الفصل الأول
ارتفع صوت نشيج بكاءها ليطغى على أصوات زقزقة العصافير، حاولت السيدة العجوز تجاهل الصوت والاستمتاع بالطبيعة الخلابة حولها، خرير ماء النافورة، هديل اجنحة العصافير وزقزقتها تطرب أذنيها.
مرة أخرى يقطع تأملاتها نشيج البكاء المتواصل، أخرجت تنهيدة بصبر أوشك على النفاذ ونظرت لمص*ر الإزعاج.
كانت فتاة تجاوزت العشرين ببضع سنوات، تجلس على الأريكة الخشبية المقابلة لها في الحديقة، وحولها كومة مبللة من المناديل المبللة بدموعها مخاط أنفها، الذي يشكل عزف منفرد خاص بعد نشيج بكاءها.
أخرجت العجوز تنهيدة أخرى ونهضت من مكانها واتجهت إليها.
كانت تتلفت حولها تبحث عن منديل جديد بعد نفاذ علبتها، فوجدت اليد التي تمتد لها بمنديل، أمسكته وهي تتمتم بكلمات شكر مقتضبة، ظنت العجوز أنها سمعتها.
جلست جوارها عدة لحظات ثم قالت ضاحكة:
ـ كذب أم خيانة؟؟
رفعت الفتاة عيناها بذهول، ثم أومأت برأسها وهي تبدأ وصلة جديدة من البكاء:
ـ كذب وخيانة
ردت العجوز ببساطة:
ـ هل اعتذر؟؟
ـ هتفت الفتاة بصوت معصور بالبكاء:
ـ لم يعترف حتى بخطأه
زمت العجوز فمها:
ـ يظن نفسك ملاك
صرخت الفتاة بانهيار:
ـ بل هو سيد الشياطين
ـ امممم وتطنين نفسك الملاك
شردت الفتاة في ملاحظة العجوز وسألتها:
ـ ماذا تقصدين؟
تجاهلت سؤالها بسؤال:
ـ هل ترغ*ين باستعادته؟
أومأت الفتاة بحذر فأكملت العجوز:
ـ اسمعي حكاية تاج محل ونوراي
سألتها الفتاة:
ـ ومن هما؟
أمسكت العجوز بيدي الفتاة تربت عليهما:
ـ ملاكان ضحيتا بكل شيء من أجل الحب
ـ هل تزوجتا من تحبان؟
ضحكت العجوز قائلة:
ـ بهذه السرعة ترغ*ين بالنهاية ولم نبدأ بعد الحكاية
ـ احكي لي أرجوك ماذا فعلا الشيطانان معهما
ـ حسنًا سأحكي لك، أول حكاية هي حكاية تاج محل..
الحكاية الأولى
الشهد المر
....................
ـ إلي السيد رفاييل ساباتيني
قد تندهش سيدي من زوارك في هذه الليلة العاصفة ولكني أعلم أنك متي ما تطلعت في وجوههم الصغيرة البريئة ستجرفك عاطفة الأبوة وتدرك أنهما طفلاك,لا تحاول أن تتذكرني فلست المرأة التي يتذكرها رجل مثلك ولولا خاتمك لكان الله وحده يعلم مصير هذان الطفلان ..عسي الله أن يلهمني الصبر علي فراقهما وعزائي الوحيد أنهما معك أنت والدهما, وأرجو أن يسامحاني ويلتمسا لي العذر ولي رجاء أخير واعتبره توسل أن تخبرهما أنني لم ولن أحب مخلوق كما أحببتهما ...
التوقيع
امرأة لن تذكرها أبداً
فوق هذه الأرض العتيقة عاشت أجيال وأجيال ودفن في باطنها أجيال وأجيال... تاركين خلفهم صروحاً تحكي أمجادهم, وتروي بطولاتهم التي خطت بدماءهم قبل سيوفهم... ثم علموها لأولادهم, وأولاد أولادهم ...حتي آخر جيل.. فلم يكن ميراثهم مجرد آراضي شاسعة وقصور تحولت لمتاحف تروي تاريخها المجيد ولكن ميراثهم كان أيضاً كبرياء وعظمة جدودهم, وحبهم العميق لأرضهم.. مص*ر فخرهم وعزتهم وشرفهم... في زمن اختلفت فيه القيم والمبادئ عن أي تعاليم قديمة أو حديثة, كان ذلك القصر العتيد من ضمن الممتلكات التي احتفظت بها العائلة وحافظت عليه من الإنهيار بفعل الزمن, فظل محتفظاً برونقه كما كان في القرن الثامن العشر وقت بنائه.. حتي يهئ لزائري القصر أن سكانه سيستقبلونهم بأزيائهم العتيقة المنتشرة في ذلك الوقت من القرن الماضي, ولكن الواقع كان مختلفاً تمام الإختلاف فالأزياء التي تحرص عليها العائلة من أرقي وأفخم خطوط الموضة الحديثة سواء من السيد ليوناردو سباتيني الذي رغم الشعر الأشيب قد غزا رأسه بشكل أصبح لا يستطيع معها إخفاء سنوات عمره الستون, وهو رغم أناقته مايزال متمسكاً ببعض الأشياء القديمة التي لا يتخلي عنها.. خاصة تلك الساعة الذهبية الكبيرة التي تتدلي سلسلتها الذهبية الضخمة من جيب صديريته الصغير, بالإضافة للمونوكل الذي يعلقه بحرفية فوق أرنبة أنفه بين الحين والآخر... كلما آراد أن يطالع آخر الأحداث المحلية والعالمية في الجريدة... ثم هناك السيدة ساباتيني, وهي آخر من يتمسك بأي تقليد بالي عفي عليه الزمن... فهي عضو نشيط في غالبية الجمعيات الخيرية الحكومية والأهلية, ومنظمة دؤووبة لمعظم الحفلات الخيرية بهدف جمع التبرعات لليتامي والمساكين... لتشغل الكثير من أوقات فراغها الذي أصبح كبيراً جداً خاصة بعد أن شب الأولاد وأصبحوا رجالاً وعرائس... فقد تزوجت ابنتها جيانيتا منذ شهور وسافرت مع زوجها لبلد عربي واصبح ليون الصغير في السنة الأخيرة من كلية الحقوق... رغم طيشه وعدم تحمله لأي مسؤولية لتصرفاته, كما أنه مصر علي مصاحبة العامة من الناس... مما أثار استياء والديه, وعدم رضاهما المستمر بشأنه...على الع** من أخيه الكبير رفاييل... فخر عائلة ساباتيني... فقد ورث عظمة أجداده عن حق في الهيئة والملامح القوية وعيون الصقر الحادة ...كما أنه يملك شخصية يذوب أمام سطوتها الرجال كالثلج في حضور النار, مما أهله ليكون كاتباً من الطراز الأول, ورواياته العديدة عن الحب والرومانسية سببت له شهرة واسعة خاصة مع النساء مما اضطره لإخفاء هويته وأصبح يوقع بالحروف الأولي فقط علي كل رواية من رواياته "R.s "
انفرد في غرفته الضوئية ـ حيث يحلو له الكتابة دائماًـ بهدوء وبدون إزعاج حتي لفت اتنباهه تلك الحركة الغريبة من خلف الستائر... صرخ بصوت قوي مدعي الغضب:
ـ ماريا ..ماريا
هرولت الخادمة السمراء السمينة ملبية نداء سيدها بلهفة... لاهثة وكتل اللحم تهتز مع كل حركة من حركاتها.
ـ هل ناديتني سيد ساباتيني؟
ـ نعم ماريا ...لقد هربت الفئران... ألم أحذر الجميع من دخول مكتبي... لأنني مشغول , والآن من فضلك أعيديهما.
تلفتت حولها بيأس
ـ أحقاً سيدي أنا حقاً آسفة منذ لحظات فقط كانا معي... لست أدري كيف غافلاني... هذان الش*يان سيتسببان لي بنوبة قلبية..
أشار ب**ت للستائر فأسرعت نحوهما, لترفع أطرافها عن الأرض, وتكشف عن مخبأ الصغيران الذان حدقا بها بعيون ملتمعة تتقافز منها شقاوة الشياطين, وبراءة الملائكة, وقبل أن تمسكهما ركضا من أسفل أقدامها صارخان مطالبين بالحماية, ركضا نحو الرجل النافذ الصبر الذي أمسك كل واحد منهما بأحد ذراعيه
ـ أبي ..أبي لا تتركها تأخذنا أرجوك
صرخ بصوت عالي ليسمعاه:
ـ إهدآآآ الآن ..مايكل ..ميلاني ..ألم أحذركما من قبل من الدخول إلى مكتبي... وألا تزعجاني وأنا أكتب
أطرق الطفلان رأسيهما بابتسامات متخابثة... ثم هتفت ميلاني مدعية الندم
ـ أنا آسفة حقاً يا أبي, ولكن مايكل دفعني رغماً عني حتي يخيف ماريا
صرخ مايكل لاهثاً مدافعاً عن نفسه:
ـ لا...لا تصدقهاظ... لقد كانت فكرتها هي... أيتها الكاذبة
ـ بل أنت الكاذب
ـ بل أنت
صرخ الأب متوعداً:
ـ توقفا أنتما الإثنان ... لن أسمح بأي تجاوزات أخري منكما... ماريا اصحبيهما لغرفتهما بعد أن يتناولا طعامهما... إن لم يتحسن سلوكهما, لا أريد رؤيتهما علي العشاء... هل كلامي واضح... أيها الش*يان تفضلا كليكما, وإياكما أن اسمع أنكما عصيتما أوامري..أو عبثتما مع ماريا...
راقبهما ب**ت وابتسامة تكاد ترتسم على شفتيه الصارمتين.. لتبدد تجهمه, ولكنه تماسك حتي انصرفا تماماً... تسائل تري كيف كانت حياته ستكون من دون هذان الش*يان ال**بثان...وومضت في ذهنه ذكري قديمة ـ في ليلة عاصفة ـ منذ خمس سنوات تقريباً... عندما علت طرقات ملحة علي الباب ظهرت واضحة من زئير الرعد المصاحب للأمطار العاتية تلك الليلة, أسرعت ماريا بعد أن تبادلت العائلة علامات التعجب.. من هوية زائر منتصف هذه الليلة العاصفة... أشاروا لها لتفتح الباب... عادت بعد لحظات تحمل بيدها سلة كبيرة من الخيزران... وضعتها علي الأرض, ثم كشفت عن الغطاء... لتصرخ أخته جيانيتا باستغراب ودهشة:
ـ يا إلهي رفاييل... إنهما طفلان
وأسرع الجميع ليتطلع داخل السلة ليتأكدوا من الخبر العجيب....راحوا يحدقون ببعضهم في ذهول صامت حتي صاح ليون:
ـ أنظروا ....هذه رسالة!!!
مد يده وأعطاها لوالده, فوضع المونوكل علي أرنبة أنفه, وفض الرسالة... ولكن شئ معدني سقط منها... فصاحت الأم بتساؤل:
ـ ما هذا؟؟؟ ..
انحنت جيانيتا والتقطته وهي تهتف بحذر:
ـ إنه خاتم... وهو يشبه خاتمك رفاييل...
شهقت الأم؟؟؟ ولكن الأب حذرها بنظراته, ثم بدأ بقراءة الرسالة:
ـ إلي السيد رفاييل ساباتيني...
قد تندهش سيدي من زائريك في هذه الليلة العاصفة, وقد لا تتذكر.. حتي عندما تري خاتمك, وقد تظن أنني امرأة مخبولة سرقته أو وجدته... وتريد تأكيد روايتها بوجوده... ولكني واثقة أنك متي ما تطلعت في وجوههم الصغيرة البريئة, ستجرفك عاطفة الأبوة... وتدرك أنهما طفلاك... أنا لا أطلب منك أن تتذكرني, لأني أعلم أنك لن تفعل...حتى لو حاولت... فأنا لست بالمرأة المثيرة التي يتذكرها رجل مثلك... بالإضافة لأن لقائنا كان في غاية الغرابة, وربما لولا خاتمك, لكان الله وحده يعلم مصير هذان الطفلان, و لولا رقة حالي والصعوبة البالغة التي أواجهها في إعالة نفسي... ما فكرت ولو للحظة بالتخلي عنهما ..عسي الله أن يلهمني الصبر علي فراقهما, وعزائي الوحيد أنهما معك... أنت والدهما, لقد سمحت لنفسي بممارسة آخر حقوقي كأم لهما... وأطلقت عليهما مايكل وميلاني .... تخليت عنهما بمحض إرادتي.. فإن رأيت أني تجاوزت حدودي بتسميتهما فاصنع ما تراه مناسباً وأرجو أن يسامحاني ويلتمسا لي العذر
ولي رجاء أخير واعتبره توسل أن تخبرهما أنني لم ولن أحب مخلوق كما أحببتهما ...
التوقيع
امرأة لن تذكرها أبداً
عم المكان سكون رهيب بعد أن انتهي السيد ساباتيني الأب من قراءة الرسالة وتطلع الجميع في الوجهين الصغيرين الذان بدآآ بالتململ فلم يتجاوز عمريهما الشهران علي ما يبدو
**ر ال**ت صوت السيدة ساباتيني الساخط:
ـ ما هذا الهراء؟ هل يصدق أحد هنا كلمة واحدة من هذه الرسالة الساذجة, والقصة الملفقة التي لا يصدقها طفل صغير في رياض الأطفال, رفاييل يا إلهي إنك ساهم إياك أن تفكر بأن يكون لك صلة بهذان اللقيطان:
صاح ليون يهدأها:
ـ أمي بهذا الخاتم كانت هذه المرأة تملك قضية قوية... الحكم فيها لصالحها مائة بالمائة, وكانت تملك قصة لو قدمتها للصحافة لما أمكننا سد أفواههم القذرة لسنوات, وهي لسبب أجهله... تخلت عن كل هذا, وقدمتهما لنا مع دليلها الوحيد... ما معني هذا ؟
هتفت جيانيتا:
ـ المسكينة, أي خيار هذا الذي وضعت فيه لتتخلي عن فلذات أكبادها مقابله
صاحت الأم بنزق:
ـ لاشك أنها ع***ة سوقية ولا تستطيع ممارسة هوايتها بوجود هذين اللقيطين, فرأت أن تتركهما.. وبدلاً من دار الأيتام قررت أننا قد نصدق قصتها الخرافية ونتقبل وجودهم بمنتهي البساطة, ياللسذاجة
قال الأب أخيراً بتنهيدة مخاطباً ابنه البكر
ـ رفاييل مابك لما لا تقول شيئاً؟
رفع رأسه أخيراً ليحدق بالجميع ثم رفع الخاتم يتأمله بعمق قائلاً
ـ هذه المرأة كاذبة, أنا أذكر تلك الليلة, وهي حقاً كانت غريبة كما تقول وأذكرها... رغم أني لا أتذكر ملامحها جيداً... ولكنني بالفعل أعطيتها خاتمي, فلقد كانت....خائفة ومذعورة و....هذا كل ما أذكره عنها.... منذ تلك الليلة لم أفكر بها حتي الآن... لسبب ما هذه الليلة محيت من ذاكرتي, ولكن المؤكد أنني لا أهب خاتمي لامرأة إلا لسبب وجيه, وهذا يعني أن هذان الطفلان هما .....لي, علي الأرجح .
ورغم هذا الاعتراف الفاصل ـ إلا أن السيد ساباتيني الأب لم يقتنع ـ ولكنه التزم بال**ت أمام اعتراف ابنه علي مضض .
ـ رفاييل ..رفاييل, رواية جديدة تلك التي تشغل تفكيرك؟
ـ بل قديمة يا أخي المزعج... أتذكر يوم وصول مايكل وميلاني, مازلت أفكر بالأم!! فقد ظننت أنه عندما يمر وقت كاف ستعود مطالبة بولديها, أو بالمال مقا**هما
غمغم ليون بحيرة:
ـ نعم غريب فعلاً أمر تلك المرأة, ربما تكون قد تزوجت ولا تريد من يذكرها بالماضي الأليم
ـ ليون فكر معي... مثل هذه المرأة لو أرادت الزواج... من في نظرك أصلح مني.. أنا والد أطفالها, وبهذا الثراء والأصل العريق... لو كانت ظهرت بحجتها... أما كانت ستحظي بأفضل حياة... حتي ولو باعتبارها أم أولادي
رد ليون بخبث:
ـ هل مازلت مقتنعاً بهذه الفكرة رفاييل, أنك أبا هذان القردان... أنت حتي لا تذكر الليلة التي تسببت بمجيئهما للحياه .
تن*د رفاييل بضيق:
ـ والأكثر عجباً أنني عندما ذهبت للمكان الذي التقينا فيه لم أذكرها أيضاً.. ولا حتي أي تفاصيل عنها... إن كانت طويلة... قصيرة... سمراء.. بيضاء, أحياناً أكاد أجن من التفكير في هذا الأمر
صاح ليون ضاحكاً:
ـ أو قد تكون عجوز شمطاء عرجاء
غمغم رفاييل:
ـ قد أكون أفرطت في الشراب تلك الليلة ولكنني لا أعتقد أنني كنت مغيب لهذا الحد
عاد ليون ليحدث أخاه بجدية:
ـ لو ظهرت الآن هل تتزوجها... مهما كانت؟
ـ انظر لمايكل وميلاني وأجبني أنت.. ماذا كنت ستفعل لو كنت مكاني؟
ـ أنت علي حق, ولو كانت الشيطان نفسه... ما رأيك أن تكتب هذه الحكاية في روايتك القادمة ...ربما تكون إحدي قارئاتك المفتونات, وعندها ستعرف مشاعرك تجاها وتتشجع على التقدم والإعلان عن نفسها
رد رفاييل بضيق:
ـ وماذا لو لم تكن من المتابعات لرواياتي, أو حتي تعرف القراءة
صاح ليون ضاحكاً:
ـ إذن سيوافقني قرائك أنك لم تكن مخموراً تلك الليلة... بل ميت!!
ركض ليون مسرعا قبل أن يصب عليه أخاه جام غضبه
عاد رفاييل يدفن نفسه بين أوراقه وأفكاره, ثم أخرج تلك الرسالة القديمة ليعيد قرائتها متسائلاً بحيرة:
ـ لماذا كتبت هذه الجملة "أنا لا أطلب منك أن تذكرني" "أنا لست بالمرأة المثيرة التي يذكرها رجل مثلك" ماذا تعنين..هل أنت ماكرة لهذا الحد..أم أنك بريئة لتلك الدرجة...
يا لها من شخصية متناقضة تتصرف في البداية كفتاة ليل... لترتمي في فراش رجل لا تعرفه وتهبه نفسها بخاتمه ثم تحمل بأطفاله شهوراً... ربما ظنته طفلاً واحدة ستقوي علي تربيته, ثم فوجئت أنهما اثنان... ولم تساعدها ظروفها علي الاحتفاظ بهما, ولا شك أنها أجبرت علي التخلي عنهما, فلماذا لم تطالب بالمال بدلاً من التخلي عنهما... ربما تخشي أن أتعرف عليها لو رأيتها... أم أنها لا تحمل أي من مشاعر الأمومة.
أحقاً لا تحمل تلك المرأة مشاعر الأمومة... أيعقل ألا يحترق كبدها كل ليلة منذ تلك الليلة من خمس سنوات... ألا يحترق ويتحرق شوقاً لوليديها, وأي أم لا تتمني ضم فلذات أكبادها في كل لحظة من سنوات عمرهم ولا يغمض لها جفن إلا وهما نائمين هانئان خماص البطون آمنين بأنفاس أمهم ودقات قلبها تدق في صدورهم وأي شئ في الدنيا قد يجبرها علي التخلي عنهما... إلا لو كان الموت هو البديل الآخر للاحتفاظ بهما .
في مكان ما من تلك الأرض الشاسعة المترامية الأطراف المحيطة بقصر ساباتيني كان يقبع كوخ خشبي صغير خافي عن العيون بين دغل كثيف من الأشجار الباسقة.. كان فيما سبق مخزناً للأخشاب, ولكنه تحول علي مدي طويل وبصبر وأموال جمعت قرشاً قرشاً..حتى اقترب لما يشبه البيوت المعروفة, يأوي تلك الساكنة الهادئة المسترخية علي مقعدها المتأرجح وسط حديقة صغيرة من الزهور زرعتها بنفسها أمام كوخها الصغير, ولكنها لم تري أي جمال من الطبيعة التي حولها.. فقد كانت عيناها مسمرتان في اتجاه واحد... وعلي مكان بعينه يظهر من بعيد من بين هامات الأشجار في السفح, كأنه قلعة مسحورة وسط الغيوم, من يراها لا يصدق أن خلف هذه الملامح الهادئة شخصية قوية وعزيمة لا تلين, ولا يصدق أن تلك العيون التي تشبه العسل الصافي في نقائها... وصفائها والشعر ال**تنائي الناعم بذلك الجمال الأخاذ يتناسب مع جسدها الفارع المتناسق, كل هذا الجمال يش*هه تلك الساق التي يلتف حولها الجهاز الحديدي الثقيل, ليمكنها من تقويمها والسيرعليها, تلفتت حولها بملل وعيون مغرورقة بدموع الاشتياق وحرقة الفراق, ثم نهضت لتقف علي قدمها السليمة أولاً, ودخلت كوخها تعرج بخطوات بطيئة, ورغم صغر حجمه ولكنها حولته لمكان مريح للغاية... غرفة نومها الوحيدة بالكاد تتسع للفراش الصغير.. وجهزت جانباً من الكوخ ليتحول بلمساتها لمطبخ, والزاوية الأخري جوار النافذة المطلة علي القصر وضعت مكتبها وفوقه جهاز الكمبيوتر الخاص بها والتليفزيون, وأمامهما مقعد وحيد وثير تستخدمه في الأيام الحارة كفراش للنوم.
اتخذت مكانها أمام الكمبيوتر تنهي أعمالها المعلقة وترسلها بالفا** لتتسلم الأجر علي أعمالها فيما بعد عن طريق حسابها في البنك, وكل هذا يتم من خلال هذا الجهاز الذي أصبح مص*ر رزقها الوحيد بعد أن احترفت العمل عليه.
قاطع خلوتها صوت تلك الخطوات التي تقترب من منزلها لتثير بقلبها الخوف والقلق حينما تبعها صرير الباب المزعج الذي أكد لها أن هناك من يقتحم خلوتها...أدارت بصرها برهبة تخشى ..كل شيء... تخشى عودة الماضي ليعذبها... وتخشى ألا يعود... ولكنها الآن تخشى ممن يقتحم خلوتها مثيراً دقات قلبها رعباً تكاد تقفز من حلقها واتسعت عيناها لترى من القادم .
الأحداث القادمة من الشهد المر
ـ حتى اللصوص يخافون الاقتراب من مقبرتك هذه, عزيزتي ....
ـ تتقاسمين طعامك مع كلب هل جننت يا تاج
ـ تاج حبيبتي إن لم تستطيعي الحياة مع أطفالك فعلاً فاتركي حياة الخيال هذه والعيش مع الأشباح وعيشي حياتك التي لم تسعدي بها حتى الآن وتعرفي علي من يستحق قلب كبير كقلبك.
ـ كريس هذه ليست المرة الأولي التي تذهب فيها للرقص مع لورينا ولكنها المرة الأولي التي تفكر فيها بأختك المسكينة المعزولة عن الحياة, لماذا ؟ أنا أتسائل!!!
ـ لن تستطيعي حبسها في شرنقتك للأبد لابد أن تري الحياة التي حرمتها منها لإعاقة ليس لها أي ذنب بإصابتها بها ولو كانت ذاكرتك بجودة رغبتك الحامية لها لما أهملت بعلاجها حتى أصبح عجزها دائم
اختنق ص*رها بألم مبرح وبالكاد حافظت علي دموعها مخفيه خلف قناع الجمود ولكن عندما رأته بعد لحظات يراقص فتاة أخرى لم يحزنها هذا التصرف إلا عندما لاحظت همساته في أذنها وهو يشير نحوها والفتاة تتابع إشاراته وفجأة يغرق كلاهما في الضحك, شعرت وكأن كل العيون حولها تحدق بها وتضحك عليها والجميع يشير نحوها فتملكها ذلك الإحساس فتمنت وكأنها لم تولد قط حتى لا تعيش لحظة المهانة هذه أبداً .
..............................................................
استطاعت أخيراً استطاعت استجماع شجاعتها لتستعد بالهجوم على مقتحم خلوتها... حينما أنار الضوء ملامح القادم الجديد بعد لحظة كادت تتوقف معها دقات قلبها.... رمشت بعينيها حتى تعتادا على الضوء... فما رأت إلا جسد ضخم صنعته الظلال وخيالها الخصب
ولم يكن سوى صديقتها الوحيدة علي وجه الأرض
صرخت بسعادة تستقبل صديقتها التي هرعت إليها لتحتضنها بشوق:
ـ سونيا.. لقد أخف*ني... ولكن من غيرك سيزورني
غمغمت صديقتها بعتاب:
ـ حتى اللصوص يخافون الاقتراب من مقبرتك هذه, عزيزتي لم أسمع عنك منذ فترة طويلة حتى لم تردي علي مكالماتي
ـ معذرة يا صديقتي فأنا في مزاج سيء هذه الأيام
نظرت سونيا حولها متسائلة بدهشة:
ـ ومن يا تري من ساكني هذا القبر السبب في استياء مزاجك... هذا الجهاز الأ** الذ تفنين أمامه زهرة شبابك.... أم ذلك المقعد... أم كلبك المتوحش ؟
صاحت بانزعاج:
ـ لا تقولي عنه كلب... اسمه دافي
ـ أه دافي..عذراً... حسناً وأين هو ذلك الدافي لما لا أراه؟
ـ سيعود بعد قليل من جولته الصباحية ....لن تصدقي... لقد اصطاد لي أمس بطة سمينة تقاسمناها سوياً
صرخت سونيا باحتجاج:
ـ تتقاسمين طعامك مع كلب هل جننت يا تاج؟
غمغمت بأسي:
ـ نعم... ربما هذه هي المرحلة التالية التي سأنتقل إليها.... "الجنون"
خفت حدة نبرتها وهي تهمس لصديقتها بعد أن ركعت أمامها.... وأمسكت بيدها محاولة إقناعها
ـ صديقتي العزيزة... الحل أكثر بساطة من أسوار كل هذه التعقيدات التي سجنت نفسك داخلها
دفعتها تاج وسارت مبتعدة عنها تعرج لغرفتها مسرعة.... فتحت الباب لتظهر جدران الغرفة مغطاة بكاملها بالمئات من الصور لطفلين في مراحل عمرهما المختلفة, أخذت تتأمل الصور بنهم واشتياق حتى أمسكت سونيا بكتفها من الخلف وكأنها تهدهدها
ـ اذهبي إليه... لن ينكر عليك حقك في رؤيتهما وضمهما
أطرقت رأسها بيأس متمتمة بصوت مخنوق:
ـ لا أستطيع.... لقد تخليت عنهما بمحض إرادتي... أي أم أنا؟ ربما تساوره أسوأ الظنون بي
نهرتها سونيا بحدة:
ـ كفي عن ت***ب نفسك... لم يكن بيدك حل آخر وإلا قتلهما البرد والجوع... ألا تذكرين حالتك وقتها... مفلسة معدمة لم تملكي أي فرصة في الاحتفاظ بهما
تن*دت بحزن:
ـ نعم... ولكن قدرتي علي الاحتمال نفذت ولم أعد أقوى علي البعاد عنهما أكثر
هزت سونيا رأسها بأسي:
ـ ليتك استمعت لرأي وذهبت معهما... لقد سمعت الكثير عن هذه العائلة ...القسوة ليست من طبعهم كانوا سيترفقون بك
ضغطت تاج علي أسنانها بعصبية وحدة:
ـ مازلت لا أستطيع النظر في المرآة دون أن أحتقر نفسي... فكيف أطالبهم بأن يغفروا لي ما لن أغفره لنفسي.
هتفت سونيا باستياء:
ـ حتى بعد ما قاسيته من عذاب طوال هذه السنوات واحتمال إهانات عائلتك, واحتمال فترة الحمل العصيبة, وأنتِ بحالتك هذه ثم تخليك عنهما لمصلحتهما وحرمان نفسك منهما للأبد... كل هذا العذاب ألا يساعدك على الغفران... لما لا ترحمي نفسك من ت***بها بكل هذه القسوة
استدارت بمقعدها الدوار أمام الكمبيوتر وفتحت ملفات الصور واستعرضتهم لصديقتها
ـ انظري سونيا هذه هي آخر صورهما كانت بالأمس فقط ...أنظري ما أجملهما... غداً سيتمان سنتهما الخامسة... لابد أن والدهما يعد لهما حفلة ضخمة
همهمت سونيا محدقة بالصور المتتالية:
ـ أوه ما أجملهما... ميلاني تبدو ش*ية, والولد يبدو مسالماً... كأمه الطبع, لم تخبريني قط كيف تتمكنين من التقاط كل هذه الصور لهما من داخل أسوار القصر المنيع
تمتمت تاج بفخر وهي تلتهم صور أطفالها بعينيها
ـ حول أسوار القصر أشجار عالية... أحدها ذات أفرع قريبة من قمة السور أتسلق عليها وأختبئ بين فروعها, وألتقط ما أشاء من صور لهما أثناء حصة اللعب اليومية المقررة لهما
صاحت سونيا بدهشة:
ـ تتسلقين الشجرة... ولكن كيف ألا يعيقك ذلك الجهاز الحديدي حول ساقك؟
أجابت تاج بفخر:
ـ أيتها الذكية ...بالطبع أقوم بخلعه أولاً, وبعدها أتمكن من رفع نفسي بسهولة, هما طفلاي ولو كانا يسكنان القمر لما ادخرت وسعا للوصول إليهما.
ـ يا الهي إنك حقاً جبارة.. ولكنني لا ألومك... فهما أطفالك... ولكن عزيزتي إلى متى ستستطيعين الاستمرار علي هذا النحو, متى ستعودين لممارسة حياتك الطبيعية؟.