أوقفت يوميّ السيارة على الرصيف المقاصد لبناءٍ ذو واجهة زجاجيَّة، كان الكثير من الأشخاص يدخلون عبر بابه الدوار ويخرجون، من المقاعد الخلفية حمل ريو جميع الصناديق فاقتربت منه يومي وتناولت منه صندوقين، حدق بها...ما تزال غاضبة، حدث نفسه، فهذه هي نفس التعابير التي ترتسم على وجه شيزوكو حين يرفض مرافقتها لمدينة الألعَّاب.
أطلق تنهيدةً صامتة وعندما استوعب أنه أطلق تنهيدة صامتة عقد حاجبيه:
مهلًا ولماذا يهمني إن كانت منزعجة؟!
هز رأسه...لقد بتّ ناعمًا يا ريو. حدجها بنظرة غاضبة هي وتنورتها الصفراء...إنها تأثيرٌ سيئ...
مرّا عبر الباب الدوار، مشى ريو سريعًا ولم يباطئ من خطواته من أجلها، كل فينة وأخرى اختلس إليها النظر منتظرًا أن تطلب منه أن يتمهل، لكنها لم تفعل ومشت بهدوء محاولة بقدر الإمكان ألا تهرول وراءه.
وصلا بوابة خشبية كبيرة فدفعت يومي إحدى الضلفتين وعندما دخلت توقفت بمكانها، صحيح أنها طوال الطريق كانت تحاول تجهيز نفسها لما ستراه...لكن ما إن شاهدت الكاميرات المعلقة في حوامل والأضواء الباهرة والعاملين وراء الكواليس - شعرت بالضيق...
"غرفة المخزن هناك." أشار ريو لها برأسه، تبعته ب**َّت ونظراتها مثبتة على الصناديق بين يديها، وضعا الصناديق وسط أشياءٍ مكدسة بعشوائية، نفض ريو يديه وقال: "سأذهب للبحث عن السيد آكيرا يمكنك التجول في المكان لو أردت."
كانت ملامحها خاوية عندما أومأت بالإيجاب فاستغرب، في العادة تتحمس الفتيات لرؤية استوديوهات التصوير، مشاهدة ما يحدث وراء الكواليس ولقاء المشاهير وما شابه، لكنها بدت...كئيبة؟! هل يعقل أنها ما تزال غاضبة؟
كاد يخرج من المخزن حين التفت وقال وهو يحك خده: "ما قلته سابقًا، أنا حقًا لم أعنيه، لم يكن لطيفًا...أعلم أنك لست ذلك النوع من الأشخاص."
في البدأ لم تستوعب يومي كلماته ولكن بعد مدة فهمت أن هذا أقرب ما يملكه ريو سايرس لاعتذار، كادت أن تضحك إلا أنها ابتسمت ناحيته وقالت: "لا بأس."
أومأ ناحيتها بتردد ثم خرج، مشت يومي وراءه واستندت على الحائط البعيد من مسرح التصوير. وقف مساعد المخرج يتحدث مع أحد الممثلين في الزاوية، ومحدد المواقع أشار لعاملٍ أخر بنقل حاملات الضوء إلى رقعة مختلفة، كان طاقم العمل يصور إعلانًا لشركة ملابس رياضية معروفة. في المشهد سيركض الممثلان على آلتي جريّ لذا اهتمت مختصات التجميل بجعل شعرهما لامعًا ومنسدلًا.
عاد المخرج إلى مقعده فتآهب الطاقم لبدأ التصوير، وقف الممثل والممثلة فوق الآلات، أشار مساعد المخرج لأحد العاملين فأنارت حاملات الضوء الضخمة، اضطرت يومي لوضع ساعدها أمام وجهها ومحاربة موجة الغثيان القوية التي شعرت بها تتصاعد، ببطء، أبعدت يدها وعلى وجهها نظرة مصَّممة، لا تنوي الهرب هذه المرة. ستبقى وتشاهد حتى النهاية.
لم تستطع سماع حوار الممثلين بسبب اصطخاب دقات قلبها، شعرت بكل قطرة عرق وهي تنزلق في خطٍ بارد، بات نظرها مشوشًا، اقطع...مرة ثانية...اقطع...مرة ثانية...اقطع...مرة ثانية...اقطع...ما خطبك؟ إنها فقط خمس كلمات! ركزي!...اقطع...اقطع...اقطع...لماذا تنظرين إلى الكاميرا؟ توقفي عن النظر إلى الكاميرا!...اقطع...استمعي إليه يا يومي ما يزال لدينا أربعة مشاهد أخرى ومقابلة مع مجلة الشباب!...اقطع...ما خطبك؟ في الفترة الأخيرة بتِ مدللة!...اقطع...اقطع...اقطع...لا تنظري إلى الكاميرا!!...اقطع...اقطع...لمعت شظايا الزجاج على الأرض، زحفت الفتاة الصغيرة إلى الخلف بنظرةٍ فزعة، كانت ترتجف...اقطع....لا لا أريد العمل معها!...اقطع....شاهدت انعكاس صورتها على الزجاج المصقول، عينين مجوفتين في وجهٍ مثالي...اقطع...رنّت صرخة مرعوبة...اقطع...قطرات قرمزية سالت من خدها وسقطت، قطرة قطرة، خصل شعرها الذهبية تناثرت من حولها....اقطع...اقطع....شعرت بالمقص يحزّ كفها ويقطر منه سائل دبق...اقطع...اقطع....ركضت الفتاة الصغيرة وعانقت الرجل...اقطع....اقطع... يا عديمة فائدة ما الذي فعلتيه؟...اقطع....هل فقدت عقلك!! لن أعمل معك مرةً أخرى! آساميّ آساميّ!! أخرجيها من هنا حالًا!!...سقطت خصلة ذهبية أخرى على الرخام، مثل ريشة بلا صوت...اقطع...
"اقطع..." نهض المخرج من كرسيه وقال بابتسامة: "يوكي، شيكا، كان أداؤكما جيدًا، لا نحتاج لتكرار اللقطة." مد يده لمصافحتهما وتبادلوا بعض المجملات.
حدقت يومي بهم، احتضنت نفسها لايقاف يدها، حاولت العد بشكل ع**ِّي في ذهنها، أغمضت عينيها وأخذت أنفاسًا عميقة حتى شعرت بدقات قلبها المضطربة تهدأ وتعود لإيقاعها الطبيعي.
"آنسة هل أنتِ بخير؟"
التفتت يومي إلى صاحب الصوت، كان الممثل الذي رأته قبل قليل، سمعت المخرج يناديه بيوكيّ، ابتسمت ناحيته وقالت: "آه نعم، أشعر ببعض البرد فقط."
تذكرت قطرات العرق المتناثرة بجبينها فشعرت بالغباء الشديد، مد إليها يوكي قارورة ماء وقال: "آه نعم أحيانًا يقللون درجة التكييف بسبب الدفء من الاضاءة الشديدة."
تناولت منه قارورة المياه وقالت: "شكرًا لك." وعنت شكرًا أيضًا على مجاراة كذبتي، ابتسم ناحيتها كما لو أنه فهم ما قصدته وقال:"العفو."
**َّت قليلًا ثم قال: "هل تعملين هنا؟"
"لا لا، أتيت لإيصال بعض الحاجيات فقط."
"تعملين في المبنى الرئيسي؟"
"نعم."
قهقه مع نفسه: "لا أعلم كيف ستأخذين كلامي لكني سأقوله على أي حال، سيكون من الخسارة ألا تفكري بالعمل في التمثيل."
"سأخذه كإطراء." ابتسمت ناحيته، "التمثيل لا يناسبني وإن كنت أناسبه."
ضحك على جملتها الأخيرة فلمعت عيناه البنيتين بإشراق.
"يوكيّ،" ناداه رجل في منتصف العمر فالتفت إليه، كان ريو يمشي برفقة الرجل وبدت عليه ملامح مستغربة عندما رآهما معًا.
"هل انتهيتم من تصوير الإعلان؟"
أومأ يوكي: "من مرةٍ واحدة."
ربت الرجل على كتفه، "لم أتوقع أقل من هذا منك ومن شيكا."
انتبه إلى الفتاة الجميلة الواقفة بالقرب من يوكي فقال: "مرحبًا، من هذه الآنسة؟"
وقف ريو بالقرب منها: "تعمل معنا في الشركة." وعمدًا تجنب قول آنسة فهو لا يرى اللقب يليق، منعت يومي نفسها من تدوير عينيها وبتهذيب أجابت السيد الذي استنتجت أنه آكير: "يومي أولسن، تشرفت بمعرفتك."
مد السيد آكير يده لمصافحتها بابتسامة ودودة: "الشرف لي...الحقيقة في البداية ظننتك إحدى الممثلات."
قهقه يوكي: "لقد قلت لها نفس الشيء!"
أُثنى السيد آكير رأسه للجانب: "أمتأكدة أنكِ لست ممثلة؟...وجهك يبدو مألوفًا."
"حقًا؟ وأنا التي ظننت أن جمالي استثنائي!" قالت يومي وقد وضعت يدها على قلبها فضحك السيد آكير بينما رفع تجاهها ريو حاجبًا مزدريًا.
