الفصل الأول
***********
هذه هي حياتي...وهذا هو عالمي...يمكنكم أن تتطلعوا لي من بعيد وأن تنتقدونني...ويمكنكم أن تسخروا مني...أو تستاءون من طريقتي في الكلام والتصرفات...ولكنني أقولكم بفم مليان...هذه هي شخصيتي..من يحبني عليه آسفاً أن يتحملني..كما أنا...لم أدعي يوماً المثالية...لم أدعي أنني أجمل بنت مصرية..ولكن من المؤكد أن خفة دمي ليست مختفية... من أجل ذلك أكتب مذكراتي لنفسي..كي لا أنسى يوماً من أنا...وكي لا يحاول أحد أن يغيرني بدعوى حبه لي...وكي يكون...
ـ ريتاج...يا ريتااااااج...
أوقفت ريتاج سن القلم على الورقة ونظرت باتجاه الباب حيث يخرج صوت أمها تن*دت بقوة وهي تكمل عندما عاد القلم ليتوقف مجدداً عندما علا صوت أمها مرة أخرى..
ـ ريتاج ...أنت فين يا بنتي...ليه مش بتردي...أنا صوتي اتنبح من الصبح...
زفرت بضيق وهي تضع القلم داخل دفتر مذكراتها وأغلقته ثم دسته في مكان آمن داخل مكتبها...وخرجت لأمها تلبي طلبها:
ـ خير يا ماما...بتزعقي ليه كدة...
نظرت الأم لابنتها قائلة بسخرية:
ـ صلاة النبي عليكي يا حلوة...النهاردة أجازة من الكلية ومع ذلك حضرتك حابسة نفسك جوة الكهف بتاعك...
ـ يعني يا ماما ..هو أنت طلبت مني طلب وأنا قلت لأ..
صاحت الأم بزهق:
ـ يعني هو أنا لازم أطلب..
ـ لأ طبعاً يا ست الكل..أنت بس تؤمريني أمر..وريتاج بنتك تحت أمرك...
ـ أممممم ..ماشي..اضحكي عليا بكلمتين..هو أنا هخلص من لماضتك....اتفضلي قدامي على المطبخ عقبال ما أشوفك في بيت عدلك يا ريتاج يا بنت قلبي يا رب...
لم ترى الأم وجه ريتاج الممتعض..فهي لا تكره في حياتها قدر تذكيرها بالزواج ..والعدل...وأن مصير أي بنت هو الزواج فقط...تعبت من كثرة ما حاولت إفهام أمها..أن طموحاتها أكبر بكثير من مجرد أن تكون تحت رحمة رجل الله أعلم بحاله كيف سيكون..متفهم..متسلط...عادي...رخم...ممل...
ـ ريتااااااج...أنت سرحانة في إيه؟...
ـ هه... ولا حاجة يا ماما...ولا أي حاجة...أنا بساعدك أهه....
ريتاج في السنة الثالثة من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية...دخلت الكلية برغبتها المطلقة فقد كانت تحب هذا المجال..عقلها الدائم التفكير كان يسعى لأن تكون مختلفة...ملابسها كانت محتشمة..ترفض إظهار أي جزء من جسدها بدعوى الحرية أو التمدن...وإن لم ترتدي الحجاب...فقد أرجأت التفكير في هذا الأمر لما بعد..رغم أمها التي لا تكف عن محاولة اخضاعها لارتدائه...ولكنها لم ترغب به إلا عن اقتناع كامل...
ارتدت بنطلون جينز وفوقه قميص طويل فضفاض يخفي منحنياتها البالغة الأنوثة...كانت جميلة ومستمتعة بنظرات الإعجاب بعيون زملائها... ولكنها لم تسلم قلبها لأي رجل ولن تفعل... أكملت تسريح شعرها الأ**د كجناح غراب على عجل فقد تأخرت عن موعد المحاضرة الأولى....وأسرعت لتلحق بباص الكلية الذي يمر في هذا الموعد...كان البيت كله نائماً...فلم يسمعها أحد وهي تركض حاملة حقيبتها على كتفها وأجندتها وكتابها على ذراعها ...ولا وهي تتعثر على الدرجات الأخيرة من العمارة المتواضعة التي يسكنون فيها في حي مصر الجديدة....نفضت عنها التراب بغيظ ولملمت حاجياتها وعادت لتسرع لتلحق بالباص...والذي شاهدته يختفي أمام عينيها وهي تض*ب بقدميها في الأرض بغيظ...فاليوم بدأ بداية سيئة...وهذا معناه...راقبت أتوبيس النقل العام المزدحم يقترب من المحطة وازداد يقينها أن يومها سيكون ...غير عادي...
عندما وصلت للكلية كانت متأخرة عن موعدها نصف ساعة كاملة..تأوهت وهي تركض باتجاه البوابات الضخمة التي تفصل عالمها عن العالم الآخر وكأنا تدخل كتاب مثير في كل حرف فيه...حقاً كانت تحب هذا العالم فعلاً..
صرير كفرات مزعج لم يثر انتباهها إلا عندما شعرت بألم هائل وهي تطير في الهواء ويطير معها حقيبتها وكتابها وأجندتها ونظاراتها الشمسية...مر كل شئ بسرعة فلم تدر ماذا أصابها حتى وجدت نفسها تستلقي على الارض أمام مقدمة سيارة فارهة وصاحبها يخرج منها مسرعاً نحوها يحاول الإمساك بيدها لمساعدتها:
ـ أنت كويسة يا آنسة...مش تاخدي بالك..؟؟
فجأة توقفت آلامها...وشعورها المبعثر كأشيائها التي تفترش الأرض...والتفتت لصاحب تلك الكلمات تحدق فيه وهي تتمتم:
ـ حضرتك بتقول إيه..أنا آخد بالي...وهي الست مامي لما أخدت منها مفتاح العربية بتاعتك النهاردة الصبح ..مسمعتهاش وهي تقولك..خد بالك يا ميدو يا حبيبي..سوق بالراحة يا ميدو يا روحي...خد بالك من إشارات المرور يا مدمودي... خد بالك من الناس اللي إيه ما سمعتش منها الكلام دا..؟
زفر الرجل بضيق وهو يقف قائلاً:
ـ من الواضح أن حضرتك دمك خفيف قوي...ويظهر أن عربيتي ما لمستكيش...اتفضلي لو سمحت قومي وبلاش تمثيل..أنا مش فاضي لتلاقيح البنات دي على الصبح...
شعرت ريتاج باحمرار شديد في وجهها وهي تتأمله من أسفل...وهمت بالهجوم مجدداً عندما شعرت بيدين أمن البوابة يحاول مساعدتها:
ـ آنسة ريتاج...إيه اللي حصل؟...
ثم التفت للرجل الواقف يزفر هواءاً حاراً كثور هائج:
ـ ولا مؤاخذة يا ليث بيه...اتفضل أنا هفتح البوابة...
وعاد ينحني ليساعد ريتاج بعد أن جمع أشيائها المتناثرة...تقبلت مساعدته وهي تشعر بألم رهيب في خصرها ...مكان الاصطدام...وعندما وقفت التفتت لصاحب السيارة المتكابر:
ـ لحظة واحدة يا.... على فكرة...أنت أنسان وقح..وقليل الذوق والتربية...
لم تبالي بشهقة أمن البوابة...وأخذت منه أشياؤها وانطلقت تدخل متجاهلة كل آلامها..وكذلك نظراته الشرسة المتوعدة خلفها..
.....يتبع.....