قبري او طريق جديد

1779 Words
سباستيان. "كان ذلك أبي." لم تبدُ على ملامحه الصدمة، كان يرمقني وكأنه ينتظر سماع باقي القصة حتى يدلي برأيه، وشرعت بالحديث متجنبًا الاصطدام بنظراته في نوع من الرهبة. إن حكايتك ليست المشكلة الأكبر..بل ذاك الذي يستمع. "قبل أن أفر من بلاد الجوع كان أبي وعمي يديران عملًا مشبوهًا ما، لم أعرف ما هو وكنت أكثر جبنًا من أن اسأل..شعرت بأن كل شيء حولي سيتلاشى ما أن أدرك الحقيقة. في ليلة ما ذهبت لكوخ رفيقي، الحق أنني لا أذكر اسمه حتى..كان السواد قد طلى عيناي بالفعل ما أن طرقت الباب." هيدال ينصت في تركيز، هيدال ينسى لايدا ونمره ويهز حاجبيه في حزن تارة وفي ترقب تارة، هيدال يراقبني بينما أبلع ريقي وأدعو بداخلي ألا أجزع بعدما أردف بكلامي التالي. "كان أبي يتاجر بالبشر، وكان رفيقي وعائلته من ضمن 'بضاعته' كما سماها..كانوا أمًا وطفلين إثنين. أخبرني صديقي أنه كان يمتلك ثلاثة أخوة آخرين قد ماتوا جياعًا كما أخبرني بأنه كان يعيش في قصر فخم يجهل مكانه قبل أن ينتقل لهنا. لكن ذلك كان صعب التصديق. المشكلة كانت أن أمرًا سري قد وصل لأبي وعمي ينص على أن يتخلصا من تلك العائلة تمامًا. حين اقتحمت الكوخ بحكم صدقاتي القوية مع رفيقي وجدت جثثهم منبطحة كأنها مواشٍ بلا ثمن، بل أنني لم أرَ قط مواشٍ تقتل بذاك الشكل. أصابني الهلع، صرخت، تقيأت، وحين رفعت عيناي بصعوبة كان أبي يقف أمامي برفقة عمي الذي لوح بخنجره في الهواء غير آبهًا بوجود طفل مثلي أمامه." هيدال مازال يستمع، أعرف أنه يريد مواساتي لكنه مازال ينتظر تلك اللحظة التي أنهي فيها القصة. "أردت أن أنسَ كل ما رأيت فهرعت للخارج وركضت مبتعدًا قدر استطاعتي، تبعني أبي مناديًا لي مرارًا. كان يلفظ بمبرر رديء بعد كل مرة يذكر بها اسمي، 'لقد كان يجب أن أفعل ذلك'، 'انت لن تفهم أهمية هذا الآن'، 'ما أفعله هو دائمًا الأفضل لك' ، كنت في حال سيئ لا أقدر على التفكير به. تلك اللحظة التي كنت أحاول تجنبها بدت وكأنها تحاصرني باستماتة وتأبى أن تتركني على جهلي...الذي لم يكن بالضبط جهلًا. كنت أعرف منذ عدة أسابيع أن أبي يتاجر بالبشر كما كنت أعرف بعلاقة عائلة صديقي بأبي، لكنني تجنبت الأمر، هربت منه كأنه لم يكن ثم هربت من أبي كأن الركض سينجيني." رفعت عيناي نحوه وراقبت الدموع متكدسة في مقلتيه، اختلط علي الأمر فلم أعد أفهم إن كان يبكي لأجلي أم أنها دموعه القديمة تأبى أن تجف. "في لحظة ما ضاق ص*ري وتوالت على قلبي النبضات، رفعت جذعًا خشبيًا ثقيلًا لا أعرف كيف تحملت وزنه وإنتظرت أبي حتى عثر علي. كان مايزال يلفظ بأعذاره الدنيئة. فجأة لم يعد يبدو كأبي..بالرغم من أنه لم يبدُ كذلك من قبل، لكن الأمور صارت مختلفة في تلك اللحظة. شيء ما بداخلي كان يخبرني أن أنتقم لصديقي وعائلته، أن أنتقم لنفسي ولكل شيء تلاشى فور أن رأيت الحقيقة..أن أتخلص من هذا الوحش الذي يأخذ خطواته نحوي في تردد وكأنه يرى نواياي مكتوبة في عيني." "ثم قتلته؟" "هل ستصدقني لو قلت أني لا أذكر؟ كأنني غفوت لبرهة ثم صحوت فوجدت جثة دامية بين قدماي. صوتي صارخ لكن أذني لا تستمع، يدي تنهال عليه بالضرب لكن عيني لا ترى. عندما عدت لوعيي كانت الدماء تغطي وجه أبي ورأسه فلم أستطع رؤية نظرته الأخيرة. ركضت وركضت..إبتعدت كما لم أبتعد من قبل، أقف في ركنٍ وأتقيأ ماعدتي ثم أكمل الركض باكيًا، أصرخ في هلع وأصدم رأسي بالأشجار والأرض ثم أتقيأ مجددًا ومجددًا. كانت أيام قليلة حتى عثر علي مدرب من سورد وتوسلت له أن يصحبني مع فرقته الصغيرة الى أي وجهة يريدونها. وهذا حين قابلتك لأول مرة." كان ذلك إعلان عن نهاية قصتي، ضم هيدال رأسي بإحكام كأن ذلك هو نوع المواساة الوحيد الذي يعرفه. أخبرني بأنه لا بأس بعد الآن..أن كل شيء بخير، أنني فعلت ما رأيته صوبًا. وبالرغم من أن ذلك لم يكن صحيحًا بالمعنى الحرفي إلا أنني شعرت بالسد بيننا يُهدم أخيرًا. الآن نحن السيسن والقاتل ولا يوجد مانع من أن نصبح اسوأ معًا. كانت ليلة مزدحمة بالقصص والحقائق والذكريات، كانت ليلة من تلك الليالي التي لا تنسى. ولكن القدر يعشق وضع الأيام الأجمل قبل الاسوأ دائمًا. بعد أيام قليلة جاءت دفعة جديدة من الجنود يأمرون بإصتحاب ماتيلدا للملك، والسبب هو شك القصر الملكي في أن العائلة قد ساعدت إبنتهم في الهروب مخلفين لوعدهم. مهزلة كبيرة لم يستطع أحد إيقافها، كنت أراقب جنديًا يجر ماتيلدا من ذراعها بلا لين يُذكر..ملامحه تتململ ب'لنلقيك بين يدا الملك ونرتاح'، روح المخاطرة المقيتة في دمائي زادت نشاطًا فجأة وكنت في طريقي لمحاربة ذلك الجندي بيداي العاريتين. 'إتركها يا بن الع***ة!' أردت أن أصرخ بذلك. قبل أن أصل له جذبني جندي آخر وثبت ذراعاي خلف ظهري وكأنه قد قرأ ما انا موشك على فعله، شتمني بعض الشتائم الب**ئة ثم أردف "هل ترغب في الموت؟" الحقيقة أنني لم أكن أمانع، أو ذلك ما كنت أظنه حينئذ. شتمته بالمقابل وأخبرته بألا يتدخل، لكنه لم يفلت ذراعاي. استمررت بالصراخ كطفل أبله يرغب بالمقاومة فحسب. لمحت هيدال يسرع نحوي في الأفق. اعتذر للجندي عدة مرات عوضا عني وقضيت تلك اللحظات أمعن التحديق في الجندي بذيء اللسان وكأن شيء ما به كان مهمًا. "سيباستيان، علينا أن نعود للتدريب." أخبرني هيدال، وتوسعت أعين الجندي بخفة قبل أن التفت وأتبع هيدال هادئًا، متخليًا عن كرامتي ورغبة المقاومة. حين حل الليل جاء أحد رفاقنا لخيمتي، أخبرني أن جنديًا قد طلب رؤيتي وحصل على موافقة المدرب. ارتديت ملابسي ثم خرجت متجهًا نحو المكان الذي وصفه الرفيق. والذي إتضح أنه نفس ذات المكان الذي كنت به صباحًا، أقف أمام ذات الرجل الذي شتمته وشتمني. "ماذا؟" تظاهرت بالوقاحة، وأص*ر ضحكة استهزائية ثم أردف:"بالصدفة، هل أنت سباستيان أريدور إبن تاجر البشر؟" سؤال مباغت كان يعرف إجابته، لكنه أحب رؤية ملامح الذعر على وجهي. أخذت بضع خطوات للخلف وأجبته محترسًا:"من انت؟" "لا داعِ للخوف، لست عدوًا..