الفصل الأول
((الفصــل الأول))
ضجة من أصوات الأجهزة الطبية، ومن أحاديث الأطباء الواعية، ومن كثرة الهمهمات الجانبية التي تعالت من حولها، ناهيك عن أقدام تنكتل هنا وهناك لنجدة الصبي، قلوب منفطرة وأعين باكية تتكهّن بتلهفٍ أن تنضبط أنفاسه لتعود روحه للحياةِ مجددًا، جلست "مهيرة" كالمغيبةِ بينهم بجسدها المُتصلّب وعينيها التي تجمدت العبرات فيهما، تحدق فقط في غرفةِ العناية المشدّدة التي يلج ويدلف إليها المسعفون، والتي مكث فيها طفلها الوحيد لإصابته بعلة ما لم تعرف سببها، لعنت في نفسها هذا المرض الذي يريد أن يسترقه منها، اشتدّ عليه الإعياء لتضحى حالته سيئة، راقبت الأطباء وهم يتسابقون في اسعافه من زاويةِ الباب الموارب قليلاً، اختلجت شفتاها بتخوفٍ من فقدانه، تأججت برودة جسدها ناهيك عن شحوب وجهها من هولِ انتظارها الشغُوف؛ انحبست أنفاسها بغتةً حين اضحى المكان في وجومٍ قاتل، توقفت حينها أصوات الأجهزة الطبية، توقفت حتى أصوات الأطباء ليعُم السكونُ؛ ماذا حدث يا تُرى؟، جاوب قلبها على سؤالها ولكنها أبت تصديقه، اخترقت آذانها كلمات الطبيب التي أحرقت كل ذرةٍ في قلبها وهو يخاطب زوجها عن حالة طفلها، قال الطبيب بأسفٍ مصطنع:
- لقد فعلنا ما بوسعنا، اطلبوا له الرحمة!
قالها الطبيب ثم تحرك مغادرًا وتاركًا قلوبًا ملتاعة من خلفه، تعالت أصوات عويلهم وبكاءهم، كذلك الوالد الذي أغمض عينيه متحسرًا على فقدان ابنه ليشرع في البكاء الصامت، على النقيض "مهيرة" التي تعجبت من هيئتهم الكمدة لتمرر أنظارها عليهم ككلٍ هاتفة بغرابةٍ:
- ما بكم، أتصدقون كلام هذا المخبول؟!
التفت الجميع لها يواسونها بنظراتهم المُشفقة على وضعها، حركت "مهيرة" رأسها للجانبين مًحتجة على ذلك، هتفت بسخطٍ:
- حمقى، جميعكم حمقى لتصدقون هراءه
أحسّ الجميع بما تمر به وخاصةً والدتها لذا التزموا الوجوم التام، نهضت "مهيرة" لتتحرك نحو غرفة العنايةِ المشدّدة تجر أقدامها مضطربة من صدق حديث هذا الأ**ق، وسط نظرات زوجها السيد "أسيد" التي تترقب ردة فعلها، لذا تحرك خلفها باحتراسٍ متأهبًا لأخذ احتياطاته كي لا تتهور، خطت بقدمها للداخل لتقع عيناها على مشهدٍ طمس معالم الأمل بداخلها، أجل طفلها الصغير راقدًا على التخت ومدثرًا بالغطاء حتى رأسه لتستنبط من كل ذلك رحيله عنها، تصلبت نظراتها المشدوهة عليه وقد تجمدت العبرات في عينيها تأبى النزول، أخذت تتقدم منه و "أسيد" من خلفها متكهنًا بأعصابٍ مشدودة ما ستزمع له حين تتأكد بنفسها، رغم حزنه الجارف بدا صلبًا من الخارج ومتماسكًا، وقفت أمام فراش الصبي لتتسلط نظراتها على رأسه التي حال الغطاء دون رؤيته، مدت يدها المرتجفة لتكشف عن وجهه ببطءٍ وقد اضطربت أعضاؤها، تدريجيًا لاح وجه الصبي حين شرعت في سحب الغطاء للأسفل، امتقع وجهها وتشنج جسدها وهي ترى وجهه الكامد وبشرته التي تبدلت للشحوب السافر، تأجحت انتفاضات جسدها لترتعش كليًا، قلق "أسيد" عليها وحاول سبر أغوار عقلها، خاطبت طفلها المسجي بترددٍ:
- "صهيب"
أخرجت بعدها بعض الهمهمات الغير مفهومة وقد أوشكت على البكاء لترفض تصديق موته، سريعًا كان "أسيد" ممسكًا بها من الخلف حين استشف حالتها ليُكتفها بالکامل، هدرت بنبرةٍ تحرق القلوب:
- "صهيب" ابني، لا تتركي يا قطعة مني!
فور نطقها تلك الكلمات المدمية خارت قواها بين ذراعيه فاسرع في حملها قبل أن تسقط، ضمها لأحضانه قائلاً بكمد:
- إهدئي عزيزتي، تلك مشيئة الله........!!
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
كان ذلك قبل عام، حيث ظلت "مهيرة" طوال تلك الفترة حبيسة غرفة طفلها تتنقل من مكانٍ إلى آخر كما كانت تفعل وهي تتابع عبثه بأل**به الخاصة، تتعالى همساتها له إلى حدٍ ما كأنها تُخاطبه ليصفها الجميع بالجنون، منتصف أل**ب ابنها الوحيد الذي استرده الله كانت "مهيرة" نائمة على الأرضية تتحدث مع نفسها، تردد كلمات حزينة معربة عن مدى ألمها!!
اغتم "أسيد" وهو يراها هكذا حين فتح الباب بحذر عليها کالعادة، لم ينساق وراء حديث من حوله لإيداعها في دار رعايةٍ خاصة بحالتها تلك، كان على علمٍ بما يخالها ومدى محبتها لابنهما، بإصبعه أقصى دمعةً شاردة كانت عالقة بأهدابه ليعتزم تركها على راحتها، اوصد الباب عليها ثم تحرك نا**ًا رأسه باكترابٍ، هبط الدرج ثم توجه لردهة الفيلا ليجلس برفقة والده الذي تجهمت قسماته مما يحدث من حوله، كان والده يتابع كل ذلك بعدم رضى وقد فاض به الكيل ليفتح معه الموضوع بجديةٍ أكثر الآن، نظر له مستفهمًا بتبرمٍ:
-إلى متى سيظل هذا الحال؟ ؟!
وجه "أسيد" أنظاره عليه متبلدًا في فهمه، وضح والده بحنقٍ:
- أعني زوجتك، أرى أنها لن تعود لرشدها، فالأفضل لها أن تذهب للمكان الذي يجب أن تُودع فيه!
حدق به "أسيد" مشدوهًا مصدومًا، كيف له أن يتخلى عن زوجته حبيبته في أوج احتياجها له، جاءت والدته حاملة صينية صغيرة عليها كوبين من القهوة، نظرت لزوجها غامزة بعينيها ليتركه على راحته لكنه لم يهتم وتجاهلها، بينما استنكر "أسيد" في نفسه فعله لهذا العمل الوخيم، هتف معترضًا:
-لا يا أبي، لن اتخلى عنها، "مهيرة" فقط حزينة على ابننا، كيف لي أن أتركها تبتعد عني بارتضائي، لا، لن أفعل!
لاح العبوس خلقة والده ليهتاج من رعونته، جلست والدته متوجسة من تأزم الوضع، في حين وبخه بسخطٍ:
-وهل ستترهبن إذًا؟، هل ستحيا بقية حياتك مع إمرأة مخبولة، أريد أن أرى أحفادي، وبهذا الوضع لن يحدث ذلك مطلقًا!
شجن "أسيد" من رغبة والده التي تُخيّره بين زوجته والزواج بأخرى، بات متحيرًا ضالاً لإيجاد السبيل، لكن بداخله لن يترك زوجته وهذا أمرًا انتهى النقاش فيه، لذا قال بشكيمةٍ:
- ولكنني لن أتركها يا أبي، لست حقيرًا لأفعل هذا بأُم ابني
التوى ثغر والده ببسمةٍ ساخرة أعربت عن مدى استيائه مما يحدث، تيقّن بأنه أ**ق سيجد صعوبة في إقناعه، نظر له قائلاً بحزمٍ:
-فلتتزوج إذًا، بقاء زوجتك هنا مقابل زواجك بأخرى، أريد أحفادًا
فتح "أسید" شفتيه ليعترض وقد قطبت قسماته، أشار والده بأن ي**ت ليُكمل حديثه الصارم:
- لن اتحدث في هذا الموضوع ثانيةً، وهذا قراري، مخالفتك له ستكون خسارة زوجتك مقا**ها، ماذا قلت؟
وُضِع "أسيد" في خانة اليك ليضحى متحيرًا حين حدق أمامه في الفراغ، بالتأكيد سيختار وجود زوجته معه، حيث ضحى سابقًا وتحدی الكثير ليتزوج بها، نظرت له والدته بشفقة لتتدخل قائلة بلطافة:
- والدك يريد مصلحتك "أسيد"، وأيضًا "مهيرة" ستكون معنا ولن نتخلى عنها!!
عاد "أسيد" من شروده لواقعه المُؤلم على حديث والدته ليُعلن الآن قراره، وجه بصره لوالده الذي يترقب ماذا سيزمع له، لم يجد "أسید" سوى أن ينصاع لأمره في الوقت الحالي على أمل إيجاد حل قائلاً:
-مثل ما تريد يا أبي.....!!
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
بداخل شقة ما بإحدی الأبراج العالية، جلست في الصالون أم وابنتها يتحدثن بنميمة ولؤم لاح في منظرهن، قالت الفتاة مبتسمة بشغف:
-أخيرًا أمي "أسيد" سيبقى لي وحدي!، وابنة الشحاذون هذه سنتخلص منها، يكفي أنها أخذته مني!
تن*دت والدتها بغبطة وهي ترد وقد لمعت عيناها:
-صحيح "أروى"، وعمك لن يجد أفضل منك له، فهو لم يكن راضيًا عن تلك الزيجة من الأساس، وهذا سيسهل علينا كل شيء، بالإضافة لموت الصغير!
هتفت "أروى" بتهليل:
- لو تعرفي يا أمي كم أحبه لن تصدقي، أحمد الله بأن عمي أقنعه بالزواج، سنة وأنا أنتظر هذه اللحظة!
ردت والدتها مبتسمة بلطف وهي تمسح على شعرها:
-يحميكي الله يا ابنتي، كل هذا لرقة قلبك
ابتسمت "أروى" لها بغموض حتى انتبهن لمن يردد أمام باب غرفة الصالون بسخرية:
-حب ماذا الذي تتحدثن عنه، أليس من الأفضل أن تتمنين عودة أموالنا، وإلا سيعجبكن أن ننطرد من المكان الذي يأوينا!
ثم تحرك ناحيتهن فنظرن له بشيء من التأفف، ردت زوجته باستياء ونظراتها الغير راضية عليه وهو يجلس قبالتهن:
-المهم ابنتي تتزوج "أسيد"، وبعد ذلك ما يملكه أخيك سيصبح لها، خاصة بعدما تنجب له الحفيد
هتف بتبرم وقد تشنجت قسماته:
-وهما سيصبحوا أولاد من، في الأخير سيعود الخير عليهم، وسأظل أنا محرومًا من هذا النعيم الذي يغرقون فيه، لم يفعلها أخي مرة ويعطيني شيء حتى لصلة الرحم بيننا
كلحت تعابير "أروى" وهي تحدق به بضيق، ردت بحنق:
-يا أبي أتزوجه أولاً وبعد ذلك سأعطيك ما تريد!
ذاب العبوس قليلاً من على وجهه، رد بمكر:
-أجل سأ**ت، وسأنتظر أيضًا.......!!
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
أزمع بعد تركه لوالده أن يتحدث معها بجدية ليحين الوقت لذلك، لجأ "أسيد" لوالدتها كي تعاونه في عودتها لرشدها علها تفيق من أوهامها المتجذّرة بداخل عقلها المُترع بها، باحترازٍ جم ولجت والدتها أولاً وهو من خلفها يستلب النظرات نحوها، تحركت والدتها نحوها وهي تتأملها بتحسّرٍ وأسى، ولما لا تحزن وقد اختطف الموت ابنها من أحضانها والذي قضى معها عدة سنواتٍ توطدت فيهما المحبة والأُلفة، لتجده بين ليلة وضحاها لم يعُد موجودًا، جثت على ركبتيها أمام ابنتها التي تجلس الق*فصاء منتصفة أل**ب طفلها مُجفلة العينين وقد بهتت تعابيرها وهزل جسدها، تطلعت عليها بألمٍ وشفقة وقد لمعت العبرات في عينيها لتتماسك جاهدة في عدم البكاء، لامست بكفها الجائر نتيجة كبر عمرها كف ابنتها، قالت مواسية إياها:
-أعلم بما تشعرين به الآن، لكن الحياة لن تتوقف بفقدانه، عليك التعايش مع من حولك وينتظرون بتلهفٍ عودتك كالسابق، فليكفي حُزن يا ابنتي، لقد مر عامؒ على ذلك!.