"لن أسمح لك بالعودة للعمل مع هذا الشاب الممل..." رمق السيد آكير ريو بنظرة مُعايرة، "ستهدرين شبابك مع مدمن العمل هذا، تعالي وإعمليّ معي سأجعلك الوجه الدعائي الأول لماركة كارولينا هريرا في غمضة عين."
قهقت يومي أما ريو فتكتف بانزعاج، هو لم يفعل شيئًا لكن بسببها فجأة بات الوحش الذي يعيق إمكانياتها العظيمة!
"شكرًا لكما على الاطراء لكني سعيدة في عملي الحالي." حسنًا سعيدة كذبة بيضاء...نظرت إلى مصدَّر بهجتها الذي رمقها بابتسامة عارفة.
"آه حسنًا لا بأس...سأستسلم هذه المرة." قال السيد آكيرا على مضض، "ما يزال لديّ يوكي على الأقل."
تكتف يوكي وطرق بحذائه على الأرض: "من قال هذا؟ كنت تريد إستبدالي للتو وتتوقع أني سأبقى؟ صحيح أني شاب وأن كارلوين هريرا ماركة تخص الفتيات ولكن بإمكانك جعلي الوجه الدعائي لبوس أو هيوجو مثلًا، لماذا لم تفعل هذا حتى الآن ها؟"
طبق السيد آكيرا يديه: "ألم يخطر ببالك أن الخلل ليس بي؟ يجب على طموحاتك أن تلائم إمكانياتك."
في تلك اللحظة تحولت عيني يومي لقلبين وقررت أن السيد آكير أفضل عمٍ التقت به بعد السيد أوشيها، لاحظ ريو لتلك القلوب المتطايرة من حولها فهز رأسه بحسرة، إنها حتى لم تعجب بيوكي الممثل الوسيم بل أعجبت بآكيرا، الرجل الأصلع في منتصف العمر ولديه غالبًا ابن يكبرها بعشرة أعوام على الأقل.
تمتم من تحت أنفاسه: معتوهة بالفعل.
التقط رادار يوميّ الاساءة والتفتت إليه فأدار رأسه وتظاهر بكونه يتأمل الآلات الرياضية بإعجاب.
"بالحديث عن الإمكانيات أتمنى أن تاداشي لم يترك الانتاج وفضل العمل أمام الكاميرات بدلًا عن ورائها بعد أن صار مشهورًا..."
تصلب جسد ريو مع سماعه اسم تاداشي، لامس بيده الساعة في رسغه، بدت نظراته زائغة وبعيدة وقد حدق بالرخام أسفل قدميه، لاحظت يومي تصرفه الغريب بينما ظلّ السيد آكير في انتظار إجابة، بعد مدة رفع عينيه وقال بنبرة هادئة: "لقد توفي...قبل أربعة أعوام."
صُدم السيد آكير واختفت الألوان من وجهه، ردد بدهشة: "توفي؟! تاداشي؟!"
رسم ريو ابتسامة صغيرة مفتعلة وقال: "نعم، حادث سيارة...في الغالب لم تسمع عنه لأنه كان خارج البلاد."
بالرغم من كلماته المواسية إلا أن السيد آكيرا كان شاحبًا ويرغب في حفر حفرة والسقوط فيها، فتح فمه عدة مرات لكن لا شيء خرج من فمه، قال يوكي متداركًا الموقف: "تعازيّ الحارة، لو سمعنا بالأمر لحضرنا المراسم."
لوح ريو بيده: "حدث هذا منذ وقتٍ طويل، لا تهتما...عن إذنكما." ..."...لدي اجتماع في الساعة الرابعة."
نظر ليومي فأومأت ناحيته وودعتهما هي أيضًا عندما عبرا الباب الخشبي ألقت نظرة أخيرة خلفها، كانت ملامح الذنب مرسومة بوضوح على وجه السيد آكيرا ويوكي يقول له شيء ما، رفعت رأسها وراقبت ريو، بدت تعابير وجهه عادية لكنها شعرت بأنه يجبر نفسه على جعلها كذلك، عندما وقفا في الرصيف أخرجت مفاتيح السيارة من جيبها وسألته بهدوء: "أقود أنا أم أنت؟"
"قودي أنتِ." أجابها وفتح باب الراكب واستقر بالداخل، دارت يومي حول السيارة وجلست خلف المقود، أحييت المحرك ودلفت إلى الشارع.
اتكأ ريو بجبينه على الزجاج وبدا شاردًا بداخل أفكاره، شعرت بالاِنزعاج لرؤيته هكذا لكنها لم تكن بمكانة تسمح لها بمواسته أو الاستفسار، لذا مدت يدها إلى المذياع وأغلقته.