الفصل الأول
أخذت مريم تسقي الزهور في حديقة القصر كعادتها كل يوم وهي شاردة في احلامها الخاصة.
كانت هيئتها تمثل لوحة فنية طبيعية وهي وسط الزهور فأضافت زهرة جديدة لحديقة القصر.
دخل "شهاب" من بوابة القصر بعد غياب دام سبع سنوات خارج البلاد ولم يخبر أحد بموعد عودته بل فضل أن يجعلها مفاجاة للجميع.
نزل من السيارة وأعطى السائق أجرته بالإضافة إلى إكرامية كبيرة جعلت عينا السائق تلتمعان من فرطِ السعادة ثم شكره وانصرف وهو يحمد ربه الذي رزقه بهذا المبلغ الوفير من مجرد توصيلة واحدة.
نظر الحارس إلى شهاب وهو يقف أمامه وسأله عن هويته فخلع شهاب نظارته الشمسية.
هتف الحارس وهو يقف أمام شهاب باحترام:
-"شهاب باشا حمد الله على السلامة نورت مصر".
حاول الحارس أن يأخذ الحقيبة منه ولكن شهاب رفض وطلب منه ألا يخبر أحد بقدومه حتى لا تفسد مفاجأته.
التزم الحارس بال**ت ولم يتحدث وتقدم شهاب إلى الداخل ولكنه توقف بعدما وقعت عينيه على فتاة تسقي الأزهار فظن أنها ش*يقته الصغرى ''وعد'' فتقدم نحوها بهدوء ووضع يديه على عينيها وهو يقف خلفها وقال:
-"يلا يا شاطرة خمني أنا مين".
استدارت "مريم" بسرعة لترى من يشا**ها وصرخت بفزع عندما وجدت شهاب أمامها وركضت من أمامه تحتمي بمنزلها الصغير وأغلقت الباب بإحكام ووقفت خلف الباب حتى تهدأ ض*بات قلبها.
أما شهاب فقد صعقته المفاجأة وتساءل من تكون هذه الفتاة فهذه العيون العسلية بلون الذهب ليست غريبة عليه وكذلك الشعر الحالك السواد الذي يشبه السماء في ليلة غير مقمرة يعرفه أيضا.
ض*ب جبهته بعدما تذكر أن هذه الفتاة هي مريم كيف اختلط عليه الأمر وظن أنها وعد؟!
كيف أمكنه أن ينسى أن أخته الوحيدة شقراء الشعر وتمتلك زوج من العيون الزرقاء الذي يشبه لون مياه البحر في نهار معتدل الطقس.
نفض عن نفسه تأثير المفاجأة وأكمل طريقه إلى القصر وعندما خطا أولى خطواته للداخل تقابل مع فاطمة التي أقبلت عليه بوجهها البشوش وهي تقول:
-"شهاب بيه مش معقولة نورت بيتك ، مش كنت تقول أنك جاي عشان أجهزلك كل الأكل اللي بتحبه".
حرك شهاب رأسه على مضض وسألها عن عائلته فأخبرته أنهم مجتمعين على مائدة الغداء.
تركها وانصرف وهو يتساءل بينه وبين نفسه هل قدره أن يلتقي لأول مرة بعد غياب سبع سنوات مع أكثر امرأتين يبغضهما في حياته الأم وابنتها؟!
دخل إلى غرفة الطعام وكان حضوره مفاجأة للجميع وركضت نحوه والدته بسرعة البرق حتى تحتضنه ولحقتها وعد.
قبل شهاب رأس كل من والدته وش*يقته ثم تقدم من والده الذي يدعى "سراج محيي الدين" وهو رجل أعمال معروف ويحسب له الجميع ألف حساب بسبب نفوذه الواسع في عالم التجارة والأعمال.
قبل شهاب يد والده وجلس بجواره فوضع سراج يده فوق رأس ابنه وهو يقول:
-"حمد الله على السلامة يا شهاب ، نورت بيتك ، مقولتش ليه أنك راجع عشان أبعتلك السواق يجيبك من المطار؟"
أجابه شهاب بهدوء:
-"حبيت أعملكم مفاجأة".
تدخلت وعد في الحديث وهي تردف:
-"والله العظيم دي أحلى مفاجأة شوفتها السنة دي ، يا ترى جيبتلي إيه معاك من أمريكا ، مش معقول نسيت وعد أختك حبيبتك''.
ضحك شهاب على كلامها وملس على شعرها وهو يقول:
-"أنا ممكن أنسى الدنيا كلها لكن مستحيل أنساكِ يا وعد وعايزك تطمني يا ستي أنا جيبتلك حاجات كتير وكل حاجة موجودة في الشنط اللي هتتشحن وهتوصل خلال يومين أو تلاتة".
التفت شهاب إلى والدته التي تدعى "نور الدمنهوري" وهو يهتف بابتسامة:
-"وحشتيني أوي يا ماما ، بقالي سبع سنين بحالهم بعيد عنك ، وكل حاجة هنا وحشتني".
ابتسم سراج وربت على كتف ابنه قبل أن يردف:
-"شد حيلك يلا يا بطل مكانك مستنيك في الشركة".
ردت نور على حديث زوجها بنبرة عابسة:
-"فيه إيه يا سراج ، اصبر شويه على شهاب لحد ما يرتاح من سفره ونشبع منه وبعدين يبقى يشيل معاك الشغل في الشركة".
ظل الحديث يسير على هذا المنوال حتى انصرف شهاب لكي يستريح داخل غرفته.
قام شهاب بتبديل بذلته بملابس النوم واستلقى على السرير وأغمض عينيه في محاولة للنوم ولكن مرت أمامه صورة مريم بعينيها العسليتان.
حاول أن يطرد صورتها من أمام عينيه ولكن محاولته باءت بالفشل وأخذ يفكر فيها.
لم يكن يتوقع عندما تركها منذ سبع سنوات أنه عندما سيجد أنها أصبحت فتاة ذات جمال جمال ساحر.
أخذ يحسب عمر فهي كانت في العاشرة عندما سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية وهذا يعني أنها بلغت الآن السابعة عشر من العمر
استسلم شهاب أخيرا لسلطان النوم بسبب تعبه من شقاء رحلة السفر.
▪▪▪▪▪▪▪▪▪
ظلت مريم ترتجف كلما ظهرت صورة شهاب أمامها فهي لا تتذكر منه سوى القسوة منذ كانت طفلة صغيرة وعادت بها الذكريات للوراء عندما كانت في الخامسة من عمرها حيث كانت تلعب مع وعد التي تكبرها بسنتين.
حضر شهاب ونادى على أخته وأمرها ألا تلعب مع مريم ووضح لها سبب طلبه بقوله:
-"البنت دي مش من المستوى اللي ينفع تلعبي معاه يا وعد ، دي تبقى بنت الشغالة بتاعتنا ومش من مقامك ، دي أخرها تخدمك وتنفذلك طلباتك''.
أخذ ينظر إلى مريم باحتقار وهو ينهرها بقوله:
-"إياكِ تنسي نفسك وتبصي لفوق ، أنتِ تبقي بنت الشغالة وهتفضلي طول عمرك كده مهما عملتِ".
أخذت مريم ترتجف وانهارت في البكاء وتكرر هذا الموقف عدة مرات كلما رأى شهاب وعد تلعب مع مريم.
أما والده سراج محيي الدين فكان يعاملها بمودة وكأنها ابنته وكان يشجع علاقة وعد بها وحرص على إدخالها مدرسة راقية لكي تتعلم مثلها مثل وعد وكانت وعد بمنزلة أخت لها وظل الحال هكذا حتى سافر شهاب لإكمال دراسته في الولايات المتحدة الأمريكية.
حضرت فاطمة إلى المنزل الصغير الملحق بالقصر ووجدت مريم جالسة في غرفتها في حالة غريبة فاقتربت منها وسألتها بقلق:
-"مالك يا مريم ، قاعدة كده ليه يا حبيبتي؟''
ردت مريم بخفوت بعدما أزالت دموعها بسرعة قبل أن تلحظها فاطمة:
-"مفيش يا ماما ، دماغي مصدعة شوية".
-"طيب قومي يلا عشان تتعشي''
قالتها فاطمة فنهضت مريم وذهبت مع والدتها لكي تتناول العشاء وهي شاردة الذهن وانتبهت عندما قالت لها والدتها:
-"على فكرة يا مريم شهاب بيه جه من أمريكا موكنش معرف حد برجوعه عشان يعملهم مفاجأة".
أومأت مريم برأسها وهي شاردة فقالت لها والدتها:
-"لا ده أنتِ واضح أنك مش مركزة معايا خالص".
أخفت مريم ضيقها من حضور شهاب بقولها:
-"صدقيني يا ماما مفيش حاجة ، أنا بس بفكر في النتيجة اللي فاضل عليها كام يوم وتظهر ، ادعيلي يا ماما أني أنجح وأدخل الكلية اللي نفسي فيها".
ربتت فاطمة على كفها وقالت:
-"إن شاء الله يا حبيبتي هتنجحي وربنا هيحققلك أمنيتك".
-"قوليلي يا ماما هو إحنا ممكن نسيب المكان هنا ونعيش في حتة تانية؟"
هتفت فاطمة باستغراب:
-"نسيب المكان هنا ونروح فين يا مريم؟''
-"لما أدخل الكلية هروح أشتغل عشان نمشي من هنا ونشوفلنا شقة صغيرة ومتخدميش عند حد تاني وأنا مش هخليكِ محتاجة حاجة''.
احتضنت فاطمة ابنتها وهي تقول:
-"ياه يا مريم بقى للدرجة دي كرهة المكان هنا ، ياريت كان بإيدي يا بنتي كنت ريحت قلبك بس غصب عني مقدرش أعمل حاجة ، بكرة تدخلي الكلية وتتخرجي منها وإن شاءالله ربنا هيحلها من عنده''.
ذهبت فاطمة إلى غرفتها لكي ترتاح من تعب اليوم وحاولت أن تنام ولكن أصابها الأرق فنهضت من فوق السرير وجلست أمام شرفة غرفتها.
أغمضت عينيها وداعب وجهها نسيم الليل العليل ومر شريط حياتها أمامها.
لقد حضرت إلى هذا القصر وهي في الخامسة عشر من عمرها لكي تكون في خدمة "نور الدمنهوري" ولكي ترعى شهاب الذي كان يبلغ من العمر حينها ثلاث سنوات.
كانت فاطمة يتيمة الأبوين وليس لها غير عمتها التي كفلتها ولكن بسبب ضيق الحال وافقت على عرض عمدة قريتها وسمحت له أن يأخذ فاطمة إلى منزل عائلة ثرية لكي تعمل عندهم مقابل مبلغ شهري يتم إرساله لهم كل شهر.
كانت فاطمة تستطيع بالكاد أن تكتب اسمها فهي لم تكمل دراستها ومرت الأيام على هذا الحال وحملت نور هانم في وعد وانشغلت عن ابنها شهاب الذي تعلق بفاطمة والتي كانت المسؤولة عنه في كل شيء.
كانت تحضر معه دروسه وتشجعه على المذاكرة حتى أنها تعلمت كل شيء معه ووضعت نور وعد فأصبحت فاطمة ترعاها هي الأخرى وتعلقت وعد بها أكثر من تعلقها بوالدتها حتى حدث شيء غير مجرى حياتها.
لقد حضر "مصطفى" الأخ الأصغر لسراج محيي الدين من إنجلترا بعد أن أتم دراسته وكان حينها شاب وسيم في العشرينات.
تبدل حال فاطمة التي كانت حينها في الثامنة عشر وكانت آية في الجمال ب*عرها الأ**د الطويل وعينيها العسليتان ورموشها الطويلة.
ف*ن بها مصطفى وتعلق قلبه بها وخاصة بعدما لاحظ ذكائها وعرض عليها أن يعلمها القراءة مع شهاب.
كانت نور متضايقة من هذا الوضع بع** سراج الذي كان يشجع فاطمة فقد كان يعتبرها بمنزلة ش*يقته الصغرى.
تعلق قلب فاطمة بمصطفى وأخذت الدموع تنهمر من عينيها عندما تذكرت الحادث الذي تعرض له وأودى بحياته وتركها خلفه تتحسر على فقدانه.
أخذت فاطمة تحدث نفسها:
-"لو كنت عايش دلوقتي يا مصطفى كان زمان حاجات كتير اتغيرت بس ما باليد حيلة كله قدر ومكتوب".
قامت من مكانها وتوجهت إلى سريرها لكي تأخذ قسطا من الراحة حتى تتمكن من إنجاز عملها في الغد.
▪▪▪▪▪▪▪▪▪
في اليوم التالي ذهبت فاطمة للقصر كعادتها وكانت سعيدة بعودة شهاب فهو يذكرها باليوم الذي عاد فيه مصطفى من إنجلترا وكذلك بسبب الشبه الكبير الذي يوجد بينهما.
دخلت إلى المطبخ وأمرت الطباخ بإعداد الأصناف التي يحبها شهاب وذهبت إلى غرفته لكي ترى إذا كان يحتاج لأي شيء.
دقت باب الغرفة ففتح لها شهاب فابتسمت له وأخذت تزيح الستائر حتى تدخل أشعة الشمس الغرفة ثم نظرت إلى شهاب وقالت:
-"مش عايز مني أي حاجة أعملهالك؟"
رد عليها شهاب ببرود:
-"لأ شكرا مش عايز حاجة وياريت تسيبيني لوحدي".
شعرت فاطمة بالإحراج بسبب معاملة شهاب لها.
لقد ظنت أن سنوات الغربة قد غيرته ولكنه لا يزال كما هو ولم يتغير.
لقد ان**ر كل شيء بينهما منذ سنوات طويلة ولا تعرف ما سبب ذلك فهو كان يرافقها في طفولته كظلها في كل مكان وكان متعلقا بها وبعمه مصطفى أكثر من تعلقه بوالدته ووالده ولكن بعد وفاة عمه هناك شيء بدّل حاله وهي لا تعرف ما هو هذا الشيء.
أخذ يعاملها ببرود وابتعد عنها وأخذ يتجنبها بل ووصل به الحال إلى إهانة مريم ومعاملتها بقسوة ومنعه لوعد من اللعب معها.
ظلت لسنوات تتساءل عن سر تغيرة حتى سافر إلى أمريكا وظنت أنه قد تغير ولكن ظل على حاله كما كان قبل سفره.