الفصل ٨

1902 Words
كانت تقف خارج سور القصر الخلفي، تنقل نظراتها بين الباب و الحرس الغائبين عن الوعي على الأرض في توتر. هدلت الحمامة، فجذبت إنتباه الأميرة إليها، و جعلتها تلتفت باتجاه الحصان الذي تقف على ظهره. كان حصانا أ**دا **ماء الليل الخالية من ضوء النجوم، يحمل على ظهره حقيبتين، سيفا، قوسا و محفظة رماح. اقتربت وردة من الفرس وهي تحدق بالحمامة بتعابير متسائلة. - كيف تفهمين كلام تاج؟! و كيف يفهم كلامك؟! مدت وردة أصابعها إلى رأس لمار و لمستها برقة، ثم تن*دت قائلة، - لقد تأخر كثيرا، و أخشى أن يكون قد كُشِف أمره. هدلت الحمامة مجددا و كأنها تحاول إخبار وردة بشيء ما، فتبسمت الأميرة ثم مدت مع**ها إلى الطائر الأبيض ليقفز و يحط على مع**ها. - لا أدرك معنا لهديلك، لكنني أشعر و كأنك تحاولين إخباري بأنه سيكون بخير. مسحت على رأس الحمامة بلطف، ثم على ظهرها وهي تتفحض ريشها الفضي الذي جعل تعابير الإنبهار ترتسم على وجهها. همست، - ما أجمل ريشك يا لمار! لكن سرعان ما تشتت انتباه الأميرة و التفتت نحو الباب لحظة سمعت صوت أقدام حصان يجري، فلمحت تاج يمتطي فرسها الذي يتقدم باتجاهها. أوقف تاج الفرس، ثم نزل من على ظهره و في يده سيف مقبضه و غ*ده من ذهب أبيض منقوش و مرصع بأحجار كريمة لونها أزرق سماوي. تقدم بالفرس و سلمه لصاحبتها، ثم قدم لها سيفها، - ها هو ذا حصانك، و سيفك. أمسكت وردة بلجام جوادها، ثم أخذت سيفها من تاج، بعد أن غادرت لمار مع**ها و عادت للوقوف على ظهر الفرس الأ**د. اسرع تاج و أنزل حقيبة سوداء جلدية بسيطة الت**يم، كانت معلقة بسرج الحصان الأبيض، ثم وضعها على الأرض أمام وردة. قال، - كما أنني وجدت هذه أيضا. أظنك ستحتاجينها. فتحت الأميرة الحقيبة، فوجدت بداخلها ثياب ركوب الخيل. افتر ثغرها عن ضحكة واسعة وهي تُخرِجُ سلهاما و قميصا أ**دين. - لهذا تأخرت!! اكتفى بابتسامة صغيرة وهو يراقبها في **ت. رفعت عينيها إليه ضاحكة، - شكرا لك. - أشكريني بعد أن نصل إلى قصر الملك شهرمان. اكتفت بابتسامة وهي تجمع ملابسها، ثم حملت الحقيبة في يدها، و قالت وهي تتفحص المكان من حولها، - لنذهب الآن. يجب أن نغادر قلب السبعة قصور، قبل طلوع الشمس. - فلننطلق إذا. امتطى كل منهما حصانه، ثم انطلقا تاركان القصر خلفهما. ..... شقا طريقهما بين بيوت و منازل و أسواق المدينة، و بعد ما يقارب ساعتان من الزمن، دخلا الغابة التي تحيط بالمدينة، و استمرا في التقدم حتى طلع الفجر. أبطأ تاج في تقدمه، فأبطأت وردة من بعده. إلتفت إليها ثم سأل، - هل نتوقف لبعض الوقت؟ - لا داعي لذلك. أخشى أن يرسل والدي جنودا خلفي عندما يكتشف غيابي. و إذا ما توقفنا هنا، فقد يتمكنون من الوصول إلينا. أومأ مستوعبا، - أين نتوقف إذا؟ - في مكان بعيد عن المدينة. - لن نستطيع الإبتعاد كثيرا حتى و إن استمررنا في المشي طوال اليوم. تن*دت ثم استغرقت في **تها للحظة قبل أن تسأل، - أ لا تعرف مكانا قريبا للإختباء؟ مكان يصعب إيجاده مثلا؟ فتح شفتيه، لكنه لم يُجِب إلا بعد تردد واضح، - هناك.. مكان. إلتفتت إليه، مرفوعة الحاجبين، مذهولة الملامح، - حقا؟ أين يقع؟ ابتلع ريقه، ثم نظف حلقه، - وسط.. غابة الغيبهان. شحب وجه وردة فجأة، و اقشعر جلدها من الكلمات التي إلتقطتها أذناها، فخيم **ت مربك عليهما لمدة ثوان طويلة. و هي لا تزال تحاول استعاب الأمر، إلتفتت إلى تاج في تردد، و قلبها يهتز من مكانه ذعرا من الأفكار التي راودتها عنه في تلك اللحظة. ابتلعت ريقها، ثم سألت و الخوف من جوابه واضح في نبرتها المرتعدة، و حركات جسدها المتوترة، - و لماذا.. تعرف مكانا.. في الغيبهان؟ أجاب دون أن يلتفت إليها، - أعرف.. صاحب ذلك المكان. - و.. من يكون؟ - ساحر من مدينة البلور. استمرت وردة بطرح الأسئلة، و هي تحاول اخفاء يديها المرتعشتين اللتان تفضحان الخوف الذي اعتراها. - من الغبراء.. الشرقية؟ اومأ تاج ايماءة صغيرة مرتبكة، - كنت قد.. طلبت من ذلك الساحر خدمة، و كان مقابلُ تلك الخدمة أن أحضر له شيئا.. من تلك الغابة، فأرشدني إلى مكان تحت الأرض، و أذن لي باتخاذه مسكنا.. حتى أُنهي مهمتي. أوقفت وردة حصانها، فأوقف تاج جواده كذلك أمامها، ثم التفت إليها. اتصلت نظراته المرتبكة، بنظراتها الخائفة، ثم قالت، - لن أدخل تلك الغابة! - لا داعي للقلق- قاطعته و هي ترمقه بنظرات منزعجة، - لا داعي للقلق؟! تُدخِلني إلى غابة كلها أنفاق تؤدي إلى عالم الجان و العفاريت و المردة، و تحاول إقناعي بأنه ما من داعي للقلق؟! قال محاولا تهدئتها، - أعرف الغابة جيدا، و سنخرج منها سالمين يا وردة. - تعرف الغابة جيدا؟! إذا فأنت دجال يمارس السحر الأ**د! أو ربما جني خرج من تلك الأنفاق! هذا يفسر الكثير! حرك حصانه و تقدم نحوها، فتراجعت بحصانها إلى الخلف و صاحت في وجهه، - لا تتحرك! رمقته بنظرة ساخطة، ثم أسرعت و تفقدت الطريق خلفها. أمسكت اللجام بإحكام، و شدّته لتجعل حصانها يستدير إلى الطريق خلفها، لكن نزول تاج من على ظهر جواده، و نبرته المن**رة التي غلبت على الكلمات التي نطق بها، أوقفتها. - لست ساحرا. و لست جنيا. سألت بلهجة جافة، - من أنت إذا؟! أخبرني من تكون. أجاب بعد سكوت، - صبي.. مستعد للموت من أجل إنقاذ حياة أبيه. شعرت وردة بعضلاتها المتوترة ترتخي، و بقلبها يهدأ شيئا فشيئا، و بأفكارها السوداوية تغادر ذهنها. تفحصت وجهه الحزين و حركة جسده المتعبة، ثم انتبهت إلى حمامته التي حطت على كتفه و هي تهدل باستمرار. استفهمت وردة في ارتباك، - هل.. لجأت إلى الساحر.. لتنقذ والدك؟ أومأ وهو يمسح على رأس حصانه متفاديا النظر إلى الأميرة، - لم ينجح أفضل الأطباء في المملكة كلها في معالجته، فلجأت إلى ذلك الساحر، ظنا مني أنه سينقذ والدي من عذابه. نزلت وردة من ظهر فرسها، تقدمت نحوه بخطا متمهلة، وهي تدرس تعابير وجهه التي لم تستطع أن ترى منها سوى جانب واحد. وقفت أمامه، - و هل.. والدك بخير الآن؟ ترقرقت بضع قطرات من الدموع من عينيه فأسرع و مسح خديه، و أشاح بوجهه، ثم أخذ نفسا، قبل أن يجيب بصوت أبح، - لا أدري. - ما الذي.. حدث؟ - لم أتمكن.. من العودة إليه. - و لماذا؟ طأطأ برأسه كالمذنب لمدة، فأدركت وردة أنه لا يشعر بالإرتياح لتحدث في الأمر، فقالت، - لا عليك. لا داعي.. لتجيب الآن. إلتفت إليها من دون أن يرفع نظره، - أعلم أنني .. لست جديرا بثقتك يا وردة.. قاطعته لحظة مدت يدها إلى كم قميصه، و أمسكت به بسبابتها و ابهامها و هزّته بلطف، فرفع نظراته المدهوشة إليها، لتتصلت عيناه الواسعتان بعينيها المتأسفتان. - أعلم أنكَ لا تحمل شرا في قلبك. - لكنكي.. لا تعرفين عني شيئا يا وردة. - أعرف أنك لن تؤذيني! تفحص عينيها و كأنه لن ينعم برؤيتهما مجددا، تقدم خطوة نحوها ثم قال، - أتمنى لو أستطيع.. لو أستطيع إخباركِ بكل شيء. خفض بصره لثانية ثم رفعه إليها مجددا، - لكنني.. قاطعته و ابتسامة حزينة على محياها، - لا عليك. لا داعي لتخبرني الآن بأي شيء. اتسعت ابتسامتها قليلا و هي تتأمل عينيه، ثم قالت بعد سكوت، - لنذهب الآن. أومأ لها، - سنجد مكانا نرتاح فيه على الطريق من دون شك. - يمكننا التوقف في الغابة. في المكان الذي تحدثت عنه. اتسعت عيناه قليلا غير مصدق لما سمعته أذناه، - ف.. في.. الغيبهان؟ أومأت، فعقد حاجبيه مستغربا، - هل.. هل أنتِ واثقة؟ - إذا كان المكان آمنا، فأنا واثقة من ذلك. تبسمت شفتاه قليلا، ثم هز رأسه موافقا، - المكان آمن. - فلنذهب إذا. .... و هما يتقدمان وسط الغابة، بدأ الظلام يخيم عليهما، رغم أن الشمس قد أشرقت لتوها. رفعت الأميرة نظرها لتلاحظ ضخامة الأشجار و طولها الشاهق، و تشابك أغصانها الملتوية، و تداخل أوراقها السوداء ذات الأشكال الغريبة. قال تاج بعد أن لاحظ الرعب يتسلل إلى تعابير وجهها، - لا تدعي منظر الغابة يخيفك. أوقف فرسه و نزل عن ظهره، ثم أوقف حصان وردة و مسح على رأسه برفق، و هو يقول، - فلنكمل على قدمينا الآن. نزلت الأميرة، أمسكت بلجام حصانها، ثم بدأت تمسح على ظهره، عندما لاحظت تشوشه و توتره المفاجئ. استغربت، - ما الذي يحدث؟ أجابها بعد أن أسرع لتهدئة فرسه، - الأحصنة تشعر بطاقة سيئة عند دخولها الغابة. - و هل يمكنها.. الإستمرار في التقدم؟ أومأ قائلا، - ابقي قريبة من جوادك وحسب. شعوره بوجودك بجانبه سيطمئنه. هزت رأسها مستوعبة، ثم لحقت به بعد أن بدأ بالسير. مضت بضع دقائق، بدت و كأنها ساعات، على توغلهما داخل الغابة، عندما سمعا فجأة صوت استضام جسم ما بالأشجار، متبوعا بما يشبه صرخة قوية مزعجة، فأسرعت وردة في رفع نظراتها المفزوعة بحثا عن مص*ر الصوت. ابيض وجهها، و أخذ جسدها يرتعش ذعرا، و قلبها يهتز بداخل ص*رها بعنف. شعرت بأصابع تاج تتسلل إلى راحة يدها، ثم حمل يدها في كفه. - لا تكترثي للأصوات. أبقي عينيك على الطريق و لا تدعي شيئا يجذب انتباهك. ابتلعت ريقها ثم أومأت في تردد. حاولت العمل بنصيحة تاج، لكنها فشلت لحظة ظهر أمامهما ما يشبه ظلال وحوش تطفوا و تص*ر أصواتا مزعجة لا تحتملها الآذان. تارة ضحكات صاخبة مخيفة تقشعر منها الأبدان، و تارة أنين و بكاء يمزق القلوب التي تعيرها اهتماما. قال تاج وهو يضغط على يدها و يحكم قبضته عليها، - لا تسمحي لما ترينه و تسمعينه يتسلل إلى عقلك، فيتحكم في قلبك. أغلقت عينيها وهي تضغط على يده. ثم ابتلعت ريقها متسائلة، - ماذا.. ماذا أفعل؟ ألقى نظرة سريعة على ملامحها المنكمشة، عينيها المغلقتين و شفتيها المطبوقتين بإحكام، فأدرك أنها ستفشل في ال**ود. أفلت يدها و لفّ ذراعه حولها، ثم سحبها إليه حتى شعر بكتفها يلامس ص*ره. توقفت عن المشي لحظة شعرت بيده تضغط برفق على كتفها الأيمن، و بكتفها الأيسر يلامس ص*ره، ثم رفعت عينيها إليه كالمذهولة. همس لها قائلا وهو يدرس الطريق أمامه، - استطعتُ أن أعبر الغيبهان يوم أتيت إليها أول مرة، بالتفكير في والدي. أبقيت رغبتي في انقاذه تَمُدني بالقوة، و جعلت من حبي له طاقة تحميني. التفت إليها، ثم قال دون أن يعير اهتماما إلى المسافة التي تكاد تنعدم بين أنفيهما، - فكري في ذكرى جميلة، في شخص تحبينه، أو أي شيء يجعل قلبك يطمئن. أومأت، ثم استمرا في السير وسط تلك الأصوات المرعبة، و الظلال تدور حولهما بسرعة خارقة مريعة، فأغلقت وردة عينيها و حاولت جاهدة تذكر أي شيء قد يسعدها و يهدئ من روعها، لكن مشاعرها المضطربة استمرت في تشتيت أفكارها، إلى أن وجّهَت انتباهها إلى ذراع تاج التي تضمها برفق، و بأصابعه التي تضغط على ذراعها برقة، فبدأت صور من الماضي تظهر أمام عينيها. كانت مشاهدا عنها برفقة أمها الراحلة. تذكرت الإطمئنان الذي كانت تشعر به كلما وضعت رأسها على ص*ر أمها الحنون، الأمان الذي تحس به و جسدها الصغير بين ذراعيها اللطيفتين، و الهدوء الذي يولد في قلبها كلما شعرت بأصابع والدتها تتخلل شعرها، فعاد إليها السكون، لدرجة أن الأصوات قد تلاشت شيئا فشيئا حتى اختفت، فانبسطت أساريرها و صارت كل خطوة سهل الإتخاذ. و بعد دقائق طويلة من المشي، شعرت بها وردة و كأنها بضع دقائق، وصلا إلى أرض قاحلة، و هادئة بشكل مريب، محفور على ترابها دائرة كبيرة ضخمة، تضُمّ وسطها تسع دوائر، و كل دائرة تُحِيط برمز غريب، و تحيط بتلك الأرض أشجار من كل الجوانب، و تصد عنها أشعة الشمس. وقف الإثنان خارج الدائرة المنقوشة على الأرض برفقة حصانيهما و الحمامة. قال تاج، - هذا هو المكان. - تحت هذه الأرض؟! أومأ لها، ثم دخل الدائرة و جلس على احدى ركبتيه، و مسح بكفه على الرمز الذي وقف عنده، فانشقت الأرض قليلا من وسطها، ثم وقف عن موقعه و تقدم نحو رمز آخر، جلس على ركبته، و مسح بكفه مجدد على الرمز كما فعل من قبل، فاتسع الشق على الأرض. استمر في القيام بنفس الشيء مع كل رمز باتباع ترتيب معين، حتى توسع الشق و كشف عن درج يؤدي إلى نفق تخفيه الأرض في أعماقها. عاد تاج إلى حيث ترك وردة، فوجدها مصدمومة الملامح، تحدق بالنفق المظلم في حيرة. وقف بجانبها ثم مد لها يده، و ابتسامة هادئة تعلوا محياه، - لندخل. ..... غدا سوف أضيف فصل في الصفحة الثانية للكتاب، و سيكون عن ملخص حكاية الملك قمر الزمان ابن الملك شهرمان الأصلية من كتاب الألف ليلة و ليلة. .....
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD