في إحدى المصحات ال*قلية دخلت طبيبتي إلى الحجرة وهى تنظر لي بابتسامتها المشرقة دائمًا، لكنني قابلتُ ابتسامتها بالعبوس ثم نظرتُ جانبًا، فجلست الطبيبة بجانبي تسألني:
«ألا زلت كما أنت لا تريد التحدث؟ لقد جئتُ لتوديعك لأنني سأستقيل لا أكثر.»
لم أنظر لها وسكتتُ كأنني لم أسمع أي شيء، فابتسمت لي الطبيبة بحنان تقول: «هناك طبيبة أخرى من الممكن أن أحادثها لتتابع معك إذا وافقت سأحضرها، المهم أن تستجيب لعلاجها، وإن رفضت تستطيع الرحيل عن هنا.»
ثم فكت مفتاح السلسلة التي كانت بعنقها ووضعتها بجانبي ثم أكملت: «أتمنى أن تحتفظ بها، سأتركها لك لأنك تشبه ابني رحمه الله، سأشتاق لك كثيرًا يا حسام.»
«هل من الممكن أن تكتبي لي ورقة للخروج من هنا قبل رحيلكِ.»
«حسنّا، كنتُ متأكدة من رأيك وانتظرتُك لتطلب هذا بنفسك، أتمنى لك حظًا موفقًا في حياتك القادمة.»
قمتُ وتركتُها ثم أخرجتُ ملابسي وارتديتُها سريعًا ثم أخذت هاتفي وسرتُ لأغادر الغرفة، فوجدتُ يدًا ممتدة لي وممسكة بالسلسة، أخذتُها سريعًا ثم غادرتُ تاركًا هذه المصحة التي دخلتُها على أمل أن تفيدني بشئ
خرج من المستشفى واتجهتُ للمرأب الذي تركتُ بها درجاتي النارية بالقرب من المستشفى ثم بدأتُ بتحريكها واستقلتُها، فأخرجتُ سماعات الهاتف ووضعتُها في أذنيّ وعَلا صوت الأغنية بأعلى صوت، كأنه يُسمِع من يجلس بجواري، وكانت بدايتها
"احلم معايا ببكرا جاي .. ولو ماجاش إحنا نجيبه بنفسنا.. نبدأ نحاول في الطريق كتر الخطاوي تدلنا على حلمنا"
ما إن سمعتُ هذه الكلمات حتى انتزعتُ السماعات من أذنيّ بشدة ووضعتُها في جيبي وأغلقتُ هاتفي نهائيّا، وأثناء إنشغالي بالهاتف وقيادة الدراجة النارية انتبهتُ لتجاوزي إشارة المرور وكدتُ أصطدم بسيارة، لكنني غيرتُ اتجاهي سريعًا ثم سرتُ لمسافة قليلة حتى دخلتُ في شارع صغير، ثم فقدتُ توازن الدراجة النارية فأُلقيتْ ارضًا ومن شدتها كُسرت المرآة ثم وقعتُ أنا أيضًا واصطدمتُ بالجدار الصلب، وفجأة ظهر جزء من حياتي السابقة وكأنه كالحلم المتسلسل، فأمسكتُ المرآة الم**ورة دون وعي وقطعتُ شراياني بعمق.
كانت هناك إحداهن تتابع المشهد من بعيد، وما إن رأت هذا أمام عينيها حتى اقتربت سريعًا، ثم طلبت المساعدة من أحدهم، وبعدها أوقفت أحد سيارات الأجرة وطلبت من أحد المارة مساعدتها فحملاني لداخل السيارة، ثم جلست في الكرسي الأمامي بجانب كرسي السائق واتجهوا لأقرب مستشفى تستطيع أن تساعدني فيها، وأجد فيها العناية المناسبة واللازمة.
أدخلتني المستشفى وسريعًا أدخلوني إلىٰ غرفة العمليات، حيث كانت الفتاة تقف بالخارج والقلق ظاهر على وجهها، واستمر هذا القلق لمدة ليست بقليلة، حتى خرج الطبيب وقال مبتسمًا:
«الحمد لله، سيستعيد وعيه بعد ساعات، أدخلناه غرفة عادية وسيظل تحت المراقبة لمدة أربع وعشرين ساعة، وبعدها نستطيع أن نعرف كيف سيخرج منها ومتى.»
«هل يمكنني الدخول لرؤيته؟»
«بالطبع تستطيعين، لكن إذا استعاد وعيه ووجدتِه قد بدأ يغضب من الأفضل أن تتركيه.»
ابتسمت الفتاة للطبيب ثم دخلت فوجدتني نائمًا فابتسمت لوجهي الذي تفتقد النظر إليه منذ فترة طويلة، ثم اقتربت مني وأخرجت خاتمًا من إصبعها وتركته، ثم نظرت لي مرة أخرى وتركتني
ثم استقلت سيارة الأجرة لكي تعود لبيتها، وصعدت لشقتها ثم دخلت غرفتها ونامت على سريرها والابتسامة على شفتيها… أخيرًا وجدتني بعد أن اختفيتُ منذ ستة سنوات.
أغمضت هذه الفتاة عينيها تاركة لابتسامتها البقاء، فأخيرًا وجدت شيئًا ينير لها هذا الظلام الذي استولى حياتها بالكامل منذ عدة أشهر.
مر الليل واستيقظت هذه الفتاة نشيطة وفرحة ع** عادتها، فنظفت شقتها سريعًا وبدلت ملابسها، ثم أخذت معطفًا من خزانتها وارتدته، ونزلت متجهةً للمستشفى وبعد أن وصلت أمام الغرفة وقفت قليلًا ثم تنفست ببطئ وفتحت الباب ودخلت بهدوء وحذر شديدين.
فوجدتني أنظر للخاتم بتمعن والحزن في عينيّ، فخرجت من دون أن تص*ر صوتًا ثم طرقت الباب ودخلت، فوجدتني ينظر لها بصدمة ودهشة لأتلعثم في اسمها: «أ..أماني؟»
ابتسمت أماني ثم تقدمت وجلست تسألني: «كيف حالك حسام؟ لقد اشتقنا لك.»
عضضتُ شفتيّ حتى بلغ الألم ذروته وقلتُ بضيق: «اخرجي من هنا يا أماني، لقد نسيتُكم وانتهى الأمر ولا أريد أن أعرف عائلتكِ هذه مرة أخرى، تفضلي لخارج الغرفة، ولخارج حياتي أيضًا.»
«وأنا أريدك أن تتعلق بي، حسام.. أنت تعلم أنني لم أكن أرغب برحيلك، لا أتحدث معك من باب الشفقة أبدًا، أتحدث معك لأن لك مكانة خاصة في قلبي، وإن كنت قد نسيتنا كما تقول فلم تكن لتمسك الخاتم وتنظر له بتلك الطريقة.»
تجاهلتُ ما قالته عن الخاتم، ثم قلتُ بحزن: «حتى لو لم يكن لي مكانة خاصة بقلبكِ فلن أستطيع أن أحبكِ من جديد، إن كان كلامي صحيحًا أم لا فأتمنى أن تنسيني، تنسي أنكِ تعرفين أحدًا باسم حسام، يكفي أنني تأذيتُ بسببكم، لا تؤذي نفسكِ أيضًا، يكفي أماني يكفي. وأريد أن أخبركِ أن حياتي أصبحت فارغة، لم يعد بها أحد، لا أنتِ ولا محمود ولا عمار الذي كان أعز أصدقائي، جميعكم أصبحتم غير موجودين بحياتي وهذا أعظم إنجاز حققتُه.»
تن*دتُ بقوة بعد أن ألقيتُ بتلك الكلمات وأنا مقتنع بها كثيرًا، فاقتربت أماني مني خطوة تجيبني والدموع تسيل من عينيها: «أنت لم تنسَنا ولن تنسانا بحياتك، لن تستطيع محونا من ذكرياتك حسام، مهما كان فإن كنت أنت نسيت فأنا بحياتي لن أنسى، وما فات سيترتب عليه الحاضر والمستقبل، أم نسيت؟ أليست هذه جملتك التي كنت تخبرني بها دائمًا؟»
«لا، لقد نسيتُكم جميعًا، هل تسمعينني؟ نسيتكم، نسيتُ الماضي، نسيتُ كل شيء، نسيتُ من أنتم ولا تجبريني على الحديث بأكثر من هذا، وهيا اخرجي من هنا أماني!»
صرختُ بها بغضبٍ، فشعرت أماني بقشعريرة تسري في جسدها فأجابت بهدوء: «حسنًا سأرحل، ولكن تذكّر أنني لن أتركك وسآتيك غدًا حسام.»
غادرت أماني وهي تتذمر من هذا الشخص الذي رأتُه أمامه وسمعتُه، تتذمر مني، لقد كنتُ مرحًا ولطيفا، لم تتوقع بتاتًا أن أتغير لهذه الدرجة. ثم عادت إلى شقتها وأغلقت الباب عليها، ثم أخرجت هاتفها وهاتفت صديقتها ياسمين لتجيبها صديقتها بفرح: «وأخيرًا عطفتِ عليّ واتصلتِ بي؟ هذا الأمر بذاته غريب فبحياتكِ لم تحتاجيني.»
«أشعر بالضيق الشديد ياسمين وأريد التحدث مع أحدهم، وأنتِ صديقتي الوحيدة.»
«ما بكِ أماني؟ لمَ تشعرين بالضيق؟»
«سأحكي لكِ ولكن لا تسألي أو تقاطعيني إلا بعدما أحكي كل شيء!»
**تت ياسمين منتظرةً سماع ما حدث لأماني جعلها تضايق، فقالت أماني بحزن: «لقد رأيتُ حسام بعد اختفاء ستّ سنوات، كنتُ سعيدة لإيجادي له لأنني كنتُ مشتاقة له كثيرًا، وعندما رأيتُه لم أصدق أن فرحتي ستعود لي، سعدتُ لظهوره ورجوعه رغم أنني لا أعرف ما الذي حدث له طوال هذه المدة، لكن وجوده أمامي ومعرفتي بمكانه كان كافيًا لي، ولكن عندما تحدثتُ معه لم يكن يريد أن يتذكر أي شيء يتعلق بماضيه، كان يقول أنه نساني ولا يريد أن يتعلق بي مرة أخرى، لقد أحببتُه كثيرًا وهو كذلك، حتى أنني لم أصدق عنه كلمة واحدة مما قاله الناس، أشعر بالاختناق كثيرًا، لمَ فعل هذا بي؟ هل هذا جزاء حبي له؟ اختفى وترك لي الساحة فارغة أتخبط في كل ما حولي، ترك مشاعري معلقة به، واليوم الذي أراه به وأعلم مكانه أجده يريد الابتعاد عني؟ لمَ؟ لمَ يريد فعل هذا بي؟»
كانت ياسمين حزينه على صديقتها التي لم ترها ولو لمرة واحدة حزينة أو تبكي، فقامت ياسمين بتهدئتها وقالت: «إن لم تكوني ترغ*ي بابتعاده عنكِ فظلي خلفه، ربما ترككِ لأنه لا يريد **ركِ، ربما يظن أنه هكذا يريحكِ أو ربما هناك سبب جعله غير قادر على إخباركِ أنه يحبكِ. ففي النهاية ظلي خلفه ولُحّي عليه، أو ربما ساعديه وكما يقولون "الإلحاح على الأذن أمر من السحر."، لكن إن لم يكن يحبكِ فاجعليه يفعل. وأنا متأكدة منكِ يا أماني. حسام سيحبكِ لأنكِ أماني القوية التي تحب الناس وتساعدهم.»
«لكنني لن أستطيع. حسام لا يريدني، يريد أن أبتعد عنه وهذا لأنه لم يعد يحبني. أنا أساعد الناس ولكنني لم أستطع أن أكوّن علاقة صداقة أو حب مع أحد يومًا إلا عندما يبدأ الطرف الآخر.
ردت أماني ياسمين بحزن شديد، ولكن الأخرى حاولت تهدئتها قدر استطاعتها، قامت بدور الصديقة المخلصة ومنحتها ما كانت تحتاجه من نصائح وتشجيع، وبعد حديث ياسمين شعرت أماني ببعض التفأول فقالت: «ياسمين، شكرًا لكِ. إن شاء الله سأحاول، وسأجعله يكلمني حتى وإن لم يكن يرغب بحبي. على الأقل نعود لصداقتنا القديمة.»
أغلقت أماني مع ياسمين وهي تشعر بتفاؤل كبير من كلمات ياسمين التي شجعتها، جلست قليلًا وهي تتصفح وسائل التواصل الاجتماعي وعندما حل الليل دخلت لفراشها لكي تنام. مخططةً لما ستفعله معي لتعيدني لها في اليوم التالي.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .