ليلة في النهر- الجرء الثالث

2564 Words
كان يستمع لأصوات عديدة لا تنتهي، كل صوت يمتلك قصة ما ويحتويه مشاعر ما، تارة تختلط الأصوات فيعجز عن مواكبتها وتارة تهدأ فيغدو قادرًا على فهم كل قصة على حدى. جلس هناك لفترة من الوقت، كان الفجر قد طلع لتوه والهواء خفيف بارد يلسع جلده. أخذ يوزع النظرات حوله بكل حيرة ممكنة..من أين تأتي هذه الأصوات؟ من المتحدث؟ هو وحده هنا بلا شك، ولا روح تتواجد على مرمى بصره. كان يعرف أنه إبتعد بقدر كافٍ، حتى أن ثلاثة أيام أخرى من السير ستخرجه من الغابة. لكن أغلب الأصوات كانت تعود لجنود يتذمرون وأطفال ينوحون. وكان يعلم أن من تبقى في 'ڤيس' هم فقط الأطفال والجنود. لم يجد تفسيرًا لما يحدث، ولم يدري إن كان ما رآه حلم أم حقيقة..لكنه كان ممتنًا لأن كتابه مازال برفقته، كتاب مهترئ قطعت بعض من صفحاته ولطخت دماءه بعض آخرين. أمسك به وكتب كل ما يذكر عن 'حلمه' على أي حال. تفقد جرحه، وكان الجرح طفيفًا كأنه خدش سطحي ما. وإنتابته الحيرة مجددًا، فكيف لكل هذه الدماء أن تنزف من خدش بهذا الصغر؟ أدرك الكاتب أن شيئًا خياليًا قد حدث، لقد ضم ڤيرونا، وكان الأطفال الذين تلمسهم ڤيرونا يتعافون بشكل سريع وغير واقعي، مثلما حدث معه تمامًا. هكذا عرف أن حلمه في الحقيقة لم يكن حلمًا. وأن ڤيرونا قد قابلته، وتحدثت معه، وأمرته، وضمته، وتذكر دفئ جسده وغرابة مشاعره حينئذ. يستحيل أن يكون كل هذا محض حلم. يقول الكاتب أن شخص ما كان قريبًا منه، وكان يسمع قصته بوضوح أكثر من القصص السابقة. وعرف منها أنه جندي من جيش باكيز، وقد قرر أن يسرع باللحاق بباكيز وجيشه الذين يتجون بهمه نحو 'أرض السحرة'، وكانت كل كلمة يقولها الجندي تزيد من حيرة الكاتب أكثر فأكثر. أمرته ڤيرونا بأن يذهب خلف المياه، فأي مياه تقصد؟ ومن الذي يود بقاءه أو نهايته؟ سأل الكاتب نفسه، وإستنتج أنه كان يرغب ببقاء الرضيعة أكثر من أي شيء آخر. وهنا لم يعد التفكير والإستنتاج كافٍ ليرضي فضوله، فحمل عصًا خشبيه سميكة بدت له كجذع شجرة م**ور..وسعى نحو الجندي. 'سأجعله يخبرني بما يحدث' كانت نيته، وهنا بدأ يتبع حدسه في العثور على الجندي، لم يعرف الكاتب من أين له كل تلك الشجاعة، ومن أين له هذا القدر من الثقة، وكيف يسير في هذه الطرق وهو يعي ويعرف أنه سيصل للجندي عبرها؟ هو يعرف الخريطة جيدًا، ولكن هذه القدرات تفوقه طاقة، وهذا الحدس أقوى من اللزوم. لمح الكاتب جنديًا هزيلًا يرتاح خلف شجرة ما، فعرف أنه هو الرجل الذي يسمع قصصه، وضرب كتفه بعصاه السميكة ليطلق الجندي صرخة عالية مرتعبة. دفع الكاتب بسيفه بعيدًا حين لاحظ أن الهزيل من أمامه يحاول الوصول له، وجذب ملابسه بعزم قائلًا: "ما الذي يحدث؟" كان الجندي ينظر لعيناه بدهشة حمقاء. "من هذا المجنون؟ اليس من المفترض أننا أبدنا كل من ب'ڤيس'؟" "كل من ب ڤيس ؟ وماذا عن الرضيعة؟ ماذا عن ڤيرونا ؟" تساءل الكاتب، وذكر أنه كان يستمع لحديث الجندي دون أن يتحدث الجندي، بشكل أدق..كان الكاتب يستمع لما يدور بعقله، وكأنه يتطفل على أفكاره، وأفكار الجميع. إرتعد الجندي في ذعر وعقد لسانه أثناء محاولته لأن يجيب. فهزه الكاتب بعنف وكرر سؤاله. "ڤيرونا ليست موجودة، لقد اختفت، لم يرها أحد منذ وصولنا." قال الجندي في علثمة طفيفة. كان الكاتب يفوق الجندي قوة بلا شك، و قدرة الكاتب على قراءة أفكاره أربكته. وكان ينظر لأعينه وكأنه يرى إنفجارًا فيهما..ويعجز عن غض بصره مهما حاول. "والرضيعة؟" سأل الكاتب. "لا أعرف، لقد فازت رضيعة ما في الاختيار، ولكن باقي الرضع والأطفال تم إعدامهم منذ عدة أسابيع." عدة أسابيع؟ سرت رعشة سريعة في جسد الكاتب. أكان نائمًا لعدة أسابيع؟ لقد شعر بأن رؤيته قد دامت لعدة دقائق على الأقل. وكيف له أن يبقى حيًا لعدة أسابيع دون عناية تذكر؟ واذا تم إبادة جميع الأطفال..فلمن تلك الأصوات التي كان يسمعها؟ كثير من الأسئلة كانت تراوده، وأيقن أنه قد تأخر كثيرًا..لقد تم إعدام الجميع بالفعل. "ما هو الاختيار؟" تحدث الكاتب، وأجابه الجندي بخضوع:"أراد القائد باكيز طفلًا يزرع به سحره ويساعده على الحكم." "ومن إختار؟" "لم أكن هناك، لكنني سمعت أنها رضيعة ضئيلة موشكة على الموت." هنا خفق قلب الكاتب بعنف، إنها حية. هذا ما كانت تقصده ڤيرونا في رؤيته بلا شك. هي تريده أن يذهب لحيث تقبع الصغيرة. عرف الكاتب من أفكار الجندي خط سير باكيز، ورأى مشهدًا مشوشًا لسطح واسع من المياه ترتكز به بعض من المراكب الخشبية ذات تصميم لا يألفه ولم يره في الكتب قط. كان هذا الجندي قادمًا من خارج أليمندرا. هذا ما أدركه الكاتب. وهنا ألقى سؤالًا أخيرًا:" انت لست من أرضنا، من أين جئت؟" بلع الجندي ريقه، كلما يهدئ من روعه يلفظ الكاتب بجملة أخرى تثير رعبه، كيف له أن يعرف كل هذا؟ كان يتساءل. "من أرض السحرة." كان الجندي الهزيل من أرض السحرة، ولذلك كان يدرك أن الكاتب من أمامه يمتلك نوعًا مميزًا من القدرات..ولم يشأ أن يعبث معه، فما هو إلا جندي إنضم لجيش باكيز على مضض، وتبعه على مضض، قتل بعضًا من السكان على مضض، وحبس الأطفال على مضض، وها هو قد وقع في مصيدة لرجل غاضب ذو أعين مهيبة تلتقط ناظريك كالمغناطيس، ويتم استجوابه على مضض. "دلني على الطريق." أمره الكاتب، وسحب السيف من على الأرض بسرعة. كان على وشك أن يشير به في وجه الجندي، لكنه قاطعه مردفًا: "لا تحتاج لتهديدي، سأدلك على الطريق، ولكنه طريق وعر، وأرض السحرة أرض تعج بغريبي الأطوار." اومأ الكاتب، وهكذا بدأت رحلته نحو أرض لم يسمع عنها قط. وكانت رحلة كهذه تثير فضوله وشوقه ككاتب، وتثير غيظه وغضبه كرجل فقد أرضه و 'عائلته' في لمح البصر. استغرقا في الرحلة عدة أشهر، فالطريق التي قطعها باكيز وجيشه على الأحصنة عبرها الكاتب ورفيقه على الأقدام. وكانت طريقًا وعرة كما ذكر الجندي. إكتشف الكاتب أن هنالك أماكن في الجنوب لا يعرف عنها شيئُا، وأدرك أن جنوب أليمندرا أكبر مما كان يعتقد، فقد مرا بمسقط رأس الكاتب، وعبراه، وسارا سيرًا طويلًا، ثم عبروا نهرًا فياضًا كان الكاتب يذكر إستحمامه به في صباه..وسارا مجددًا حتى قطعت أنفاسهما. كانا يتناوبان على النوم ليلًا في أي مكان يحلو لهما، وكلما تعمقا في الجنوب أكثر كلما قلت الحيوات حولهما، وصار من النادر رؤية عجوز ما وإلقاء السلام، أو رؤية حيوان مفترس يتجنباه. وبدى العالم لهما وكأنه خلق لهما فقط، فكانا يسرحان في الخلاء، ويحدقان في السماء مطولًا حتى يغرقان في أفكارهما..وينسا كل تلك الأفكار ما أن يستفيقا من شرودهما. كتب الكاتب العديد من الصفح عن أفكاره ونظرياته، وكتب عن طرق متنوعة كان يؤمن بأن إتباعها سوف يقود شعوب أليمندرا للأمام. كتب عن أشياء متنوعة سريالية كما يقبع وراء النجوم، وإن كان يمكن للبشر والح*****ت المفترسة أن يصيروا أصدقاءً؟ وكتب عن رغبته في أن يصير أبًا. ثم كتب عن غضبه ومقته، ورغبته في شق رأس باكيز لنصفين، وفضوله نحو هذه الأرض التي يتجهان لها..وتساءل، أما زالت الرضيعة حية يا ترى؟ في نهار ما، وبعد أن كاد الحر يذيب جسديهما هتف الجندي "لقد وصلنا!" ورفع الكاتب رأسه..فرأى مساحة ضخمة من الماء، ضحمة لتلك الدرجة التي تجعله يرى ما يقبع خلفها كظلال تكاد تتلاشى في أي لحظة. وكلما كانا يقتربان، كانت سعادتهما تقل، ونبضاتهما تتسارع..أعينهم تتوسع في صدمة عارمة، وتعجز ألسنتهم عن الحديث. لقد كان الماء أحمرًا، أحمرًا فاقعًا بلون التفاح والكرز والزهور، أحمر فاقع بلون الدماء. أراد الكاتب أن يسأل ما إن كان هذا لونه الطبيعي، وعرف إجابة سؤاله فور أن نظر نحو رفيقه. كانت أعين الجندي مليئة بالذعر، وقف على الشاطئ يحدق بالمياه وتداعب الأمواج الطفيفة أطراف أقدامه فيصتبغ حذاؤه الرث بالأحمر. ولم يستفق من صدمته إلا حين رأى ما رأى، فشهق شهقة مهتزة، وغرس قدميه في المياه غير مباليًا بتلوثها. صاح عليه الكاتب متساءلًا عما يفعل، وعاد له الجندي بعد عدة دقائق..يحمل بين ذراعيه ساقًا مبتورة. 'إنها مجزرة' أدرك الإثنين، فغلب اليأس الجندي، وسيطر الغضب على الكاتب. قرر الكاتب أنه سيعبر هذه المياه مهما كلفه الأمر، وآثر الجندي أن يبقى هنا ويرثى أشلاء رفاقه. لم يبالي الكاتب به كثيرًا، لقد كانا مختلفين أشد الإختلاف، فهذا عائد لجيشه كي يحيا، وذلك ذاهب لجيشهم كي يَقتل ويُقتل. دفع الكاتب بمركبة صغيرة ترتخي هي وأخريات مثلها على الشاطئ، وكان يدرك كيفية إستعمالها إثر ما قد رآه وسمعه من أفكار وذكريات الجندي. أقلع في المركب وحده. جذف حتى شعر بعضلاته تتقطع، ولم يستطع أن يتجاهل كل تلك الأطراف والجثث التي كانت تطفو حوله في كل مكان. فكان يتقيأ احيانًا، ورسم منظرًا في كتابه يصور به المشهد من حوله. كان منظرًا تنقبض له القلوب. وتعجز الألسنة عن لوم الجندي ما أن تراه الأعين. كان الكاتب قد أخذ سيف الجندي معه، وكان مستعدًا تماما للحرب. إستغرقه الأمر بضعة أيام ليعبر المياه، والذي أدرك أنها نهر آخر لم يكن يعرف سكان أليمندرا عنه شيئًا. وأدرك أنه لم يكن بذاك الكبر، لكنه حتمًا أكبر من النهر الذي يعبر بمسقط رأسه. وحين وصل الكاتب للشاطئ، ونزل عن قاربه..وسار لبضعة أقدام، ثم وزع نظرات إستكشافية حذره من حوله، لم يجد روحًا واحدة. كان الشاطئ مليئًا بالجثث، وكانت هذه مشكلة، فقدرة الكاتب لا تسري على الأموات. كان يريد حياة واحدة فقط، ينظر لعينيها او حتى لا ينظر..فيعرف ما جرى، ويرى ما رآه هؤلاء البؤساء، فيصير هو الجميع..ويبقى الجميع فيه. وفجأة إقتحمت عقله ذكريات عديدة وأفكار جمة لا تحصى. شعر بدفئ يجتاح كل جزء منه، وكان يسمع صوت بكاء مرهق وكأنه صوته، رأى جنودًا يسحبونه، رأى نفسه، ورأى باكيز. رأى هذا النهر حين كان أزرقًا باهتًا، ورأى الكثير من القوارب تجذف أمامه. إنها قدرته، قدرته تعمل. وإن هذه الذكريات والأفكار تعود لرضيعته بلا شك. عاد يوزع نظرات مفزوعة متلهفة في كل جزء يقابله من هذه الأرض، يبحث عنها. اذا كان يستمع لأفكارها..فهي قريبة لا محالة. عاد بعد برهة يرى مشاهدًا موحشة لغرفة داكنة مليئة بالرجال، يرتدون عباءات غريبة المظهر ويرمقونها بشفقة وشر ممتزجين. هتف أحدهم ببعض من الهراء فبدأت الرضيعة بالبكاء، وكان يعلو صوت البكاء بشدة كلما إقترب منها الرجال. شعر الكاتب بخوفها في قلبه، وكانت مشاعرها تمتزج مع مشاعره حتى أنه في لحظة لم يعد يدرك..أهذا الذعر مني أم منها؟ رأى الكاتب 'باكيز' يلعن ويصفع الصغيرة بقسوة، ورآه يتذمر ويشكو ويهدد الرجال أن 'يعيدوا الكرة' فيرد رجل بخفوت أن هذا قد يؤدي الى موتها..فقد لمستها ڤيرونا، ولا سحر يفوق قدرة ڤيرونا. فيقوم باكيز بصفعه، ويكرر أمره، فيعيدون الكرة مرة، وإثنتين، وثلاث، فلا تموت ولكن تبكي وتبكي..ولا يضمها أحد. سقط جسد الكاتب أرضًا، يستمع ويستمع، ويراقب ذكرياتها بلا توقف، وكان ما يزال غير قادر على التحكم بقدرته، ويعرف في قرارة نفسه أنه كان ليوقف كل هذه الذكريات لو كان يقدر، ولكنه لا يقدر..وعليه أن يراقب بجد حتى ينتهي هذا الكابوس. باكيز يصرخ مجددُا، يسأل إن كان كل الأطفال قد إعدموا فيومئ الرجال، ويلعن باكيز. هو يريد طفل آخر، إن السحر لا يجدي نفعًا على هذه الرضيعة. يستيقظون في ليلة على صراخ مرتعب فيهرعون نحو غرفة الصغيرة، ويراقبون حراسها جميعًا مقتولين، فيضحك باكيز بنصر..لقد نجح السحر. لقد نجحت خطته، والآن صار حاكمًا للعالم، وسيذبح كل من يعترض طريقه كأنه لم يكن..فهو يمتلك السلاح الأقوى، وكما أسماه 'الڤيرودوس'. في الليلة التالية تمامًا، صار الجيش كله محض لحم ودماء، وتناثرت أشلاء باكيز ورجاله في كل حدب وصوب، وقتلت الكتيبة التي أرسلت لتعبر النهر وتحضر طفلا آخر من أليمندرا، فتغذت على أرواحهم المياه التي خرج منها الكاتب لتوه. وكان آخر ما لفظ به الرجال حين كان الموت يلتف حولهم هو أن السحر قد خرج عن سيطرتهم، وآخر ما فعله باكيز هو أن إمتطى خيله وسارع بالهروب..فقتل فوق خيله في ثانية سريعة، حتى أن الكاتب لم يكن يدري كيف قُتل. أدرك الكاتب أن هذه المجزرة لم تكن من فعل وحش ما كما خال...بل هي رضيعته فحسب. ففرك جبينه، وأطلق تنهيدة طويلة مثقلة بالهموم. ورفع رأسه الذي أنهكته الذكريات..فراقبت أعينه حزينة النظرات أيادٍ صغيرة تدب الأرض، وجسد ضئيل يسير على أربعٍ، وأعين متلهفة..وملابس خفيفة تلطخها الدماء..وجلد أبيض ناعم لا تشوبه شائبة. راقبت أعينه الحزينة تلك الصغيرة تهرع نحوه، وفتح ذراعيه مرحبًا دون ثانية من التفكير..فدخلت بينهما الصغيرة، وضمها بإحكام. شعر بثقلها على ص*ره، وبدفئها فوق دفئه، وكانت الآن تجيد لفظ بعضٍ من الحروف. فكونت جملًا لم يفهمهما، وقالت كلمات لا يعرف لها معنىً. ها قد عبر المياه، وإنتهى من أراده أن ينتهي، وعاد له ما كان يريده أن يعود..ولكن قلبه ينتفض متوجعًا، وتذرف عينيه دموعًا لا يستطيع إيقافها. فإن في داخل هذا الجسد الصغير روحًا لرضيعة ببراءة الملائكة..وروحًا لشيطان يتعطش للدماء. وكان الكاتب يعرف مما رأى أن رضيعته هي نتيجة مشوهة لسحر قوي لم يعمل، فكان يفترض أن تتماهى روح الصغيرة وتبقى روح الشر، وكأنها تموت ويحل مكانها شخص آخر. وكان يفترض أنها خاضعة لإمرة باكيز، فتقتل من يريده أن يموت، وتبقي على حياة من يريده أن يبقى. ولكن السحر لم يعمل، فترك له رضيعته بهذا الحال المزري. وعلى الرغم من ذلك كان الكاتب ممتنًا. إنها الآن في حضنه، وهي في مأمن بين ذراعيه. كان الكاتب ممتنًا، لقد كان ذو نفع لأحدهم لأول مرة. لقد أنقذ روحًا، وسيحمي هذه الطفلة الوحيدة من أن تموت وجسدها بارد، نحيف، يضج بالألم. كان ممتنًا لڤيرونا، ولقدرته التي آلمت رأسه، وللجندي الذي دله على الطريق، وللصغيرة التي هرعت نحوه من بين الجثث، فأحيت قلبه مجددًا. عاد الكاتب أدراجه بعد أن بحث حول المكان عن ساحر واحد حي، كان فضوله شديدًا، وود لو يعرف من أين جاءوا؟ ومن علمهم السحر؟ ولكن اليأس قد غلبه حين جال حول الأرض كلها، وإكتشف أن كل من كانوا يعيشون هنا قد أدركهم الموت، وأن النهر يحيط بهذا المكان من كل جهة ومن كل حدب وصوب، انه محض أرض تسبح وسط المياه..وهو لا يرى حولها سوى المياه فقط. لم يجد الكاتب رفيقه الجندي على الجانب الآخر من النهر، فإعتمد على ذاكرته في العودة لمسقط رأسه، وعاش هو وصغيرته على الفواكه التي يمرون بها، أو المؤن التي جمعها الكاتب من أرض السحرة، وإكتشف الكاتب في طريق عودته أن الروح القاتمة بداخل الصغيرة تزداد قوة كلما فارقها، وتكاد تتلاشى اذا ما أمسك الكاتب بيدها، أو ضمها، أو حملها. سجل الكثير من المعلومات عن ظاهرة ' الڤيرودوس' في كتابه، وسجل الكثير من المعلومات عن قدرته. ورسم خريطة للأماكن التي إكتشفها حديثًا. وحين عاد لمسقط رأسه، أخبر الأجداد أن هذه هي إبنته..وأسماها 'إيلي'. ولم يكن يفارق يدها للحظة واحدة. رافقته إيلي في كل مكان ذهب له، رافقته حين جمع كل اليتامى الباقين من 'ڤيس' وعاد بهم لأرضه، ورافقته حين كان ينفذ تجربة لسحر نمر من أرضه، وكان قد رأى طريقة السحر في ذاكرة 'إيلي'..فقد كان السحرة خلف ذلك النهر يسحرون الخيول. فشلت التجربة مرة، ونجحت مرة. وسجل الكاتب في كتابه طريقة لسحر الح*****ت المفترسة بعد أن سحر كل حيوان قابله. فصارت أرضه آمنة للبشر. مرت الأعوام، وكبر الأطفال، وصار سكان أرضه كثر..وأثبت الكاتب أن الح*****ت المفترسة تستطيع أن تعيش مع البشر في أمان. وكان يعرف ما يجول بخاطر الناس إثر قدرته فكان يأتي لهم بما يريدونه دون أن يطلبوه. فأطاعه الناس، وأحبه الصغار والح*****ت. ولقبه البعض بالملك والحامي. ولكنهم كانوا يخشون 'إيلي' ويتجنبونها، ويعتقدون أن النظر في عينيها يجلب النحس. الحق أن إعتقادهم لم يكن خاطئًا. كانت القوة بداخل 'إيلي' تنمو بشكل سريع، وكان الكاتب يعرف أنها ستفوق قدرته في يوم ما..وسيراقبها تريق الدماء أمام عينيه ويغدو عاجزًا عن إنقاذها او إنقاذ ضحيتها او حتى إنقاذ نفسه. وكتب الكاتب في الصفحات الأخيرة من كتابه أنه سيترك هذا الكتاب في عهدة شاب ما، شاب طيب القلب دافئ الأعين. شاب يأمن الكاتب على كتابه معه. وسيبتعد برفقة 'إيلي' الى حيث لا يعرفهما أحد..وحيث لا يجدهما أحد. و في نهاية الصفحة كتب : "سأراكِ لاحقًا، إيلي.". قلبت الصفحات، وحدقت بالصفحة الأخيرة من الكتاب. كان بها سطور قليلة بخط مختلف وطريقة مختلفة، فأدركت أن الكاتب لم يكن من خط هذه الكلمات. إنه شخص آخر. وكانت سطوره تقول: اليوم قد مر أسبوع على مفارقة الحامي لنا، لقد عثرنا على جثته هو و إيلي. لقد ضحى الحامي بروحه وروح إيلي كي يحمينا، وسوف أتبع وصيته وأحمي أرضه، وكتابه، وسره حتى موتي. هكذا أغلقت الكتاب دون أن أعرف للكاتب اسمًا، وحدقت في السماء تشقها الشمس فيتمزج الضوء مع الزرقة وينتجا فجرًا جديدًا يستقبله قلبي فارغًا. كانت لايدا على حق، إن بداية القصة دائمًا هي أشخاص يشبهوننا. بداية القصة هي فتاة تشبه لايدا، وشاب يشبهني. بداية القصة هي غابة تبدو كهذه الغابة، ونمر يبدو كتورو. بداية القصة هي أعين جاحدة تبدو كأعين الأطباء، هي حياة تبدو كحياتنا. بداية القصة دائمًا هي فتاة تشبه إيلي، وشاب يشبه الكاتب. ------------------ يا الله اطول بارت اكتبه في حياتي XD عجبكو؟ بكدا نكون خلصنا كتاب "ليلة في النهر" ، وطبعا كل دا هيدال هو اللي بيقرأ استمتعو، وباي باي❤❤
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD