بعد لحظات..سمعت هزان طرقات على الباب..مسحت دموعها و قالت" تفضل" ..دخلت أختها نازان ..جلست بجانبها على حافة السرير و قالت" أختي..حبيبتي.لا أعلم كيف قضيت تلك الخمس سنوات و لا كيف عشتها..لكن ما أعلمه جيدا أنك الآن هنا..في المكان الذي تنتمين إليه..لا أعتقد أن أبي سيكون ظالما حتى بعد وفاته..أظن أن الوصية س.." قاطعتها هزان" أنا لا أريد شيئا..أنا هنا فقط لأنني أردت أن أودعه..أن أراه للمرة الأخيرة..أن أكون بجانبه و هو يوضع في مكانه الأخير..تحت التراب..الوصية و الأملاك لا تعنيني..ما كان سيعنيني و سيفرق معي هو تصديق أبي لي..و عدم ظلمه لي..لو سمعني لمرة واحدة..لو ترجم حبه الكبير لي بثقة في و أنني لا يمكن أن أرتكب جريمة بشعة كتلك لكان عندها اختلف الأمر كله..هذا ما كان سيفرق معي فعلا..لو بقي حيا..لو قابلني لمرة واحدة..لو سمح لي بالدفاع عن نفسي..لو لم ينفني و يتبرأ مني و لم ينبذني..لكانت حياتي قد تغيرت..لكن..لا فائدة الآن من هذا الكلام" صمتت قليلا ثم نظرت إلى أختها و قالت" أريد أن أراه..هل مازال في غرفته؟" أجابت" نعم..انهم يجهزونه للدفن" تحركت هزان بسرعة..فتحت الباب و خرجت..أمام جسد والدها المسجى و الملفوف بالكفن الأبيض..وقفت هزان جامدة..تحملق فيه..ملامح وجهه باهتة و شاحبة..لا حياة فيها..جسم بارد و هامد..عيون مقفلة و شفاه مطبقة على بعضها..ارتعدت هزان بشدة و هي تراه في تلك الحالة..لقد تعودت عليه قويا..حركيا..نشيطا..مبتسما..رؤيتها له هكذا..مزقت أوصال قلبها..و زاد صوت كلماته الأخيرة المترددة في أذنيها من عذابها و حزنها..لامست يده و هي تقول" بابا..أنا هنا..ألا تريد أن تراني؟ ألن تفتح عينيك و لو لمرة واحدة لكي تنظر إلي؟ هل ستذهب و أنت غاضب مني؟ ألن تسامحني و تسمعني؟ ألن تعطيني فرصة للدفاع عن نفسي؟ أقسم لك أنني بريئة بابا..أنا لم أقتل أخي أوزان..لم أفعل ذلك..و مستحيل أن أفعله..انظر إلي بابا..اسمعني..أخبرني أنك تصدقني ..لماذا ستعاقبني بسماع كلماتك الغاضبة كآخر كلمات أسمعها منك؟ ألن تقول لي شيئا آخرا؟ هذا كثير بابا..لقد عشت خمس سنوات كمنبوذة..دون أهل أو سند..ألن تكلمني للمرة الأخير؟ قل شيئا..أرجوك"..
مررت هزان أصابعها للمرة الأخيرة على وجه والدها ..مسحت دموعها..ثم فتحت الباب و خرجت..رأت ياغيز يقف مع إيلكار..همت بالإبتعاد عنهما لكن إيلكار استوقفها بسؤاله " هزان هانم..هل أنت بخير؟" تجاهلت نظرات ياغيز و أجابته" ..أنا بخير" قال" بعد إذنك ..ستنطلق مراسم الدفن" هزت رأسها و لم تقل شيئا..صعدت إلى غرفتها..ارتدت فستانا قطنيا أ**د اللون يصل إلى ركبتيها و حذاء بسيطا يناسبه ثم انظمت إلى أفراد العائلة..في المدفن الخاص بعائلة شامكران..وضع أمين في قبره وسط حالة من الحزن و الصمت..وقفت هزان بجانب أختها نازان و سيفنش و ياغيز يتقبلون التعازي..بعض المعارف و الأصدقاء و الشخصيات المرموقة و الصحفيين كانوا متواجدين..بعد لحظات..انتهت المراسم و تحرك الجميع عائدين إلى القصر..هناك..توقفت سيارة تا**ي في المدخل..و نزلت منها فتاة في أوائل العشرين من عمرها..بشعر بني و عيون واسعة و بشرة بيضاء صافية..اقتربت سيفنش من الفتاة و عانقتها و هي تقول" ..ابنتي..هل رأيت ما حدث؟ لقد ذهب عمك أمين و لن نراه ثانية" ..تطلعت هزان بالفتاة..انها جيداء..الأخت الصغرى لياغيز..و التي كانت تزور أمها من فترة إلى أخرى ..كانت تقضي معظم وقتها في مدينة أنقرة حيث تدرس الهندسة الفلاحية..تعرفت اليها هزان في السابق خلال تلك السنة التي تزوجت فيها سيفنش من أمين..و كانت عندئذ تدرس في المرحلة الثانوية في معهد داخلي..كانت فتاة صامتة و متباعدة و انطوائية جدا..عانق ياغيز أخته(جيزام كارجا) و هو يقول" من الجيد أنك أتيتي أختي" أجابت" شكرا لك أخي" ثم التفتت إلى هزان و نازان و قالت" تعازي الحارة لكما..ليرحمه الله" اقتربت منها نازان و عانقتها فيما اكتفت هزان بمصافحتها..أخذت سيفنش بيد ابنتها و هي تقول" لن أسمح لك بالذهاب إلى أي مكان..ستبقين ها هنا معي" تابعت هزان ما يحدث بصمت يشابه صمت الأموات..كل ما تراه لا يعني لها شيئا..تشعر بالغربة رغم أنها في منزل والديها..فقدت كل احساس بالإنتماء منذ أن تعرضت في هذا المكان إلى أقسى درجات الظلم..تركت هزان القصر و خرجت لتتمشى بين كروم العنب..شعرت بشيء من الإرتياح و هي تستنشق الهواء النقي و تنظر إلى حبات العنب المختلفة الألوان..أخذت إحدى الحبات و وضعتها مباشرة في فمها..أغمضت عينيها و تلذذت بذلك الطعم المميز و الذي حرمت منه طيلة سنوات..سمعت صوتا مألوفا يقول" طعم بعض الأشياء لا يتغير أبدا..أليس كذلك؟" عبست ملامح هزان و هي تفتح عينيها و ترى ياغيز يقف أمامها..لم تجبه..بقيت تنظر إليه للحظات..ترددت كلماته الأخيرة في أذنيها" كاذبة..خائنة..كان يجب أن أصدق ما قاله الجميع عنك..أنا الأحمق..أنا الغبي..مالذي أنتظره من إمرأة قتلت أخاها الصغير لكي لا يشاركها الميراث..اذهبي..اخرجي من حياتي إلى الأبد" هزت هزان رأسها بعنف كأنما لتطرد تلك الكلمات القاسية..أمام صمتها و شرودها قال" لم تسنح لي الفرصة لكي أقدم لك واجب العزاء...بسلامة رأسك" ردت ببرود" شكرا" و همت بالإبتعاد عنه..استوقفها ممسكا بذراعها ..همس" أتعلمين..ظننت أن خمس سنوات ستكون كفيلة بجعلي أنسى ما فعلته..بجعل نيران قلبي تخمد و تهدئ..لكن لا..ذلك لم يحدث..أشعر أن كل تلك السنوات كانت تغذي نيران غضبي و تزيد من حقدي عليك..لماذا فعلت ذلك؟ و كيف استطعت أن تفعلي بي ذلك؟" انتزعت هزان يدها منه بعنف و هي تقول" لم تسمح لي بالدفاع عن نفسي منذ خمس سنوات..لم تسمعني..لم تصدقني..لم تعطني فرصة للشرح أو التوضيح..فلماذا أفعل الآن؟ ..افعل كما فعلت يومها..صدق ما رأته عيناك..و اكرهني حتى آخر يوم في حياتك..ذلك أفضل" تحركت مبتعدة عنه و هي تسمعه يقول بصوت عالي" هذا ما حدث أصلا..أنا أكرهك هزان شامكران..أكرهك كما لم أكره أحدا في حياتي" واصلت هزان طريقها دون أن تلتفت إليه..كانت تعلم أنه يكرهها..و أنه غاضب منها..و تريد للوضع أن يبقى هكذا..فهو الآن زوج أختها..و من الأفضل أن تظل علاقتهما باردة و بعيدة لكي لا يدخلا في دوامة هما في غنى عنها..
عادت هزان إلى القصر..حاولت جاهدة ألا تلتقي بأحد في طريقها إلى غرفتها..لم تكن قادرة على تجاذب أطراف الحديث مع أي من الموجودين..لن تكون قادرة على تقديم مواساة لأي أحد..فهي لم تحصل على المواساة و لا على الإهتمام منذ خمس سنوات..لا أحد فيهم يعلم بما عانته خلال تلك الفترة القاسية..لا أحد فيهم حاول أن يسأل عنها أو أن يتواصل معها..كانت تتلقى الصفعات المتتالية للحياة دون كلل أو ملل..و كلما تعب خد..جعلت الخد الآخر يتلقى الصفعة الجديدة..هكذا مرت الخمس سنوات..لذلك وجدت نفسها اليوم عاجزة عن تقديم ما لم يقدمه لها أحد..ففاقد الشيء لا يعطيه..فتحت باب غرفتها..و استلقت على سريرها..أغمضت عينيها و استسلمت للذكريات التي أخذت تتوالى عليها..ففي تلك الليلة..و بعد أن صفعها والدها و قام بطردها..حملت هزان حقائبها و خرجت..الساعة متأخرة..الجو ماطر و عاصف..لم تعرف كيف تتصرف و لا أين تذهب..في أطراف حديقة القصر..كان هناك منزل صغير تعيش فيه عائلة العم جنيد المتكونة منه و من زوجته السيدة زليخة و ابنهم كرم..كانت هزان تحب تلك العائلة جدا و تعتبرها جزءا لا يتجزأ من عائلتها الكبيرة..و كانت تربطها علاقة صداقة لطيفة ب كرم ..و لطالما كانت تلك الصداقة تسبب خلافا بينها و بين ياغيز الذي كان يغار عليها بطريقة جنونية..طلب منها أكثر من مرة أن تقطع علاقتها بكرم و أن تتجاهله لكنها كانت ترفض..قررت ليلتها أن تلتجأ إلى العم جنيد و عائلته إلى أن يحل الصبح و تذهب إلى أي مكان آخر..طرقت الباب..ففتح لها كرم..و ما ان رآها حتى سأل" هزان ..ماذا حدث لك؟" كانت ترتعد من شدة البرد و الغضب..أجابت بصوت مرتعش" أنا..آسفة..انا..أريد..أن.." قاطعها" تفضلي بالدخول" ..دخلت و وقفت للحظات أمام المدفأة..كانت تغلي من الغضب ..لم تكن قادرة على النطق بكلمة واحدة..نظر إليها كرم و قال" والدايا ليسا هنا..لقد استأذنا في الذهاب لزيارة عمي المريض..هل تحتاجين إلى شيء؟ هل أنت جائعة؟ هل تريدين التحدث؟" هزت رأسها بالنفي و ما ان فعلت ذلك حتى انهمرت الدماء بغزارة من أنفها و لوثت قميصها الأبيض الذي كانت ترتديه..انتفض كرم واقفا و ساعدها في الدخول إلى الحمام..حيث عالجت أنفها و طلبت من كرم أن يحضر لها قميصا من حقيبتها..نزعت هزان معطفها و قميصها و أخذت القميص من يد كرم الممتدة عبر الباب..رأت آثارا للدماء على رقبتها فانشغلت بمسحها بالماء فيما أخذ كرم ينظف الدماء من على الأرضية و نزع قميصه الذي تلوث أيضا..طرقات عنيفة على الباب أجبرته أن يفتح قبل أن يرتدي قميصه..كان ياغيز يقف أمامه..