لكنني قد أصير كذلك حسب ردك على سؤالي التالي." قال وكنت قد أدركت بأنه شعر بسلطته علي بالفعل. إن أكثر ما كنت أخشاه هو أن أدفع ثمن غلطات والدي. ولعل ذلك هو ما جعلني أقتله في لحظة غضب لست نادمًا عليها. لكن الجندي الواثق هاهنا كان يبدو وكأنه يعرف المزيد، إنه لشعور خانق حين يعرف أحدهم تفاصيل قصتك أكثر منك انت صاحب القصة بشحمه ولحمه. سؤاله كان بمثابة سكين فوق عنقي، بمثابة صخرة ضخمة سيفلتها في أي لحظة فتهشم كل عظمة بي، عرض علي الجندي الأشقر شديد الدهاء الانضمام لعصابته التي أطلق عليها إسم 'التاكينسكي'. لم يترك لي الفرصة للرفض او التفكير، كان متيقنًا من هويتي. وقد أخبرني بأن عمي قد استكمل العمل بعد وفاة والدي بشكل سري دنيئ وأنهم يحتاجون من يتخلص منه هو الآخر. كل ذلك كان متوقعًا بالنسبة لي فرفضت عرضه في شجاعة بلهاء. "اذا كنت تعرض علي ذلك فهذا يعني أنك تعرف بأنني قاتل والدي بالفعل..وانا لم أهرب حينها لأعود بعد عدة أعوام لذات الجحيم السابق." كان ذلك ما قلت. وجاء رده فورًا:"قُتل ثلاثة أفراد من عائلة ميين الملكية على يد والدك قبل أن يفقد حياته، سأدعك تتخيل ما قد يحدث لك اذا ما وصل لأمير ميين خبر وجود إبن أريدور هنا." سرت رعشة سريعة من رأسي حتى اخمص قدماي. ما الذي قد تفوه به هذا الرجل للتو؟ أفراد عائلة ميين وأمير وموت، هل كان هذيان صديقي القديم صحيحًا إذًا؟ ما الذي جاء بالملكة وأبنائها الخمس لمملكتنا؟ كيف صارت أعناقهم بين أكف والدي من بين كل البشر؟ الكثير من الاسئلة كانت تخالجني، الكثير من الأسئلة التي لن يبذل هذا السيد عناء الإجابة عنها دون أن يسحب موافقتي على الانضمام لعصابته من بين شفتاي سحبًا. "فقط لعلمك..أبناء هذه العائلة كانوا أصدقائي، وإلا ما كنت أقف هنا الآن وأبي واراه التراب." أخبرته بحدة فارتسمت بسمة صغيرة لم تبدُ خطيرة على شفاهه، إنه متناقض مريب. "أعرف هذا، ولذلك عرضت عليك الإنضمام لنا. لك أن تتخيل ما قد تحققه من إذا فعلت. الحياة هنا بلا فائدة تذكر، العائلات لا تمتلك أدنى قدر من الحرية. لقد سلبوا الأسرة المسكينة فتاتيهما في ليلة وضحاها ولم يقوى أحد على الاعتراض! مثلاً، هل يبدو لك رفاقك كجنود مستقبليين؟ هل ترى في هؤلاء الذين وقفوا يشاهدون خطفًا علنيًا دون أن يتحرك واحد منهم رجالًا أشداء تأمن على مملكتك معهم؟" "لست ملكًا، لذا لا أعرف." "دعني أخبرك أن التهرب من السؤال لا يخفي إجابتك الحقيقية كما تظن، لقد رأيت الغضب في عينيك عندما اصطحب الجنود 'ماتيلدا' قبل غروب الشمس. انت لست مثلهم، انت من مَن نحتاجهم نحن." "ومن أنتم؟" "نحن عصابة التاكينسكي، سنجعل من هذه الممالك المثيرة للشفقة مملكة جديدة لا يُقتل بها من لا يستحق الموت، ولا يعيش بها أمثال أريدور. ونحن نحتاج لك." لا تخضع له، إنه يتلاعب بعقلك فحسب. يستطيع أي طفل أن يضع الكلمات في جملة حماسية تبث التمرد في روحك لكنه لن يكون موجودًا حين تدعسك الأيام والليالي كأ**ق ساذج. إن عيناه تمتلك تلك الشرارة التي تذكرني بذاتي...لكنه يتلاعب فحسب. نبرته ملحمية تصيب تلك المنطقة الحساسة في باطن قلبي...لكنه يتلاعب فحسب. كلماته صادقة خالية من أي تصنع، وجهة نظره بعيدة المدى تستحق الاحترام..لكنه، وبالرغم من كل هذا يتلاعب فحسب. "لا شيء يدفعني لتصديقك، الكلمات لا تبدو مقنعة وحدها." احتججت، لم ينزعج الرجل من الأمر وسأل في استفسار هادئ:"ما الذي سيقنعك؟" "اذا كان ما تقوله صحيحًا فأريد أن أرى عصابتك، أريد أن أسمع أمير ميين يصف عائلته أمام عيناي...أريد أن اتأكد من أنني لا أقف أمام جرذ آخر يراقب الجنود يسلبون العائلات ابناءهم ملتزمًا الصمت." توقعت خنجرًا يغرس في عنقي وربما أن يضربني بالصخرة الضخمة التي تخيلته يحملها، توقعت أن ينسحب ويتركني أهذي وحيدًا أو أن يتهمني بالجنون والخيال الواسع. لكنه لم يفعل هذا ولا ذاك، مال الشاب علي هامسًا باسمه في خفوت ثم أخبرني أن أناديه ب 'العميل5'، واومأ موافقًا على كل ما قد طلبت. إنه يبدو مسالمًا الآن..لكنني كنت أعرف في أعماقي أنه مازال يتلاعب فحسب. فور أن أخطو لتلك المنطقة التي تسيطر عليها عصابته سيقتلني قائلًا أني عرفت أكثر مما ينبغي أن أعرف وعليه أن يتخلص مني الآن، لن أستمع للأمير يحكي لي عن رفيقي حين كان أميرا هو الآخر. كل ذلك بدى كمحض كذبات صغيرة ستتلاشى بعد قليل. وبالرغم من هذا حزمت أمتعتي القليلة وفررت برفقة صديقي الجديد نحو 'المقر'. تركت هيدال خلفي بعد أن راقبت وجهه النائم طويلًا. أعتذر هيدال، لكن كلانا يعرف أن هذه الخيمة ليست المكان المناسب لأي منا. سأنطلق في رحلتي وأعود لك بقصة أخرى...وربما ستنتهي حياتي قبل أن أحصل على ما أحكيه لك من الأصل. ذاك المقر سيكون قبري أو طريقي الجديد. _________________________________________ في الفصل القادم: "هل تثقين به؟" سألتني والدتي، في مشهد غريب لم أكن لأتوقع حدوثه قبل قرابة الستة عشر شهرُا من الآن. جلست في غرفة ضيقة تحوي كرسيين إثنين وسريرًا صغيرا لا يبدو مريحُا جدا. غرفة أمي كما سماها مايڤ، وسجن قبيح على رأي هذه المرأة. لا أعرف متى صار وجهها شاحب لذلك الحد، كنت دائما واثقة من قوة أمي وصرامة شخصيتها التي كنت أتيه بها مرارًا..لكنها في هذه اللحظات بدت كغصن م**ور لا أكثر، أو ربما أنها كذلك منذ البداية. "من تقصدين؟" سألتها، أي نوع من الأمهات يسألن أطفالهن هذا النوع من الاسئلة الغامضة في لقاء جاء بعد قرابة عامين من البُعد؟ "ذلك الرئيس، العملاء هنا معجبون به كثيرًا. ذلك الذي يهيم به الناس إما أنه ملك او و*د كبير." ساخرةً كانت، هي لا تتذمر ولا تشكي ولا يبدو عليها الحنين بقدر ما هو بادٍ عليّ. لا أستطيع أن أجزم بأنني توقعت أكثر من هذا عندما طلبت من مايڤ أن يصحبني لها، لكنني على الأقل كنت أنتظر عناقًا. ________________________________________
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD