الى اين اعود؟

1362 Words
لم يمضِ وقت طويل حتى فُتح باب الغرفة مجددًا، ودخل دايسيك بهدوئه المعتاد، ملامحه جامدة، وخطواته لا تُص*ر أي صوت. وقف للحظة يرمق كوان بنظرة آمرة، قبل أن يقول بلهجة حازمة: "يمكنك المغادرة الآن، أحتاج بعض الوقت معها." نظر كوان إلى إيرين، ثم إلى دايسيك، وكأنه يريد الاعتراض، لكنه في النهاية نهض بصمت، ألقى نظرة أخيرة عليها، وغادر الغرفة. اقترب دايسيك من السرير وجلس على الكرسي نفسه، مائلًا بجسده قليلًا نحوها. نظر إليها طويلاً، قبل أن يسأل بصوت منخفض يحمل نبرة تساؤل واتهام في آنٍ واحد: "ماذا حصل يا إيرين؟ منذ خرجتِ للتسوق قبل يومين... اختفيتِ تمامًا. أين كنتِ؟" رمشت بعينيها ببطء، ثم همست بصوت خافت ومتعَب: "لا أعرف تمامًا... أحدهم اختطفني. لا أذكر وجهه. كنت مقيدة، و... ثم وجدت فرصة وهربت. بعد ذلك... لا شيء واضح. فقط الشوارع والبرد والدم..." ظل ينظر إليها بثبات، وعيناه تفتشان بين كلماتها عن ثغرة، عن كذبة صغيرة. "أنتِ تهربين من شيء، إيرين. أنا أعرف ذلك." قالها ببطء، ثم أضاف بحدة أخف: "هل كنتِ وحدك؟ هل ساعدك أحد؟" هزّت رأسها، بعينين تتهربان من عينيه: "لا أحد... كنت خائفة فقط. أردت أن أعود... لكني لم أستطع." ساد صمت ثقيل بينهما، ثم انحنى قليلًا نحوها، صوته أكثر هدوءًا هذه المرة: "لم يعد من الآمن بقاؤك هنا. أقترح أن تعودي معي إلى القصر. على الأقل هناك ستجدين حماية." ترددت نظراتها، وتراجعت بجسدها قليلًا في السرير. ثم همست: "وجودي في القصر... أصبح يسبب المشاكل. أنا لست مثل الآخرين. أنا مجرد فتاة علقت في لعبة أكبر منها... وكلما بقيت، ازداد الخطر." ظل ينظر إليها دون أن يعلّق، كأنه يدرس مشاعرها. لكن في عينيه لم يكن هناك حنان... بل حسابات. "الخطر لا يختفي بالهرب." قال ببرود، "لكن القرار يعود إليكِ. فقط تذكّري أن لا أحد ينجو وحده." ثم وقف، وسوّى سترته، وقبل أن يغادر، ألقى نظرة أخيرة على ملامحها المنهكة، وقال بصوت لا يخلو من تحذير: "فكّري جيدًا، إيرين. لا تكرري نفس الخطأ مرتين." وخرج، مغلقًا الباب خلفه، تاركًا إياها وحدها مع صراعها الداخلي، بين الخوف والرغبة في النجاة، وبين ثقل العودة وعبء البقاء.خرج دايسيك من الغرفة مغلقًا الباب خلفه، ليجد كوان واقفًا في الممر، مستندًا إلى الجدار، ينتظر بصمت. توقف دايسيك للحظة ونظر إليه بحدة، ثم تابع سيره دون أن ينبس بكلمة. كوان لم يتحرك، فقط راقب خطواته الثقيلة تبتعد. في بهو المستشفى، توجه دايسيك نحو قسم المحاسبة، أخرج بطاقته السوداء ودفع جميع الفواتير دون تردد. كانت نظراته باردة، وعقله يعمل بسرعة. ما يحدث ليس مجرد مصادفة. وقف بعد ذلك على مقربة من المخرج، وجذب أحد رجاله الذين تبعوه بصمت. "راقب كوان عن قرب." قالها بهدوء دون أن يلتفت، "كل حركة، كل لقاء، كل اتصال. لا تدعه يشعر بشيء." أومأ الرجل باحترام، ثم ابتعد بخفة. لكن فجأة، ظهر كوان خلف دايسيك دون إنذار، صوته هادئ لكنه حاد: "تبدو مشغولًا كثيرًا مؤخرًا... حتى في دفع الفواتير." استدار دايسيك ببطء، عينيه تضيئهما لمحة ازدراء، لكنه أخفىها بابتسامة خفيفة. "لا يمكننا ترك الأمور معلقة، أليس كذلك؟" قالها بهدوء، ثم أضاف بنبرة تحمل سخريته المعتادة، "خصوصًا عندما تكون الفتاة مهمة... للبعض." ردّ كوان ببرود أكثر، عينيه لا ترمش: "مهمتي كانت دائمًا واضحة، لكنك أنت... تبدو مهتمًا فجأة بشيء لم تكن تراه يستحق." لم يجب دايسيك فورًا. تبادل النظرات معه للحظات، ثم اقترب خطوة واحدة: "لا تخلط مشاعرك بعملك يا كوان. قد يحرقك ما لا يجب أن تلمسه." ابتسم كوان ابتسامة خفيفة، بلا دفء: "وأنت، لا تخلط سيطرتك بالاهتمام... لأنك قد تخسر ما كنت تظنه دومًا في قبضتك." ثم استدار وغادر، دون أن ينتظر ردًا. دايسيك بقي واقفًا، عيناه تتابعانه ببرود، لكن في داخله… شيء بدأ يتحرك. كان الليل قد أسدل ستاره، والطرقات بدت شبه خالية. ضوء المصابيح ينع** باهتًا على زجاج السيارة بينما قاد كوان وحده في طريق معزول على أطراف المدينة. يده على المقود وعقله شارد. صورة إيرين لا تفارقه... عيناها حين فتحتها، صوتها المبحوح، جملتها الم**ورة: "لم أعد أعرف إلى أين أعود..." ضغط كوان بيده على المقود بقوة، ونظراته علقت على الطريق أمامه دون أن يراها فعلاً. لم يكن واثقًا من شيء سوى أنه لم يعد قادرًا على الوقوف متف*جًا. في تلك الأثناء، كان دايسيك قد عاد إلى المنزل. جلس في غرفة الاستقبال الهادئة، على الأريكة الجلدية الكبيرة، أمامه كوب من الشاي لم يشرب منه شيئًا. شيناي دخلت بخطى حذرة، بملابسها الأنيقة، ونظراتها مليئة بالترقب. قالت بنبرة ضجرة: "سمعت أنك ذهبت بنفسك إلى المستشفى... لأجلها؟" أجاب دايسيك ببرود وهو ينظر إلى الموقد: "نعم. خطتنا فشلت، أو على الأقل لم تسر كما أردنا. قالت إن أحدًا خطفها… ثم هربت، وتعرضت لحادث. لا تتذكر شيئًا... أو تتظاهر بذلك." ضربت شيناي الطاولة الصغيرة بجانبها بحدّة: "ومنذ متى نصدق ادعاءاتها؟ هذه الفتاة مجرد خادمة سابقة… ولا يجب أن تُعامل أكثر من ذلك." تن*د دايسيك، ثم تابع بهدوء غريب: "ما يهمني الآن أن الأمور خرجت عن السيطرة. كوان… كان مضطربًا جدًا حين رآها. اهتمامه بات واضحًا." رفعت شيناي حاجبيها بصدمة: "كوان؟ تهتم لأنه يهتم بها؟! هل فقدت عقلك؟ إذا كان يهتم بها فعلًا، فهذا يعني أن زواج ميون منه لم يعد ممكنًا." صمَت دايسيك للحظة، ثم نهض واقفًا وقال دون أن ينظر إليها: "بالضبط. ولهذا… علينا التفكير بخطوة جديدة." تقدمت شيناي إليه، عيناها تغليان بالغضب: "هل تفكر بإعادتها إلى القصر؟! بعد كل ما حدث؟ هذا جنون! نحن نحاول إبعادها عن حياتنا، وأنت تفتح لها الباب من جديد!" قال دايسيك بصوت منخفض، لكن حاسم: "أُفضّل مراقبتها عن قرب بدل أن تخرج عن سيطرتنا... ولا تقلقي، وجودها لن يدوم طويلًا." رمقته شيناي بنظرة طويلة، ثم استدارت مبتعدة وهي تهمس بمرارة: "إن كنت لا ترى الخطر الآن… فانتظر حتى تخسره كل شيء." في صباح اليوم التالي، كانت المدينة تستفيق ببطء تحت أشعة الشمس الخفيفة. في أحد طوابق شركة "دايسيك غروب"، جلس كوان في مكتبه، غارقًا في ملفات العمل. وجهه كان شاحبًا، وذهنه شارد. رغم تكدّس الأوراق أمامه، لم يكن يرى شيئًا غير وجه إيرين في تلك الليلة، ونظرتها التي شقّت قلبه بصمتها. في الطابق العلوي، كان دايسيك في مكتبه أيضًا، لكنه لم يكن يعمل. كان يجلس خلف مكتبه الضخم، يراقب شاشة الهاتف أمامه. نظراته متصلبة، وقلبه يضج بالأسئلة. "إذا فشل زواج كوان من ميون... ماذا سيحل بتحالفات العائلة؟ هل يمكن لإيرين، بتواضع أصلها، أن تهدم كل شيء؟" فكر طويلًا، وهو يضغط بأصابعه على سطح المكتب بإيقاع متوتر. في مكان آخر... وتحديدًا في المستشفى. كانت إيرين تجلس على سريرها، مستندة إلى الوسادة خلفها، شاحبة لكن أكثر وعيًا. نظراتها معلقة على النافذة، لا تدري ماذا ينتظرها بعد هذا الحادث. طُرِق الباب برقة، فاستدارت فورًا، وكأن قلبها قفز فجأة. "هل هو كوان؟" لكن لم تدم خيبة الأمل طويلًا... حين فُتح الباب ودخل منه "ليون" بابتسامة عريضة، يحمل باقة ورد بلون الخزامى. "مفاجأة!" قالها بحماس، ظنًا أنه يرسم البهجة على ملامحها. لكن وجهها لم يضيء. على الع**، بدا الذهول في عينيها قبل أن تنخفض نظرتها بصمت خفيف. اقترب ليون منها بخطى سريعة، ومدّ يده بالزهور. "هذه بمناسبة أنكِ ما زلتِ حيّة." قالها بنبرة خفيفة، ثم جلس بجوارها، ولم ينتظر منها ردًا قبل أن يضمّها لحظة سريعة دون استئذان. بدت إيرين متيبّسة بين ذراعيه، لكنها لم تعارض. ثم نهض ليون، وفتح الحقيبة التي يحملها، وأخرج منها علبة طعام صغيرة، وضعها بعناية على الطاولة القريبة. "أحضرت لكِ طعامًا منزليًا، المستشفى معروف بطعامه الباهت." ابتسم وكأنه أنقذ الموقف، بينما هي بقيت صامتة، تنظر نحو النافذة، بعينين لا تهتم كثيرًا لا بالزهور… ولا بالطعام. لكنها كانت تفكر بشيء واحد: "لماذا لم يأتِ كوان…؟" كان ليون جالسًا على حافة السرير، ينظر إلى إيرين بعينين لم تُطفئهما خيبة ردّة فعلها الأولى. وبينما كانت تتناول القليل من الطعام، بدأت تروي له ما حدث – بصوت منخفض، متردد، وكأنها لا تزال تعيش لحظة الهروب، لحظة الاصطدام، ولحظة النظر في عيني كوان حين وجدها. أنهت كلامها بنبرة شاحبة: "لا أريد العودة إلى القصر… كلما دخلت هناك شعرت أنني أختنق. وجودي يجلب المشاكل، وكأنني لعنة تحوم حولهم." ظل ليون صامتًا للحظة، ينظر إليها بثبات، ثم قال بنبرة أكثر حدة ووضوحًا: "إيرين، لا تخافي. هدفك الآن هو الانتقام من دايسيك… لأجل ثأر والدك، وعائلتك التي شُرّدت." اقترب قليلًا، وانحنى نحوها كأن كلماته سرّ لا يجب أن يسمعه أحد: "كلما جمعتِ معلومات أكثر، كلما استطعتُ مساعدتك أكثر. لا تنسي اتفاقنا، أنتِ جاسوسة داخل منزله، وأنا من يساعد والدتك وأخيك الصغير." ارتعشت نظراتها للحظة، ثم أغمضت عينيها، وكأن صوته أعادها إلى نقطة البداية… إلى الصفقة التي لم تكن تملك خيارًا في قبولها. لقد باعت حريتها من أجل عائلتها. وكلما حاولت الهروب، سحبها الماضي مجددًا إلى ذات الطريق. فتح عينيها مجددًا، ونظرت إليه بجدية: "أنا… لم أنسَ. فقط… تمنيت لو أنني لا أحتاج لفعل هذا." ابتسم ليون بخفة، دون أن يعلق. كان يعلم أن الشعور بالذنب سيرافقها، لكنه لم يكن يهتم كثيرًا. المهم أنها ستعود. والمهم… أن الخطة مستمرة.
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD