أمل أن يعود صاحبها ذات يوم ويكتب علامةً أخرى، أن يُعيدها إلى الحياة.
لامسَّ الحبر الأسوَّد وتتبع العلامات من بدايتها لنهايتها المبتورة فتوقف إصبعه فجأة، في ال**ت المطلق من حوله، كان باستطاعته سماع دقات عقارب الساعة حول مع**ه، تكة تكة، تمضي بنفس سلاسة مفاتيح البيانو المتناسقة.
أغلق البيانو وترك الورقة على حالها، وقف عند عتبة الباب وتأمل المكان تحت الاضاءة الصفراء، وبحركةٍ من يده أعتم الغرفة وخرج.