الفصل الأول
كان المطر ينهمر بشدة على المظلات السوداء التي ارتفعت فوق الرؤوس المطرقة لتحميها من زخات المطر والتي يبدو أنها قررت هي الأخرى أن تعلن الحداد مع المعزيين المتراصين بوقار احترام الموت حول القبرين المفتوحين استعداداً لاستقبال نعشيهما المزدانين بالورود.
بعد أن أنهى الشيخ آيات القرآن الكريم وصدق, سمعت تمتمات التصديق شبه خافتة بينما ارتفع نشيج بالبكاء الحارق عندما حان الوقت ليستقر الموتى في مثواهم الأخير, ازداد التوتر بين الحضور عندما علا صراخ الفتاة وهي تندفع نحوهم تصرخ بصوت هستيري:
"ماما, بابا بلييييييييييييز ما تسيبونيش لوحدي... ليه؟... ليه سبتوني لييييييه؟"
جذبتها الأيادي وراحت التمتمات والعيون الدامعة تعلو بالمواساة:
"اصبري يا بنتي... هيدا ابتلاء من ربك استغفري الله يا حبيبتي"
شهقت فريدة بصوت مسموع والتراب ينهال عليهما ثم حدقت بذهول بالوجوه الكثيرة حولها, بعضها تحجرت الأحاسيس داخل أعينهم الزجاجية, وبعضهم ترقرقت دموع الشفقة على اليتيمة المسكينة قبل أن يبادرون بالتراجع والانصراف.
لقد انتهى كل شيء, لقد ذهبوا واحداً تلو الآخر, ولم يبق لها أحد, ستغدو وحيدة في هذا العالم الكبير, لقد رحل أبواها, قتلا في حادث, وها هما يرقدان تحت التراب الأمريكي, غريبين كما عاشا طوال ل عمرهما غريبين.
ارتجفت عندما شعرت بهزات على كتفيها وصوت صديقتها الوحيدة راما تحدثها بلكنتها الشامية:
"فريدة... يلا حبيبتي كل المعزيين راحوا وما ضل حدا إلا نحنا"
بالكاد طاوعتها قدميها على الابتعاد ورافقت صديقتها وهي تودع والديها بنظراتها الملتاعة الوداع الأخير.
**********************
بعد مرور شهران....
"فريدة, شو بك؟ من مين هالرسالة؟"
شقت الرسالة بعصبية وهي تصيح بدموع حارقة:
"ده عمي العزيز باعت لي عاوزني أرجع لمصر...لأ ده بيأمرني!!.. هو فاكر نفسه مين؟"
عضت راما على شفتيها ثم جلست جوار صديقتها تمسك بيديها قائلة بنبرة حنون:
"فريدة, أنت عارفة منيح قدايشني بحبك وانك أكتر من أخت بالنسبة لإلي"
هزت فريدة رأسها بتفهم..
"أكيد يا راما, الأمر ده مفروغ منه"
تن*دت راما بزفرة قوية:
"أنا وافئت أعيش معك هون ببيت أهلك لحتى تدبري حالك, أنت بعدك شابة صغيرة, لساتك ما نهيتي تعليمك الجامعي, وما بتملكي أي مال, حتى هيدا البيت, مرهون للبنك وبدنّ اياكي تخليه في ظرف شهر, هيدا غير الديون المستحئة على بيك واللي بدأ الداينين يطالبوكِ فيها"
استلقت فريدة على فراشها قائلة بحنق:
"كل يوم بتكرري نفس الكلام... أنا عارفة كل اللي بتقوليه كويس...و بعيشها يوم بيوم من ساعة بابا وماما ما اتوفوا, وما عرفش أعمل إيه, مافيش حل إلا إني أدور على شغل.... راما بتهزي راسك بأسف ليه؟"
"فريدة حبيبتي, أنا أكبر منك بكام سنة اسمعيها مني خيتي, أمريكا مش البلد اللي ممكن تلبق لمخلوئة صغيرة ووحيدة وساذجة متلك"
شهقت فريدة وهي تعتدل في جلستها باستنكار:
"بس دي البلد الوحيدة اللي بعرفها, ومش بعرف وطن غيرها, أنا جيت مع بابا وماما وعمري تلات سنوات, ومن يومها مشوفتش مصر إلا من خلال الصور والانترنت, مش ممكن أفكر أعيش هناك"
تن*دت راما وهي تذكرها:
"بس, ميراث بيك متل ما فهمت منك هونيك بانتظارك لتستلميه, هونيك بتقدري تكملي تعليمك وتعيشي في مستوى يلبق بسليلة عائلة الهواري العريئة بصعيد مصر, مش هيدي كلماتك اللي كنت بتفتخرين فيها"
ندت عن فريدة رنة استهزاء ساخطة:
"أه ايوة طبعاً.. ميراث كبير مرهون بجوازي من ابن عمي يزيد الهواري!! علشان يضمني لقائمة جواريه, التسول أحسن من إني أتجوز بالطريقة المتخلفة دي, بالإضافة لـ.. أنت مش عارفة, في مصر العريس يتوقع أن تكون عروسته عذراء, وزي ما أنت عارفة هي دي مشكلتي اللي بحاول دايماً أنساها, بس الرجل الشرقي حتى لو كان ابن عمي مش هينسى حقه الطبيعي مهما كانت ظروفي اللي حصلت لي في الماضي"
هزت راما رأسها بأسف:
"بتذكر إن مشكلتك هيدي هي سبب تعارفنا, أنتِ أررت من سنوات إن مافي رِجّال راح يلمسك, وأنت مع الأسف مريضة بحب الأطفال, بتتذكري لما كملت عمرك التمنتآش, وصار إلك الحق بالتصرف بحالك, واجيتي لي بالمعمل, وطلبت نعمل لك عملية تلقيح صناعي لتخلفي ولاد بدون ما يلمسك رِجّال!!"
ضحكت فريدة بمرارة:
"أيوة, فاكرة ويومها أقنعتيني إني أستنى لما يوصل سني خمسة وعشرين, أكون أنهيت تعليمي وحصلت على وظيفة"
**تت فريدة ثم نظرت لصديقتها شذراً وأردفت بلهجة حادة مداعبة:
"أنت شريرة يا راما, بعد الحادثة دي بسنة اعترفت لي أنك كنت بتتندري بحكايتي مع أصدقائك في المعمل, وأنتم بتتخيلوا منظري لو جبت طفل ز**ي أو أسيوي بطريق الصدفة"
غرقت راما بالضحك حتى دمعت عيناها:
"هيدا صحيح, ما كنت بتخيل بنوتة بسنك, تسوي هيك أبداً"
سرحت فريدة بخيالها:
"مع الأسف لسة هو ده الحل الوحيد بنظري علشان يكون لي طفل ومافيش حل غيره, مش ممكن أتحمل رجل يلمسني لمجرد إني عاوزة طفل, المسألة دي منتهية بالنسبة ليا"
رددت راما بمكر وعيناها تدوران بخبث:
"يعني لساتك م**مة تعملي عملية التلقيح الصناعي هيدا بدلاً من..."
احمر وجه فريدة بقوة وأمسكت الوسادة مهددة صديقتها التي أدركت مؤخراً نواياها بعد أن تلقت أول رمية موفقة لتصطدم برأسها, فأمسكت راما بالوسادة الثانية واستعدت لحرب الوسائد, وبدأت المعركة, ولم تنتهي إلا وقد أفرغت محتوى الوسائد من الريش الذي تطاير حولهم وهما لاهثتين متقطعتي الأنفاس, ثم قالت فريدة من بين تلاحق أنفاسها:
"لازم نلاقي حل"
وافقتها راما برأسها مرددة نفس جملتها:
"إيه, تكرم عويناتك, بنلائي حل.. معك راما مش أي حدا اتوكلي على الله"
وضجت كلاهما بالضحك مرة أخرى.
***********************
دخلت راما عائدة من عملها لتجد صديقتها التي نسيت همومها لبضعة أيام وقد عادت لبؤسها وشرودها ودموعها التي لا تتوقف:
"فريدة, شو بك؟ في أخبار جديدة؟"
ألقت فريدة بعدة أوراق كانت تتفحصهم صارخة:
"تم تسديد كل الديون المستحقة, كل أصول ممتلكاتي تم بيعها, ما مبقتش أملك أي حاجة"
سألتها راما بتردد:
"وشو المشكلة؟ كنت بتعرفي هيدي النتيجة, وكنت مجهزة حالك لإلها"
زفرت فريدة بكآبة:
"المشكلة, أن بعض الدّيانة مش مكفيهم تسديد الديون عاوزين مني خدمات تانية خاصة كفوائد مركبة, هددوني فعلاً يا راما تتخيلي أنا ....أنا يوصل بي الحال لكدة"
هزت راما رأسها بأسى:
"بعتئد إنك لازم تراجعي التفكير بعرض عمك"
صرخت فريدة باستنكار:
"وأتجوز يزيد؟ مستحيل"
ردت راما بحزم:
"عندي الحل.."
شهقت فريدة وقد تهلل وجهها:
"بجد يا راما, إيه هو بلييييييز"
أجابت صديقتها وهي ترد بصوت متقطع:
"بس ما بعتئد إنك بتملكي الجرأة الكافية لتنفيذه"
صاحت فريدة بلهفة:
"أي حاجة, هأنفذ أي حاجة تبعدني عن الفوائد المركبة دي"
"وعمك... مستعد يدفع إلك أي مبلغ ليخرجك من هون؟"
ردت فريدة بحدة:
"مش هاطلب منه أو من غيره قرش واحد, أنا لسة عندي وديعة مخبياها في حساب سري... بس أنت بتفكري في إيه؟"
صاحت راما محاولة إقناع صديقتها:
"هيدا هو الحل الوحيد يا فريدة, لازم ترجعي عمصر, بس بشروطك مش هيك؟"
سألتها فريدة بتردد:
"مش فاهمة أي حاجة؟"
جلست راما جوارها وسألتها بعد أن عبت رئتيها بنفس عميق:
"بتتذكري رغبتك بالتلقيح الصناعي؟"
ردت فريدة بامتعاض:
"أيوة طبعاً ولسة فاكرة أنك اتريقتي على الفكرة؟"
أمالت راما رأسها على جانب كتفها قائلة:
"اسمعيني للنهاية..."
شهقت فريدة وقد جحظت عيناها وهي تصرخ:
"أنت مجنونة, إزاي خطرت لك الفكرة المستحيلة دي, أنا.. أنا"
قاطعتها راما:
"وشو المستحيل, كل أحلامك بتتحقق, وبرمية حجر واحد, وكمان هترجعي لمصر, وهتتفريدة ميراثك ومش هتتجوزي ابن عمك هيدا, وهيكون إلك الطفل اللي بدك إياه"
احتجت فريدة مرة أخرى:
"بس إزاي؟ أنا قرأت في الموضوع ده بالتفصيل على النت, وعرفت أني هاخالف تعاليم ديننا الإسلامي اللي بيحرم الحاجات دي"
ردت راما بحزم:
"عارفين وفكرنا بكل شي"
حدجتها فريدة بنظرة مستفسرة:
"عارفين, أنتم مين؟"
ردت راما بارتباك:
"بصراحة الفكرة هيدي فكرة فادي, أنتِ بتعرفيه, هو محامي, وهو عارف بكل القوانين وبالدين كمان, من شان هيك هو اللي اقترح الزواج بينك وبين هيدا الرِجّال, وبعد ما يتم التلقيح عن طريق المعمل مش راح تضطري تتعاملي معاه إطلاقاً"
قاطعتها فريدة مرة أخرى بحدة:
"راجل, أنت, قصدك راجل بعينه, راما إيه اللي بيحصل بالظبط إتكلمي بصراحة بلييييييز"
تن*دت راما قائلة:
"بصراحة الفكرة هيدي لتحل مشكلتك ومشكلة هيدا الرِجّال صديقه لفادي, زوجته مريضة كتير وحالتها بتسوء يوم عن يوم, وصرف عليها كل شي بيملكه ومحتاج للكاش, مسألة حياة أو موت يعني, بعد عرض مشكلتك, ظهر الحل فوراً في راس فادي الألمعي العبقري, يؤبر ألبي أديش بحبه...."
احتجت فريدة بهزات متتابعة من رأسها:
"بس ده مستحيل مش ممكن أنت بتفكري إزاي, أنا أتجوز.. أنا؟"
أمسكتها راما من كتفيها قائلة بحزم:
"هيدا هو الحل الوحيد, لحل مشكلتك, ولتتخلصي من تهديدات الديانة وفوايدن المركبة ومن ابن عمك كمان"
"وهاخلص إزاي من الجوازة دي إن شاء الله؟!"
ردت راما بمكر:
"بمنتهى السهولة, هيتم عئد القران في السفارة, وفادي بيضمن لك الطلاق بعد التأكد من الحمل, ولو رفض بلغنا عنه الشرطة لجمعه بين زوجتين, ما تحملي الهم هو راح يلتزم بالاتفاق يا عيني عليه بيعبد التراب اللي بتمشي عليه زوجته الله يشفي له إياها"
"وأنتم اتفقتم معاه خلاص؟"
نظرت راما في ساعتها قائلة:
"في هيدا الوقت بالذات فادي معه بيحاول يقنعه"
*********************
وفي مكان آخر, هادئ جدرانه بيضاء تتخللها نوافذ زجاجية ليتمكن الأقارب من إلقاء نظرات على ذويهم وهم بين الحياة والموت, إلا من همهمات رجلين تكاد تصل للصراخ في بعض الأحيان عندما صاح أحدهم في الآخر:
"عامر أنت ما بتفكر بعقل.."
صاح فيه المدعو عامر:
"أنت اللي ماعندكش أي عقل نهائي, كل كلامك ض*ب من الجنون"
تن*د فادي بحزن:
"يا خيّ الضرورات تبيح المحظورات, زوجتك رائدة هون بالمشفى بين الحياة والموت, والأمريكان رغم إدعائهم التحضر بس ما في رحمة في ألوبهن, وقت ياللي بيخلص معينك من الدولارات بيزتوها بأحقر مشفى حكومي بالمجان, ووقتها ضو الأمل البائي هيضيع من بين إيد*ك, وما عدت بتملك شي لتبيعه, ولا صديق لتداين منه, ومع الأسف يا صديقي أنا ما بملك اللي في استطاعتي لأوأف فيه جنبك"
وضع عامر وجهه بين يديه يخفي دموعه المترقرقة كلما فكر بزوجته الحبيبة الشاحبة وقد انطفأ من وجهها رونق الحياة وهي تناضل من أجل حياتها ولا يبدو عليها الانتصار في معركتها الضارية, رفع رأسه ليعيد شعره المتهدل للخلف بأصابعه والذي طال كثيراً في الفترة الأخيرة, مع لحيته بدون أي اهتمام أو وعي بحالتها الشائكة, فمن يراه لا يصدق أن هذا هو عامر الأشرف رجل الأعمال المرموق, أشد رجال المغتربين وسامة في واشنطن, فقد كان يمتاز دائماً بطوله الفارع وجسده الرياضي وأناقته التي كانت تجذب العيون أينما كان, ابتسم بحزن وهو يتذكر كلمات زوجته الحبيبة ميليسا, عندما كانت ترمقه بتلك النظرات العاتبة وكأنها لا تريده أن يكون وسيماً وجذاباً إلا في عينيها فقط:
"عامر.... حبيبي.. لما لا تخلع رباط عنقك, وتترك شعرك بدون تمشيط, ولم لا تطلق لحيتك...."
كان ينحني ليحمل جسدها الناعم بين ذراعيه قائلاً بقهقهاته الضاحكة:
"ولم لا نعيش في جزيرة مهجورة كي تكف ميلي حبيبتي عن غيرتها العمياء"
ردت ضاحكة:
"أراهن أنك ستجذب طيور السماء"
وتضيع الكلمات بينهما في عناق لا ينتهي إلا على فراشهما.
"عامر, عامر, فينك رحت يا رِجّال؟"
رفع عامر رأسه وتمتم بصعوبة:
"أنا موافق, تعامل أنت مع البنت دي في المسائل المالية أنت عارف هم محتاجين ايه لعلاج ميليسا, مش عاوز ولا دولار واحد زيادة أكتر من المطلوب"
تن*د فادي قائلاً براحة وهو يربت على كتف صديقه:
"ماشي يا صاحبي, متل ما ما بدك..الله يعينك على حالك"
**********************
وقفت راما في ردهة السفارة تهدئ من صديقتها الثائرة:
"فريدة هدي حالك شوي بلييييز, خبرني فادي من شوي أنو وصاحبه على وصول وبين لحظة والتانية بتلائيهن أدامك"
ثم تن*دت بزفرة ضيق وهي تنظر لصديقتها بانتقاض:
"بالله عليك ماني عارفة ليه ما طاوعتيني ولبست التوب الأبيض اللي اشتريتلك إياه البارحة كان هيلبأ لك أكتر من التايور الأحمر هيدا"
ضحكت فريدة قائلة بغمزة من عينيها:
"بس أنا شايفاه مناسب لأحداث النهاردة, على كل حال أنا مش عروسة عذارء طبيعية تتجوز من فارس أحلامها"
تن*دت راما وهي ترمقها بانزعاج:
"هيدا اللون, وهيدي الفتحة الكبيرة بص*رك, وطوله ما بيغطي ركبك, أنا مش بانكر أنك طالعة بتاخدي العئل, بس عندي إحساس أنك بدك ترسمي صورة مغايرة لنفسك, ليش يا فريدة؟"
أطرقت فريدة رأسها وأبعدت إصبعها عن أسنانها بعد أن قضت عليه قرضاً من فرط توترها قائلة بهمهمة غاضبة:
"أنت عارفة إني مش مرتاحة للفكرة إطلاقاً, ومش حابة إني أكون زوجة لأي راجل, حتى لو كان زواج مؤقت, اسمعيني راما, وصل صبري لحده, خمس دقائق كمان لو ماوصلش صاحبك بعريس الغفلة ده, هأخرج من هنا, ومافيش أي قوة في الأرض هتقنعني بالرجوع لو تخليت عن كل ميراثي في....."
قاطعتها راما صائحة بفرح:
"ابلعي ل**نك خيتي هدولي وصلوا"
اشرأبت فريدة بعنقها لتتطلع للقادمين, كانت لها سبق معرفة بفادي صديق راما لذلك توجهت بنظراتها للأخر ذي الأكتاف العريضة والرأس المنحني خلفه, وبتباطؤ خطواته وكأنه في طريقه لقص عنقه وليس ليتزوج همهمت فريدة بغيظ:
"شوفي شكله عامل إزاي, دقنه الطويلة المشوكة, وشعره الطويل لحد أكتافه وكأنه خارج من السجن, المأذون هيظن بينا إيه.. خاطفاه من السجن وهتجوزه غصب عنه!!"
هدأتها راما بصوت مكبوت من الضحك:
"انتظري لنسمع فادي شو بيحكي على منظر صاحبه هيدا.."
حدجتها فريدة بنظرات حارقة:
"أكيد بتهرجي و...."
"ششششش اخرسي هيسمعونا"
أشاحت بوجهها بعيداً كي لا تلتقي عيناها بعيني العريس وتخبره رأيها فيه بصراحة, اقترب فادي بينما ظل عامر أبعد بخطوات وكأنه يترك الفرصة لهم للتشاور..
"مرحبا فريدة.."
لم ترد وأهدته نظرة صاعقة فنظر لراما متسائلاً فردت بصوت خافت:
"منظر العريس جرح إحساسات العروس"
أمسك فادي بذراع فريدة وانتحى بها جانباً:
"اسمعيني فريدة, زوجته إجاها انتكاسة, والمسكينة كانت بتلائى ربها لولا العناية الإلهية, المسكين كان في حالة صعبة كتير وبالكاد قدر يوقف ع اجريه ليوصل لهون, ولولا احتياجه لهيدا المبلغ لما وصل لهون اليوم"
لوحت فريدة بإصبعها في وجهه محذرة:
"شكله مايهمنيش في حاجة, بس بلييييز فادي أكد عليه الطلاق يتم فور إجراء العملية زي ما اتفقنا, وده هيكون بكرة زي اتفاقنا مع راما تم ترتيب كل المواعيد لينجح هذا الأمر من أول مرة, علشان كده مش عاوزة أي تعقيدات في مسألة الطلاق"
ربت فادي على يدها مطمئناً:
"ما تحملي هم, كل الإجراءات بخلصها بنفسي, حجزت تذكرة الطيارة؟"
ردت راما من الخلف:
"أول ما يبلش الحمل هتبدأ إجراءات الطلاق, وهنحجز للطيارة"
"وليش واقفين يلا توكلوا على الله"
أوقفته فريدة
"استنى فادي, هو اسمه ايه؟"
"عامر... عامر الأشرف"
ثم التفت للخلف لينادي على صديقه:
"عامر خيي, تعال لأعرفك على عروستك من شان ما يكون منظركم بيضحك أدام المأذون"
تقدم عامر بخطوات متثاقلة ليقف معهم في نفس الدائرة..
كتمت فريدة شهقتها, فمظهره المذري لم ينتقص من وسامته كما كانت تعتقد من بعيد, ولولا كرهها لكل الرجال لاعترفت بصفاء ضمير أن هذا الرجل ذي العينين السوادوين المدمرتين قد أثر بها كما لم يفعل أي رجل من قبل، انتبهت لصوت فادي:
"عامر الأشرف, اسمح لي, هيدي عروسك فريدة الهواري"
مد يده ليصافحها كما يقتضيه الأدب فقط وليس كما يرغب, ولكن عيناه راحتا تمسحانها من قمة رأسها حتى أخمص قدميها وقد ظهر الاشمئزاز واضحاً على ملامحه من ملابسها الغير محتشمة, وتوقفت عيناه للحظة أطول يرمق شعرها الذي صففته بطريقة الكنيش ليبدو وكأنها في طريقها لملهى ليلي أكثر منها لمناسبة زواجها..
تمنى لو كان ما يزال يملك زمام قراراته بيده لعاد فاراً لزوجته الوحيدة والحبيبة, انتبه من ظلام أفكاره لملمس يدها الناعمة وهي تعانق راحة يده, قيمها بنظرة سريعة كانت ذات جمال مميز ولكن الغرور الذي يطل من بين أهدابها نفره منها فجذب يده بشكل سريع جعلها تشعر بجرح الكرامة والإهانة..
همت بالانسحاب السريع وليحدث ما يحدث لتذيق ذلك الرجل الذي يظن نفسه جذاباً لدرجة الوقاحة وقلة الذوق, إلا أن صوت فادي جاء من خلفهم ليحبط أي أفكار سلبية:
"عامر.... فريدة... المأذون عم ينادي"
وراح يدفعهما وقد بدا وكأنهما مسمران في الأرض يرفضان التحرك, استكانت فريدة وهي تملأ ص*رها بالهواء العميق لتدع الحكم ل*قلها لينهي هذه المشكلة, فاستجابت للمسات راما ونظراتها المتوسلة وبدأت بالتحرك إلا أن صوت عامر أوقفها مرة أخرى بتساؤل تسبب في أن تقف كل شعرة في رأسها وتنحسر الدماء عن وجهها وهو يلقي قنبلته بازدراء ورغبة في التحقير والتقليل بشأنها:
"تسمح عروستي الــ.. مصون بسؤال؟ أنت عذراء ولا المجتمع الغربي سلبك أعز ما تملك الفتاة العربية؟"
شهقت راما واضعة يدها على فمها واسود وجه فادي بينما ارتسمت النظرات الساخرة على وجه عامر أمام نظرات العروس الزائغة التي ترتجف من رأسها لأخمص قدميها, تجمدت بردة فعل دفاعية غير قادرة على التنفس, ووجهها الذي تحول للون الرمادي, مع موجة مختلطة من المشاعر المبهمة وهي تتذكر بألم الماضي المؤلم والذي ظلت خلال السنوات الماضية تحاول تجاهله.
بطريقة أدهشتهم جميعاً تماسكت وهي تشمخ بأنفها وتردد بذقن مرفوع بتحد ولكن بقلب مثقل كالرصاص نظرت إليه بتحد واضح للعيان, لم ترى رجلاً أكثر غطرسة وعنجهية منه من قبل, كانت ملامحه القاسية لا تعرف الرقة ولا النعومة, مما شجعها أكثر على ابتسامتها الساخرة:
"شكلك مش بالذكاء اللي صاحبك فادي بيشعر فيه قصائد, لو كنت عذراء كنت ليه هدفع فيك كل المبلغ الكبير ده.... ولا ايه؟"
بمعجزة جبارة تحركت مع راما لتدخل من الباب الذي سبق وفتحه فادي لإتمام المراسم, ولم تبالي بردة فعله عن كلماتها ولكنها أدركت أن رصاصتها أصابت هدفها لحد بعيد فقد ظلت مع راما لمدة خمس دقائق بانتظار دخول العريس ورفيقه, وقد سمعت همهماتهما العالية وكأنهما ما يزالا يتجادلان..وصوت فادي متوسل وكأنه ما يزال يحاول إقناعه بالزواج منها.
كانت ما تزال ترفع رأسها عالياً لتمنع الدموع من أن تغافلها, ربتت راما على ركبتيها أثناء جلوسها بجوارها, فأشاحت بوجهها ترفض تقبل العطف والشفقة ولو من قبل صديقتها, وأخيراً دخل الرجلان ف*نهد المأذون برضي وأشار لموظفي السفارة فتم إعداد الأوراق والتوقيعات, خلال كل هذا الوقت تحاشت النظر نحوه ويبدو أنه فعل المثل ولكن شحنات كهربائية سالبة كانت تطير بالجو تعلن أن المكان مهدد بالانفجار..
وأخيراً انتهت المراسم وتسلم كل منهما نسخته من ال*قد, رفعت رأسها لتطل ولو طلة واحدة على زوجها فندمت على الفور لكمية الغضب والاحتقار اللذان طلا من عينيه وكأنه يود إحراقها لمجرد تجرؤها على النظر إليه, سمعت فادي يصافحه ويؤكد عليه موعد الحضور لإتمام الأمر, سمعته وهما بطريقهما للسيارة يحدث فادي بصوت ساخرة:
"لو ما كنتش بحب مراتي للدرجة اللي تمنعني من النظر لأي واحدة ست تانية, لأنهيت الحكاية السخيفة دي فوراً بس مش في معمل صاحبتك, ولكن في موتيل من الموتيلات الرخيصة اللي اتعودت عليها العروسة اللي حضرتك ورطتني بيها, ولكن مش هرغب بلمسها لو كانت آخر ست على الأرض"
جذبتها راما من ذراعها:
"يالا فريدة هيدا الرجال بدو شاحنة تصحيه من غيبوبته علشان يعرف كيف يحكي زي العالم والناس"
بنظرة جانبية أدركت أنه يعي وجودها واستماعها لحديثه, ولم يبدو عليه أي ندم, غمغمت بصوت مبحوح:
"راما, اطلبي فادي على الموبايل, وحذريه أنه يحكي للمغرور اللي فاكر نفسه حاجة ده... حذريه إنه يحكي له أي شيء عني, أقسم بالله لو عملها لأخرب كل شيء ولو انتهى الأمر لأتسول في الشوارع"
صاحت راما وهي تضغط على أزرار الموبايل وهي تتابع سيارة صديقها حتى غابت عن الأعين خلف بوابات السفارة.. وبعد كلمات مقتضبة أعادت الموبايل لحقيبتها وأشارت لصديقتها الشاردة:
"خلاص روئي, أنا حذرته لفادي, ومش راح يفتح تمه بكلمة واحدة"
ركبت السيارة وبعد إحكام حزام الأمان أشاحت بوجهها بعيداً عن صديقتها لتوضح لها بلغة الجسد أنها لا ترغب بأي مواساة واكتفت بمشاهدة المناظر في الشوارع لتنسى كلماته الجارحة والتي أصابتها في مقتل وزادت من شعورها بعدم الأمان الذي استشري في كيانها بعد وفاة والديها.
في اليوم التالي اشترطت فريدة على صديقتها وفادي ألا تقع عيناها على هذا الرجل وإلا ألغت كل شيء, وكان لها ما أرادت وتم الأمر وتسلم الشيك بالمبلغ المتفق عليه بعد أن أكدت على فادي موعد الطلاق فأكد لها بحزم:
"بكرة هنبدأ الإجراءات"
أوقفتهما راما:
"استنى عندك, شو إجراءات ما إجراءات, لازم يتأكد الحمل أولاً وإلا كأننا ما عملنا شي"
صاحت فريدة بتذمر:
"بس إنت أكدت لي إنك احتفظت بعينات كفاية, ممكن نستعملها لو منجحش الحمل من أول مرة"
تن*دت راما وهي تحاول إفهامها ببساطة:
"هذا بيعني أنك لازم تضلي متزوجة منه في التلقيح الثاني كمان, وإلا كأننا ما عملنا شي"
ضغطت فريدة على أسنانها:
"لازم ندعي ربنا بنيه صافية, أن الحكاية تنجح من المرة الأولى حتى ما أضطر أتحمل أفضل تحت ع**ة المتخلف ده فترة أطول"
تنحنح فادي قائلاً:
"فريدة ما بدي اياك تحملي ضغينة عـ. عامر, هو رِجّال ما في متله, بس ظروفه اللي مر فيها بالفترة الماضية حولته لإنسان غاضب لو كنت التئيتي فيه تحت ظروف طبيعية كان عجبك و..."
صرخت بحدة:
"فادي.. أرجوك, المرة الجاية اللي هسمع فيها اسم الراجل ده هتكون هي المرة اللي جايب لي فيها خبر إني خلاص أصبحت حرة منه"
وبعد ثلاثة أسابيع تنفست الصعداء عندما جاءتها راما بنتائج التحليل المؤكدة أنها حامل, احتضنت صديقتها بقوة ضاحكة وسعيدة, ثم صاحت بلهفة:
"اتصلي بفادي وبلغيه أنه يبدأ في الإجراءات فوراً"
غمغمت راما بتأثر:
"وأنت جهزي حالك واحجزي تذاكر الطيران, مع أنك هتوحشيني كتير"
وعادت الصديقات تحتضنان بعضهما بقوة...
*********************
نظرت للطائرة الكبيرة, ها هي أخيراً وبعد سنوات طويلة, ساعات داخل هذه الطائرة وتجد نفسها على أرضها مرة أخرى بين أحضان وطنها, وأهلها, دمعت عيناها فسألتها راما:
"بتنسيني يا بنت الهوارية؟"
احتضنتها بقوة لتجيب على سؤالها بالدموع... ثم تن*دت وهي تشهق بنفس طويل:
"راما مافيش أخبار عن الطلاق؟"
عضت صديقتها على شفتيها بأسف:
"كلمت فادي أبل ما نترك البيت, وأكد لي ان كل الأوراق جاهزة ما فاضل إلا توقيع عامر لاعتمادها, بس المسكين ما بيبعد عن زوجته بعد انتكاستها من أسبوع, وحالتها سيئة كتير الله يكون في عونه, ولكن ما تخافي فادي يطمنك مافي شي هيعطل الأوراق, سافري واطمني وهرسل لك الأوراق على السفارة زي ما حكيت اليك"
كانت هذه آخر كلمات راما قبل أن يتعالى النداء في ميكروفونات المطار لتنادي على المسافرين على متن الرحلة المتجهة إلى جمهورية مصر العربية, امتلأ ص*ر فريدة بالهواء وهي تتجه للبوابة المعلن عنها بعد أن ودعت صديقتها ....
*************يتبع****************