انهت والدتها حديثها ثم ترقبت تأثير كلماتها لتجدها كما هي ساكنة واجمة، قطبت بين حاجبيها متن*دة بضيق، وجهت أنظارها لـ "أسيد" مستنجدة به، هز رأسه بتفهمٍ ثم جثا على ركبتيه هو الآخر بجوارهن، نظر إليها قائلاً بثباتةٍ:
-أفيقي "مهيرة"، نحن مثلك أكمدنا رحيله، هذه ليست حياة، عام وأنتِ بتلك الحالة، ألم يحين اكمال حياتنا معًا!
لم يجد منها ردة فعل ليكفهر تمامًا فهو لا يريد خسارتها أو حتى الإرتباط بغيرها، تدخلت والدتها مُخاطبة إياها بعقلانيةٍ:
- على الأقل من أجل زوجك، لما لم تفكر بحالته دونك، هل تناسيت حبه لك لتتركيه هكذا، يجبرونه على الزواج بغيرك، يريدون حفيدًا! و...
بحركةٍ زموُعة كانت "مهيرة" مُحدقة بها بنظراتٍ غاضبة جعلت والدتها تبتلع بقية كلامها الأرعن كما تظن، بتشنجٍ وجهت بصرها نحوه هو الآخر ثم رمقته باستهجانٍ ادهشه، هتفت بنبرة مشمئزة وهي توزع أنظارها الحانقة عليهما:
-لم يشعر أحد بما يشتعل بداخلي من نيران فراقه، لست مثلكم لأنعم بالحياة، لقد سرق طفلي مني، هيا اغربوا عن وجهي
هدرت بها بانفعال فاضطربت والدتها منكمشة في نفسها، عنفها "أسيد" بقسوةٍ لتطاولها:
- يكفي أنتِ، هل جننتي؟، نحن ما زلنا نفتقده، لكن الحياة لن تتوقف لتهمليني أنا الآخر، إذا لم تتراجعي عن ما أنت عليه فلا تلوميني "مهيرة" فيما سأفعله!
قالها "أسيد" وهو يوجه سبابته بين أعينها مهددًا إياها صراحةً، حدجته "مهيرة" بنظراتٍ شرسة، هتفت بنبرةٍ مدروسة:
-أغرب عن وجهي، لا أريد رؤيتك
ثم بيديها دفعته من ص*ره ليتراجع بعيدًا عنها، صر أسنانه بغيظ لينهض، هتف بوعيدٍ مهتاج:
-ستندمين "مهيرة"، لقد انتظرت عامًا كاملاً علك تعودي إلي، لكن لا جدوى، اثبتي الآن بأنني كنت مخطئًا، ظلي كما أنت في أوهامك، لكني من تلك اللحظة سأكمل حياتي!!
قالها ثم تحرك نحو الخارج غير منتظرٍ ردها، اقتفت "مهيرة" أثره وهي تتنفس بصعوبةٍ لتخرج أنفاسها غاضبة، تحسرت والدتها على ما حدث للتو، ثم نظرت لابنتها لترى بأنها تعي كل ما حولها، لما إذًا ما تفعله من طيش؟، خاطبتها بدرايةٍ:
-أرى أنك تدركين ما حولك، لما عنادك هذا؟!
رمقتها بنظرة شجنٍ وابتئاس، ردت بأسى:
-لأنني أحب ابني، وأنه لم يمت كما تظنون، هو يناديني في كل لحظة، يريدني، أتسمعي..
قالتها وهي تتجول بأنظارها على الغرفة من حولها لت**ت منصتة بشدة، حركت والدتها رأسها بعدم رضى لما أصابها فهي لم تستمع لشيءٍ، قبل أن تتفوه بكلمةٍ واحدة وجدتها تنهض وحالتها لا تبشر بخير، خلّفتها والدتها لتنهض ثم سألتها بجهلٍ:
-ماذا بك عزيزتي؟
لم تُجب "مهيرة" على سؤالها، بل قالت بخبلٍ وبؤبؤي عينيها يتحرك يمينًا ويسارًا:
-يناديني أمي، يناديني ويريد رؤيتي!
هتفت والدتها باستياءٍ وهي عاقدة حاجبيها:
-فليكفي ما تفعلينه، "صهيب" لم يعُد موجودًا
-أكاذيب، إنه يناديني!
صرخت بها بذلك ثم هو تحركت نحو الخارج لتُسرع والدتها لسٶالها بقلقٍ:
-إلى أين "مهيرة"؟
هتفت بتلهفٍ وهي تغادر الغرفة:
-إلى ابني، إنه ينتظرني!! ...........................
==============================